(دراسة تحليلية نقدية)
بقلم: الأستاذ الدكتور خالد عليوي العرداوي
قسم الدراسات السياسية-مركز الدراسات الاستراتيجية-جامعة كربلاء
حزيران-يونيو 2020
قبل مائة عام تقريبا استعمل الفيلسوف الأمريكي جون ديوي مصطلح “القديم المستمر” في كتابه الرائع (الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني)، ليقصد به مجموعة العادات والتقاليد الموروثة من الأجيال الماضية، والمستمرة بتأثيرها السلبي في أنماط التفكير والسلوك والقيم للأجيال الحاضرة، مما ينتج عنه إعاقة تحرير دوافع الأجيال الأخيرة ولجم طموحاتها؛ لخضوعها الواعي وغير الواعي لعادات وتقاليد الأسلاف.
هذا القديم المستمر هو ما يذهب بعض كتابنا إلى تسميته بـ “التراث”، وهي تسمية ملطفة كثيرا للمعنى، وقد تكون-أحيانا-مشجعة على عدم الالتفات في مجتمعاتنا إلى ضرورة نقد وغربلة ما وُرث من أسلافنا البعيدين، على الرغم من الحاجة الملحة إلى هذا النقد والغربلة.
إن استعمال مصطلح القديم المستمر بدلا من التراث ربما ينطوي على إيجابية كبيرة؛ كونه أكثر استفزازا وتحريضا للعقل المعاصر لحثه على لعب دوره الناقد فيما ورثه، للتحرر من سطوة أنماط تفكير الأسلاف وما أنتجته من عادات وتقاليد في ظروف وحاجات مختلفة تماما عن ظروف وحاجات الإنسان المعاصرة.
إن اثارة هذا الموضوع، في هذا الوقت، الغرض منه هو لفت الانتباه إلى التأثير السلبي الجسيم لبعض تقاليد وعادات الأسلاف في الثقافة المعاصرة لمجتمعنا العراقي، حتى إن مشاكلنا الكثيرة التي نعيشها اليوم في أنفسنا وأسرنا ومؤسساتنا وأنماط الحكم والإدارة لدينا سببها هيمنة تلك العادات والتقاليد، فتجدها تأسر عقولنا، وتقمع فعلنا، وتمنعنا من إنتاج عادات وتقاليد جديدة تتناسب مع مقتضيات عصرنا.
ولهيمنة عادات وتقاليد الأسلاف مظاهر متعدِّدة في حياتنا، إلا أنها تتجلى بصورتها الواضحة في ثلاث قضايا محورية، هي: السلطة، والغيب، والتغيير.
قضية السلطة
نقصد بالسلطة هنا السلطة بمفهومها الشامل ابتداءَ من سلطة الأب وصولا إلى سلطة الحاكم، وقد كانت هذه السلطة – في معظم الأوقات-أسيرة ثقافة الأسلاف، على مستوى التفكير، ومستوى السلوك.
فيما يتعلق بالمستوى الأول (مستوى التفكير)، تجد أن التفكير بالسلطة بوصفها آليات، وتحديد أدوار، ورسم تصورات، وتوقع نتائج… لازال يجري بالطريقة التي أدركتها وفهمتها أجيال الأجداد البعيدة والقريبة، فثقافة الذكورة تحدد سلطة الرجل داخل منزله وخارجه، وتحكم طريقة تفكيره اتجاه الآخر سواء أكان طفلا أم ابنا أم امرأة أم مختلفا في الدين والمذهب والعرق والرأي والمنطقة الجغرافية والمنزلة الاجتماعية.
ولم يخرج تفكيرنا بقضية السلطة عما فكر به أسلافنا؛ إذ مازالت المفردات ذاتها التي استعملوها تحكم كثيرا من تفكيرنا السياسي، بمعانيها ومقاصدها، ولو عاد أحد ما بالزمن إلى الوراء ألف سنة أو أكثر لما تفاجئ كثيرا إذا ما وجد أن طريقة تفكيرنا اليوم بالسلطة لم تتغير كثيرا عن الماضي، ففي الزمنين تكون السلطة أثرة لا خدمة، والاستحواذ عليها غنيمة، كما أن مفردات الخليفة، والبيعة، وطاعة الحاكم في الماضي توازي مفردات الرئيس، والانتخاب، وطاعة السلطة التي نستعملها اليوم، أو نرددها لتعطي المعنى نفسه.
نعم، قد يجد مفردات معاصرة، مثل: المجلس النيابي، ورئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء والديمقراطية وغيرها، ولكن طريقة التفكير بهذه المفردات وما سبقها لا تختلف كثيرا عن طريقة تفكير أسلافنا بالخلافة والحجابة وجمهور أهل الحل والعقد…
لقد ترتب على الخضوع الطويل لعادات الأسلاف الخاصة بالسلطة عوزا وقصورا بينا -حتى اللحظة-عن استيعاب ظاهرة الدولة الحديثة، أي دولة القانون والمؤسسات، فالتفكير السلطاني بالدولة مازال مستحوذا على جوهر تفكيرنا السياسي، وهذا ما أراد أن يقوله المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي عندما أشار إلى أننا ما زلنا نعيش عصر دولة الخلافة (الدولة السلطانية) ولم ندخل عصر الدولة الحديثة.
والدولة السلطانية لا تنتج رجال دولة حقيقيين إنما تنتج خلفاء وأئمة، ملوك واباطرة، غزاة وفاتحين، دعاة ومبشرين، وستحكم هذه العناوين، بشكل أو آخر، تفكير وسلوك علماء وحكام عصرنا الذين غالبا ما يرجعون إلى الأثر الفكري التاريخي لأسلافهم؛ من أجل اسباغ المسوِّغات وإعطاء التفسيرات لظواهر سياسية معاصرة لها خصوصيتها الزمانية والمكانية والثقافية، وستلعب هذه العملية دورها في تحديد معايير الخير والشر، والحق والباطل، والصواب والخطأ لا بمقاييس هذا العصر ولكن بمقاييس الماضي المنفصلة تماما عنه.
ولا غرابة، من ثمّ، أن تكتشف تناغم الاتجاه العام لتفكيرنا السياسي المعاصر بشكل عجيب مع الأفكار السياسية العالمية التي اشتركت مع ماضينا بقواسم الطاعة والخضوع وتقديس السلطان، والباس الدولة- أحيانا- لباس الحكم المقدس لتكون النتيجة واحدة، فجرى التناغم المثير للشفقة مع الشيوعية بنسختها الستالينية، والقومية بنسختيها الألمانية والإيطالية… فيما لم يجد الفكر الليبرالي الديمقراطي له مكانا مناسبا ليترعرع فيه، لا لأنه فكر فاشل- نحن هنا لا نزعم كمال هذا الفكر وخلوه من العيوب- وإنما لأن بيئتنا المسكونة بالتفكير الماضوي لم تسمح لهذا الفكر بالنجاح، ولم تعمل على مد الجسور معه، وعاندته بضراوة، وعملت على إفشاله في كل مرة ظهر فيها على المسرح هنا أو هناك بحجج ومزاعم شتى، فهذه البيئة لم تكن تدور اهتماماتها السياسية حول الإنسان : تحريرا وارتقاء، إنما كانت تدور حول الكليات والرموز: سلطانا وأرضا، دينا ومذهبا، قوما وعشيرة… وكانت تمجد هذه الكليات والرموز بطريقة عاطفية وحماسية مبالغ فيها، فحرصت على إحاطتها بأسوار منيعة عصية على النقد؛ لتسويغ الاستعباد والخضوع والقبول بالأمر الواقع، تحت شعار ليس بالإمكان أبدع مما كان.
وبالانتقال من مستوى التفكير بالسلطة، إلى مستوى سلوك السلطة، ستجد التأثير السلبي لعادات وتقاليد الأسلاف متربعا بشكل مذهل في سلوك مجتمعنا-الاستثناء لا يلغي القاعدة -وهذا الأمر واضح للعيان من خلال تمجيد منطق القوة في علاقاتنا الاجتماعية والسياسية، كقوة: الرجل في أسرته، والذكر على الأنثى، والكبير على الصغير، والاتجاه السياسي في مقابل اتجاه سياسي آخر، والرأي الفقهي إزاء رأي فقهي آخر، والعشيرة أمام عشيرة أخرى، والدولة إزاء دولة أخرى… وكأن الجميع يمارس التنمر على الجميع بطريقة أو أخرى.
والغريب بشكل تراجيدي في الموضوع، الذي لا يمكن تفسيره إلا من خلال الرجوع الى الماضي وما عاشه القدماء هو اجتماع نمطين عجيبين في مجتمعنا عند التعامل مع قضية إدراك القوة:
الأول-نمط العبودية والاستسلام للسلطة: سلطة الأب، شيخ الطائفة، شيخ العشيرة، والمسؤول الإداري، والحاكم وغيرهم.
الآخر-نمط التمرد والعنف والظلم لما تحت اليد من قوانين وأشياء وأفراد.
إنها عادات وتقاليد القوة الحمقاء غير العاقلة متجسدة في السلوك الفردي والاجتماعي، وهي لا تختلف كثيرا عن عادات وتقاليد الصحراء والغزاة والفاتحين والمستعبدين، والنتيجة تمزق المجتمع بصراعات مستمرة؛ ناجمة عن الاستعداد النفسي للتمرد والسلب عند ضعف السلطة القائمة، وعن نزعة القيادة الفردية – الغاشمة أحيانا- داخل الأسرة والعشيرة والمؤسسة الإدارية والحزب السياسي ونظام الحكم وبعض المؤسسات الدينية، لتقف القوانين الحديثة والمؤسسات الحديثة عاجزة تماما عن ترسيخ وجودها فرديا واجتماعيا، في مقابل تمدد دائم ومتجدد لأعراف وأحكام ومؤسسات الأسلاف التي تحاول تجديد نفسها بطريقة أو أخرى.
كما يبرز التأثير السلبي لثقافة القدماء في نظرة أفراد المجتمع الكثيرين إلى الزمن، فالمعروف أن الإنسان الحديث هو إنسان عملي في تعامله مع الأحداث المحيطة به، وشديد التطلع إلى المستقبل، لذا يعمل على توظيف كل ما لديه من مهارات بهدف إجراء تغيير ملموس في حاضره للحصول على مستقبل أفضل، وما اهتمامه بالماضي إلا على سبيل المتعة المعرفية أو التنقيب عن آثاره والاطلاع على قصصه.
ولكن بمقارنة ذلك مع سلوك أفراد مجتمعنا الكثيرين تكتشف أن معظمهم يعيشون الماضي بكل مآسيه وتناقضاته وحماقاته وعواطفه، بل يتحكم الماضي ورجالاته وصراعاته بهم تحكما لا فكاك منه، وهذا السلوك – غالبا-تجده لدى المجتمعات البدائية، والناجم عن عدم نضجها، وضعف قدرتها على التفكير والعمل باستقلالية وثقة.
ناهيك عما تقدَّم، لا تخلو لدينا طريقة اللباس، والتعامل مع الثروة -خاصة ام عامة-ومنظومة القيم، وأسلوب الكلام، وآليات حل المشاكل وما شابه من الأمور ذات العلاقة بسلوك السلطة عما عاشه أسلافنا في الماضي.
قضية الغيب
الغيب هو من أكثر القضايا التي شغلت اهتمام البشر منذ ظهورهم على وجه الأرض إلى الوقت الحاضر، ولن تجد شعبا من الشعوب بصرف النظر عن تقدمه الثقافي والحضاري إلا ولدى جميع أفراده أو بعضهم اهتماما بالأمور الغيبية.
ولكن الجدل كان وما زال محتما بين التفسير الميتافيزيقي (ما وراء الطبيعة) والتفسير الفيزيقي (الطبيعي) لما يواجهه الإنسان في حياته. وتبدو حدة هذا الجدل مرتبطة بشكل طردي بمدى ثقة الإنسان بنفسه، واستعداده لاستعمال عقله في إخضاع مشاكله وظروفه المحيطة لسيطرته وتوظيفها وتوجيهها لمصلحته.
لقد دفع القصور العقلي للإنسان البدائي عند محاولته تفسير حركة الأجرام السماوية، وظروف الطبيعة إلى ربط كل ذلك بالغيب، فكانت النتيجة تزاحم الالهة في حياته، كآلهة: الشمس، والقمر، والرياح، والماء، والأرض والسماء والعوالم السفلية، والشجر والمزروعات…وصولا إلى تناكح الالهة وتأليه بعض البشر، فكل ما استعصى فهمه، وصعُب تفسيره تم ربطه بالإلهة ومن ثم الاستسلام بعد ذلك إلى عطف هذه الالهة أو غضبها لتقرير مصير الإنسان.
إلا أنه مع تقدم البشر، واتساع مداركهم العقلية، بدأت الالهة تتساقط، فضاق أكثر وأكثر تحكمها بهم، وبدأ الإنسان يعطي أحكاما منطقية صحيحة تفصل بين ما هو خارج عن سيطرته تماما، وما هو قابل للفهم والسيطرة عليه والتحكم في مساره.
وقبل الذهاب إلى الحديث عن مدى تأثر المجتمع العراقي بقضية الغيب، لا بد من الإشارة إلى أننا نؤمن بوجود حدود يقتضي احترامها بين ما هو مرتبط بالغيب بشكل حتمي كـ (الخلق، الروح، الموت…الخ)، وبين ما هو مرتبط بوجود الإنسان ودوره على الأرض، فالذي يستسلم للغيب بشكل كامل هو إنسان قاصر أو مقصر، مسرف في خضوعه للغيب، وارتضى التخلي بمحض إرادته عن مسؤوليته في استعمال عقله بفاعلية لربط العلل الطبيعية بمعلولاتها الطبيعية.
ومن يفعل ذلك ليس جديرا بعبودية الله، بل هو غير جدير أن يكون إنسانا، وإني أجد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت محقا في تأملاته الميتافيزيقية عندما قال: “ليس نقصا في الله أن يكون قد أعطانا الحرية، لكنه نقص فينا أن نسيء التصرف بها”. فمن لا ينزع عباءة أسلافه البدائيين، ولا يؤمن بقدرته على صناعة تاريخه الذي يريده على الأرض، وتشكيل مسار حياته الذي يتمناه بدون انتظار أن تأتي السماء لتقرر له ذلك، يكون قد أساء تماما التصرف بالحرية الممنوحة له من الله، ولا يستحق أن يكون حرا.
على أي حال، فإن التأمل في علاقة المجتمع العراقي الحاضر بالغيب، يقود إلى نتيجة مفادها: إن الثقافة الغيبية لأسلافه البدائيين ما زال لها تأثير سلبي كبير فيه، لذا تجد تغييبا مدركا وغير مدرك للعقل في أحيان كثيرة؛ لمنعه من القيام بدوره الحقيقي في تسخير كل ما يحيط الإنسان من خير لمصلحته وسعادته، والاكتفاء بانتظار تدخل السماء للقيام بما هو من مسؤولية البشر.
هذا الاستسلام الأعمى للغيب لدى أفراد المجتمع الكثيرين ناجم عن سببين رئيسين، كلاهما يدلان على استمرار التحكم بهم من قبل عادات وتقاليد الأسلاف:
الأول-عجز عقولهم عن استيعاب دورها، والوجود المحيط بها، بكل ما ينطوي عليه من تاريخ، وأحداث وموجودات.
الثاني-الاسترخاء أو الكسل العقلي، واستسهال تفسير ما يحيط بهم، وما يقرر مصيرهم بربطه بالغيب، فمعروف أن الإنسان المتقدم يكون زاخرا بالنشاط العقلي؛ لتغيير قناعاته، وإعادة اكتشاف الحقائق المحيطة به، وتطوير آلياته؛ وجعل حاله أفضل من الأجيال التي سبقته. والنشاط العقلي بحد ذاته عملية مرهقة للغاية؛ لأنها تجعل الإنسان دائم التفكير بنفسه ومجتمعه ومحيطه، وهذا الأمر لا يقوى عليه الإنسان البدائي الباحث عن أبسط الإجابات والحلول، الذي تنحصر خياراته في أضيق وأيسر السبل.
وللخضوع للتفسير الغيبي في مجتمعنا مظاهر متعدِّدة، ومستمرة لأجيال كثيرة، ربما يقود كشفها بشكل صريح إلى مشاكل ليس من المناسب مواجهتها الآن، ولكن من هذه المظاهر، على سبيل المثال لا الحصر، تلك القصص التي تبرز هنا أو هناك، لطلب المدد الغيبي من جذع شجرة أو بئر ماء أو فتاح فال (مُنجم) لمساعدة أصحابها على: الزواج أو النجاح في الدراسة وغيرها أو الحصول على وظيفة أو الخروج من السجن أو حل مشكلة اجتماعية أو أسقاط حكم ظالم وغير ذلك.
وجميع هذه الأمور لن تجدها خارجة عن إرادة وقدرة البشر في تفسيرها وإيجاد معالجاتها المناسبة، فمثلا: إذا كنت مجتهدا سوف تنجح، فيما الكسالى فرص نجاحهم محدودة. وعندما يكون نظام الحكم والإدارة جيدين لن تواجه صعوبة في الزواج، أو الحصول على وظيفة شريفة، فيما أنظمة الحكم والإدارة الفاشلة تعني أن جميع حقوق وحريات الإنسان ستكون مفقودة، أو تتوفر بأدنى الحدود ومن بينها حقه في العمل وتكوين الأسرة. وكلما كنت سويا، كنت بعيدا عن الوقوع في المشاكل الاجتماعية ولن تضطر إلى دخول السجن، فيما الحمقى والمتهورون غالبا ما يتورطون بمشاكل جمة قد تقودهم إلى تفكيك أسرهم أو دخول السجن أو الإعدام. وعندما يجد الحكم الظالم من يؤيده ويدافع عنه، قطعا لن يزول بدعاء الناس، كما لن يسقطه السحرة والمنجمون، فالحكم الظالم يسقط فقط عندما يواجه شعبا واعيا لا يسمح له بإيجاد الأرضية الخصبة لينبت ويترعرع فيها…أي إن علة ومعلول وحلول هذه القصص وأمثالها لا يكمن في اللجوء إلى مُنجم أو جذع شجرة أو بئر ماء، ولكن يكمن في أمور أخرى تتطلب قوة إرادة الإنسان في استعمال عقله بفاعلية واجتراح الحلول العملية المناسبة لها.
ولعل من المناسب لتأكيد الفكرة أعلاه التطرق إلى سلوك أفراد المجتمع الكثيرين عند تعرضهم إلى جائحة كوفيد 19. ففي الوقت الذي كان العالم أجمع، والمؤسسات الصحية في العراق وبقية دول العالم تحذر من خطر الجائحة، كنت تجد بعض خطباء المنابر والمثقفين وغيرهم يعدون الجائحة إمّا كذبة إمّا إن الوقاية منها غير مفيدة؛ فالإنسان مصيره تحدده السماء، ومن قدر له الموت سيموت، أمّا من قدر له الحياة فسيحيا، ناهيك عن دعابة أن الفايروس لا يصيب أماكن العبادة، لذا لا تحتاج هذه الأماكن إلى التعقيم والحماية من التلوث ومن يقوم بذلك يعتدي على حرمتها وقدسيتها …نعم اكتشف كثيرون بعد ذلك إنه لم يكن على صواب، ولكن عدم الحذر، والإيمان الزائف بالغيب زاد من الخطر، الذي كان بالإمكان تجنبه لو تم احترام دور العقل وسُمح له بمعالجة الوباء بطريقة فنية صحيحة.
لقد خلقت الثقافة الغيبية لدينا مجتمعا اتكاليا وعاجزا، ومستسلما لتعاسته، وللإحداث التي تمر به، سواء أكانت من صنع البشر أم من صنع الطبيعة، ولن يتمكن هذا المجتمع من صناعة تاريخ جديد، وارتقاء حضاري يتناسب مع حاجات هذا العصر مادامت هذه الثقافة باقية على حالها، لذا لابد من تقويضها، وأول منطلقات هذا التقويض هو إدراك بدائيتها وعدم توافقها مع العصر الذي نعيش فيه.
قضية التغيير
واحدة من علامات التخلف في المجتمعات غير المتقدمة، التي يعرِّفها الاقتصاديون، بشكل خاص، هي الجمود والخوف من التغيير، لاسيما التغيير المهني، بمعنى بقاء ابن الفلاح فلاحا، وابن الحداد حدادا، وابن التاجر تاجرا وهكذا دواليك؛ لكون الأبناء يجري تلقينهم أنهم سيشعرون بأمان أكثر وهم يخطون خطى آبائهم، وفي الوقت نفسه لا يضطرون إلى مكابدة العناء في ابتداع أو اختيار مهن جديدة.
نعم قد يقول قائل إن هذا أفضل للأبناء وأرغد عيشا لهم، ولكن هذا يعني، في الوقت نفسه، توقف حياة المجتمع وعدم تقدمه إلى الأمام، بل وعدم إقدام بعضهم على المجازفة والمغامرة في سبيل اكتشاف آفاق جديدة، أو الارتقاء بحياته المعتادة، فلولا وجود حس المغامرة وتكبد عناء المجازفة لما تطور الإنسان من حياة الكهوف إلى العالم الرقمي.
هذا الجمود المهني والخوف من التغيير، لا يقل عنه ضررا وتخلفا الجمود الثقافي على مستوى القيم والأفكار وأنماط العيش، بمعنى تقوقع الإنسان حول مجموعة من الأفكار، وأنماط التفكير، والأعراف والقيم، بل والقناعات حول الذات والمجتمع والغير، يتم تناقلها من جيل إلى جيل، ليغدو الخروج عليها أو مجرد التفكير بالخروج جريمة اجتماعية لا تغتفر، ويتحول الضاغط الاجتماعي أو ما يمكن تسميته رهاب المجموع إلى قوة معيقة تأسر الفرد، وتضيق أدواره، وتحدد مسبقا مكانته الاجتماعية. لقد واجه الأنبياء والمصلحون عبر التاريخ عقبة جمود مجتمعاتهم، وكانت هذه العقبة من أخطر العقبات أمام فعلهم الإصلاحي، إذ كان الرد دائما عليهم من قبل أقوامهم إنها لن تتخلى عما كان يعبد الآباء والأجداد، بل كان نفورها منهم نابعا من دعوتهم إلى تغيير عادات وتقاليد وقناعات الأسلاف التي كانت سببا في انحدار المجتمع، وتكريس حالة الظلم والهيمنة والتفاوت الطبقي فيه. واليوم تجد أن مجتمعنا مبتلى بهذا الداء الخطير، أي الجمود وعدم قبول التغيير، كما تجد أن هذا الداء لم يعد مقتصرا على أنماط اللباس والكلام والأعراف والقيم السائدة في الأوساط التقليدية (أسرية، عشائرية، دينية …) بل تعداه إلى مؤسساتنا الحديثة، واعتنقه خريجو معاهدنا وجامعاتنا الكثيرون، وأوساطنا الاكاديمية والمهنية، فمن السهل عليك أن تفتش في أركان هذه الأوساط أو تجري استطلاعا عاما لها لتكتشف أنها تفضل الاحتكام للقبائل والعشائر والطوائف على حساب الاحتكام إلى الدولة والقانون، وأنها تدير حواراتها وجدالاتها في أحيان كثيرة بطريقة الآباء والأجداد بدلا من أنماط السلوك والقيم التي استقرت عليها الأمم المتقدمة، بل وصل الأمر إلى إدارة مؤسسات حديثة بعقلية الإدارة في الروابط والتجمعات التقليدية، فكانت النتيجة مؤسسات مشوهة في إدارتها وقيمها وسلوك العاملين فيها.
هذا الجمود ورفض التغيير، أو عدم السماح بحصوله، أو قبوله بشروط كابحة يعد اليوم من أخطر الأمراض الاجتماعية التي تهدد أمن مجتمعنا، وتمنع تقدمه، وتعرقل تطور مؤسسات الدولة الحديثة، وتساعد في الوقت نفسه على استمرارية خضوعه إلى عادات وتقاليد أسلافه، وإعادة إنتاج مشاكل وعلاقات وقيم وطموحات الأجداد حتى المتهور منها بلباس جديد، مرة بعد أخرى، دون أن ينسلخ المجتمع بطريقة آمنة من ماضيه، ليواجه بطريقة مبتكرة مشاكله الحاضرة، وتكوين علاقاته الخاصة، وإعادة تشكيل قيمه المناسبة لتطوره، والتطلع بطموحاته الجديدة نحو المستقبل.
لماذا استمر القديم في ثقافتنا المعاصرة؟
تبدو عملية تحديد الأسباب الكامنة وراء استمرار عادات وتقاليد الأسلاف السلبية في المجتمع من خلال هذه الدراسة المختصرة مهمة شاقة، فالحديث لا يقتصر على حالة محددة زمانا ومكانا من جانب، ناهيك عما يكتنف الأمر من تعقيد وتشابك وحرج – أحيانا-من جانب آخر. إلا أن هذه المهمة لا مناص منها، حتى لو تمت بصورة أولية، فالعيش في الماضي لا يمكن تحمله، فما بالك إذا تحكم هذا الماضي في أحلام وطموحات وعلاقات وروابط وخيارات الحاضر، قطعا ستكون النتيجة انتكاسة حضارية وثقافية مرعبة، وهذا ما يمكن مشاهدته بجلاء في مجتمعاتنا اليوم. لقد تظافرت عوامل متعدِّدة لتساعد القديم على الاستمرار والتحكم بحياتنا، بعضها كانت نتاج خيارات البشر المعاصرين، وبعضها الآخر قد تكون خارج نطاق سيطرتهم وارادتهم، يمكن تحديد أبرزها بما يأتي:
أولا-عدم اكتمال مشروع بناء الدولة الحديثة.
هذا العامل هو سبب ونتيجة في الوقت نفسه، فهو سبب؛ لأن عدم اكتمال مشروع الدولة الحديثة فسح المجال لكل ما هو تقليدي وبدائي – أفكار وقيم ومؤسسات وسلوك-بالتمدد وملئ فراغ سلطة الدولة الحديثة، وكل ما ضعفت هذه الدولة اشتد عود نقيضها وترسخ وجوده. وهو نتيجة؛ لأن وجود الثقافة التقليدية ومحركاتها البدائية عملت باستمرار على افشال مشروع الدولة، واجهاضه، وكيف لا تفعل ذلك، وهي لم تستوعبه ابتداء، وأحست بخطره، فقاومته بضراوة، وعملت على نسف مرتكزاته وسلبتها مشروعيتها وشرعيتها لدى المجتمع.
ناهيك عن تحدي الثقافة التقليدية، فإن مشروع بناء الدولة واجه تحديا آخر مبعثه ضعف الإيمان به من قبل دعاته على اختلاف توصيفاتهم الفكرية، وانتماءاتهم المؤسسية، ناهيك عن قلة كفاءتهم، وتحويل المشروع من مشروع لخدمة الإنسان إلى مشروع يجري توظيفه من الاوتوقراطيين والاوليغارشيين من طلاب السلطة للتحكم بمقدرات الناس واستعبادهم واخضاعهم باسم بناء الدولة.
لقد شكل عدم اكتمال بناء الدولة الحديثة طعنة نجلاء في جسد المجمع العراقي المعاصر، سرعت من عودة عقارب الساعة فيه إلى الوراء، فجعلته أرضا خصبة لكل ما هو بدائي وقديم، وأصابته بالتقهقر الثقافي والحضاري، ومنعت تجديده فكريا وسلوكيا. إن الفيصل النهائي في حسم الصراع بين الجمود والتغيير، التقهقر والتقدم سيكون هو مشروع بناء هذه الدولة على أسس إنسانية صحيحة.
ثانيا-وجود القوى الداعمة.
لا ترجع استمرارية القديم في حياتنا المعاصر إلى كونه مجرد أفكار تعشعش في الرؤوس، وعادات وتقاليد تحكم السلوك، بل هو – أيضا-شبكة معقدة ومتداخلة من المصالح، تدافع عنها قوى شديدة التماسك، لديها المهارة والقدرة العالية على التكيف لحماية أسوارها، ودرء المخاطر عنها. هذه القوى تمثلها السلطة القائمة بمختلف مسمياتها، وبعض المؤسسات الدينية، والروابط العشائرية والقبلية، ناهيك عن قوى خارجية تشجع القوى الداخلية المذكورة آنفا، وتستديم وجودها لسبب أو آخر. وعملت هذه القوى بتظافر مع بعضها بعضا، وبخطاب ديماغوجي معد بعناية؛ لحماية شبكة مصالحها وإجهاض أي توجه اجتماعي: فكري أم سلوكي أم مؤسساتي يسمح بتجديد منظومة القيم والعادات والتقاليد، فوظفت ثقافة الأسلاف بذكاء ومهارة للتحكم بتوجهات الرأي العام، وتأبيد حالة الجمود في المجتمع؛ لإدراكها إن نزع الاسمال البالية لمرتكزات ثقافة الأسلاف الكثيرة لن تكون نتيجته فقط إنتاج ثقافة جديدة عملية أكثر، تتناسب مع حاجات عصرها، ولكنه يعني –أيضا- انتقال مركز القيادة والسيطرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من هذه القوى إلى قوى جديدة، وهذا من المحرمات والخطوط الحمر التي لا يمكن التهاون معها.
لقد شهدت القوى أعلاه اهتزازات كثيرة عبر تاريخها الطويل، ولكنها في كل مرة كانت تخرج منتصرة؛ لأنها على الرغم من اختلافها مع بعضها، وتقاطعها أحيانا، استطاعت في اللحظات الحرجة التي هددت مصالحها أن تتكاتف وتتخادم فيما بينها لدفع التهديد واستعادة زمام المبادرة، داعمة مواقفها بحجج شتى خدرت عقول وعواطف الناس، والهبت مشاعرهم كما تفعل الحمية العشائرية بشعارات وخطابات ديماغوجية قوية الايقاع، ومدركة لما تريد الوصول إليه؛ ليبقى في النهاية الحال على ما هو عليه، كما يبقى كل جديد محتمل أسير إرادة وهوى هذه القوى، وما ترسمه من حدود القبول أو الرفض، وغالبا ما يكون القبول مقترنا بعدم تهديد المصالح المتوارثة.
ثالثا-لعنة الجغرافيا.
تأثير العامل الجغرافي على تفكير وسلوك الناس ليس ابتداعا جديدا، فلقد أشار إليه فلاسفة وعلماء اجتماع وسياسة كثيرون، حتى إنه عندما لفتت ظاهرة الصراع والتناوب بين البداوة والحضارة في العراق عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، فسرها بوجود الاحتكاك الدائم بين السهل العظيم والصحراء الشاسعة لهذا البلد، بكل ما ينطويان عليه (السهل والصحراء) من قيم وعادات وتقاليد تحكم ظروف القاطنين فيهما.
فالأرض ليست مستودعا للمصالح والثروات والتضاريس لتحكم وجود الإنسان القاطن فيها بما جاد خالقها عليها، وما فرضته على هذا الإنسان من حتميات ترتبط بسعة مساحتها، وموقعها الجغرافي، وطبيعة جيرانها، إنما الأرض هي أيضا مستودع لطاقات لا شعورية – إيجابية ام سلبية – تعود إلى الأجيال الغابرة التي عاشت عليها، فما واجهته تلك الأجيال من مخاطر وأهوال، وما شعرت به من سعادة وهناء، بؤس وشقاء، أحقاد وثارات، هزائم وانكسارات، أحلام وطموحات، تقاليد وعادات… كل ذلك يمكن توريثه لا شعوريا إلى الأجيال اللاحقة، لتضاف إلى تجربة الجيل السابق تجربة الجيل اللاحق وهكذا دواليك.
وهذا الأمر قد أشار اليه بذكاء عالم النفس السويسري ومؤسس علم النفس التحليلي كارل يونغ عندما تحدث عن الأنا (الشعور) والأنا العليا (اللاشعور)، وذكر أنه كما أن اللاشعور الفردي، الذي يشكِّل حصيلة خبرة وتجارب الفرد أثناء تنشئته الاجتماعية، يكون تأثيره أعمق وأكبر في حياته من الشعور، ليظهر هذا التأثير بشكل ملفت في مواقفه التي تحكم علاقته بغيره ومحيطه الخارجي، فإن المجتمع يمكن أن يحمل لا شعورا جمعيا، هو عصارة خبرة وتجربة الأسلاف، ويمكن لهذا اللاشعور الاستمرار في الوجود داخل المجتمع وينتقل من جيل إلى جيل، لتظهر تأثيراته الكبيرة في مواقف كثيرة تواجه أفراد المجتمع، عندما يواجهون التحديات، أو يعالجون مشاكلهم، أو يحلمون ويطمحون… ففي كل هذه المجالات قد يكررون لا شعوريا تجارب أسلافهم.
بناءَ على هذا الفهم، يمكن القول: إن بلاد ما بين النهرين، ومعها معظم بلدان الشرق الأوسط لم تنقرض شعوبها من الوجود، كما لم تهاجر بشكل كامل من أراضيها لتعيش في أراض جديدة تبتدأ منها تجارب عيش مختلفة، بل إنها استمرت في الوجود والتناسل على الأرض نفسها، لذا هي شعوب لم تتخلص بتاتا من لعنة جغرافيتها، وتجارب أجيالها القديمة فوق هذه الأرض. وما زالت هذه الشعوب مستودعا ضخما لذاكرة تاريخية مستمرة، وطاقة لا شعورية عظيمة ناتجة عن تجاربها أسلافها مع حكوماتها، وجيرانها، واديانها، وأعراقها، وطوائفها، وكافة وحداتها الاجتماعية.
هذا المخزون الضخم من تجارب الأجداد، جعل ردود أفعال الأجيال المعاصرة الكثيرة مشابهة تماما لردود أسلافهم، لذا ليس غريبا أن تجد العلاقات بين بلدان المنطقة تعيد نفسها بتكرار ممل لآلاف الأعوام، نعم بأشكال وصيغ وأسباب مختلفة، ولكنها بطريقة متماثلة، أو تشاهد صراعات اجتماعية حاضرة هي امتداد أو تكرار لصراعات حدثت قبل مئات وآلاف الأعوام.
إن الوجود المشترك والمستمر للشعوب نفسها على الأرض نفسها ساعد كثيرا على استمرار عادات وتقاليد وأنماط تفكير أسلافهم، وسمح بظهور ردود أفعال معاصرة مشابهة لأفعالهم، ولا يمكن الخلاص من تأثير هذا العامل إلا بإدراكه فعلا وبكل أبعاده، وعقد النية المصممة على تجاوزه بشكل أو آخر.
هل يمكن هزيمة القديم والحد من تأثيراته السلبية؟
مهما كانت قوة عادات وتقاليد الأسلاف، فإنها لن تكون منيعة بوجه التغيير، نعم قد تختلف مدة الانسلاخ عنها من مجتمع إلى آخر، ولكن في النهاية ستتهدم الثقافة القديمة، وتفسح المجال مندحرة أمام ثقافة جديدة-بصرف النظر عن طبيعة الأخيرة -إلا أن هذه واحدة من سنن الحياة البشرية على الأرض. لذا فما هو قديم وسلبي في ثقافتنا السائدة اليوم سوف يُهزم ولن يستمر إلى ما لانهاية، ولكن كيف سيتم ذلك؟
إن استراتيجية القطيعة مع الماضي التي تحدث بها بعض مفكرينا لا تبدو مناسبة، فحياة البشر ليست فلما سينمائيا لتقتطع منه ما تشاء وتبقي على ما تشاء، كما أنها ليست كتابا تستغني –أحيانا-عن بعض فصوله، وتركب مكانها فصولا جديدة. حياة البشر أكبر وأعقد وأروع من ذلك، إنها مشاعر وعلاقات، هزائم وبطولات، أفكار ورسالات، موت وحياة…صنعت وجودهم، ولا يمكن لعاقل أن يطالبهم بشطبها بسهولة، ولا يمكنه أن يقوم بذلك دون أن يتوقع عواقب ارتدادية وخيمة، ولو بعد حين.
وقد تكون استراتيجية نسف المعبد على ساكنيه هي الاستراتيجية الأكثر إغراء، بالنسبة لمن تتأجج في صدورهم الدوافع القوية، ويستعجلون التغيير-وكاتب هذه السطور واحد منهم احيانا -ولكن هذه الاستراتيجية هي ليست الاستراتيجية المثلى أيضا؛ لأن استفزاز منظومة متماسكة من القيم والعادات والتقاليد والمصالح والقوى التقليدية، غالبا ما يزيد وحدتها وعنادها، ويجعل محاولة هزيمتها ضربا من المحال أو مغامرة غير محسوبة العواقب.
وإزاء هذا الحال، سنكون مجبرين للبحث عن استراتيجية أخرى، وعندها سنجد أنفسنا مضطرين إلى الأخذ بنصيحة جون ديوي، الذي يرى: إنه عندما يكون الأساس الفكري الذي يعيد إنتاج المعابد باق كما هو عليه، فإن السياسة المناسبة الهادفة إلى التغيير تتطلب إعادة تكييف العادات والتقاليد القديمة مع أنماط سلوك جديدة، وعندها سيتم تحرير الدوافع الجديدة من سطوة القديم من العادات والتقاليد لتوليد عادات وتقاليد جديدة.
تبدو هذه الاستراتيجية أكثر ذكاء، وأقل مجازفة بأمن واستقرار المجتمع، لكنها تتطلب وعيا مزدوجا: الأول-وعي القوى التي تنشد التغيير؛ لتكون أكثر ايمانا به، فتبني أهدافها وتصوراتها على أساس الظروف الحاضرة لمجتمعها، واستخدام هذه الظروف كوسيلة لبلوغ الأهداف بعيدا عن الارتداد الأعمى إلى القديم من عادات وتقاليد الأسلاف.
والثاني-وعي القوى التي تقف بوجه التغيير، إنها تلعب بمصيرها ومصير مجتمعها، وتهدد مصالح الطرفين، عندما تغلق الباب بوجه التغيير القادم لا محالة، وإن عليها أن تطور أهدافها ووسائلها بما يتناسب مع حاجات زمنها، والتحرر التام من الخضوع والاستسلام لعادات وتقاليد الأسلاف التي عفى عليها الزمن.
إن الثقة بحتمية تغيير القديم المستمر تجد دلالاتها في مؤشرات كثيرة داخل المجتمع مثل تنامي روح المغامرة لدى الأجيال الشابة، واستعدادها للمجازفة، حتى الخطرة منها، بل إن تنامي معدل الطلاق داخل المجتمع الذي يتساوى في بعض الشهور مع معدل الزواج يمكن تفسيره – بعيدا عن المشاكل الاقتصادية والاسرية – بأنه بدايات تصدع في الثقافة الأبوية، وتمرد على قواعدها المألوفة من قبل شباب وشابات يبحثون عن أسس ثقافية جديدة تحكم علاقة الشراكة بينهم داخل الأسرة وفي ميادين الحياة.
كما أن محفزات تغيير القديم المستمر تلمسها من خلال أن القوى الدافعة باتجاه التغيير هي أكثر حضورا في حياتنا عما كانت عليه الحال في زمن أسلافنا، فعلى الرغم من كل المظاهر السلبية التي يشكو منها الكثير، إلا أن هناك مؤشرات إيجابية تشكل قاعدة انطلاق مهمة ومؤثرة للتغيير المستقبلي، ومنها: نظام التربية والتعليم الحديث المنزوع الصلة تقريبا بالنظام السائد في زمن أجدادنا من جهة، وتمدده المستمر في حياتنا من جهة أخرى، فقبل ما يقرب من مائة عام كان سكان العراق لا يتجاوزون الثلاثة ملايين نسمة، فيما لم يتجاوز من يعرف القراءة والكتابة منهم نسبة الـ 1 %، أمّا في العام 2018 فعدد السكان تجاوز الـ40 مليون نسمة، وفاقت نسبة من يعرف القراءة والكتابة منهم حاجز الـ 80% -نعم هي نسبة دون الطموح- ولكن من شأن استمرار وتطور نظام التربية والتعليم الحديث، مع رفده بالسياسات المناسبة أن يعيد تشكيل مناهج واليات التفكير لدى أجيالنا الجديدة، ويعيد تشكيل أنماط السلوك لديهم، بعد أن يكون قد أعاد ترتيب دوافعهم بما يتناسب مع حاجاتهم العملية بعيدا عن حاجات أسلافهم ومثالياتها غير المجدية.
ولا يقل شأنا عن تأثير التربية والتعليم الحديث، تأثير التوسع في المدينة، فمعروف أن للمدن سحرها، لاسيما المدن الحديثة التي لا تتوزع قطاعاتها حسب العشائر والأقوام، كما للمدينة قيمها الخاصة، وهي قيم المدنية والحضارة والتسامح ورقة الطباع والتضامن حول الحقوق والحريات. وفي مطلع الربع الأول من القرن العشرين لم يكن يتجاوز سكان المدن في العراق نسبة 12%، اما بقية السكان فهم إمّا بدو وإمّا سكان الريف، وكانت أكبر المدن وهي بغداد لا تتجاوز مساحتها بضعة كيلو مترات، وعدد سكانها يتراوح بين 163.000 الى 180000، ولكن في عام 2018 كانت نسبة سكان المدن 69.8% أمّا سكان الريف فكانوا 30.2% مع اختفاء وجود نسبة معتد بها من البدو، فيما تجاوز عدد سكان بغداد حاجز الــ 8 مليون نسمة.
إن هذا التمدد المستمر للمدن في العراق وغيره، غير مسبوق في تاريخ هذه البلدان، وهو يجري على أسس تختلف تماما عما اعتادته مدن القرون القديمة والوسطى، وهو يحفز السكان باستمرار على نزع ولاءاتهم وروابطهم التقليدية، ويرمي بهم في أحضان حضارة جديدة، ربما سيتململون في البداية لمدة من الزمن في محاولة التطبع عليها وتعلم عاداتها وتقاليدها لكنها في النهاية ستكسب المعركة وتحتويهم إن لم يكن في الجيل الأول والثاني، فالأمر محسوم في الأجيال اللاحقة.
كما أن للتقدم التكنلوجي تأثير كبير في هذا الموضوع، لاسيما ما يتعلق منه بوسائل الاتصالات الحديثة، التي يعد من أكثرها تأثيرا وإثارة شبكات الهواتف الحديثة، بكل ما يرتبط بها من وسائل للتواصل الاجتماعي، فهذه التكنلوجيا تعيد تنظيم عالمنا بشكل مذهل، كما أنها تسلب وبشكل مستمر القوى التقليدية قدرتها التاريخية على التحكم بعقول الناس.
فشبكات الانترنيت والهواتف الذكية وما يرتبط بها من قفزات تكنلوجية تشكل ثورة معرفية رائدة ستأخذ المبادرة من الأسرة والمدرسة والجامعة، ومن المسجد والكنيسة والمعبد، ومن العشيرة والسلطة في توجيه الناس عموما، والشباب بشكل خاص باتجاه أنماط سلوك وتفكير جديدة، واهتمامات ورغبات مختلفة.
ويكفي للدلالة على قوة هذه الشبكات أن تعرف إن 33.5 مليون عراقي لديهم خط هاتف نقال عام 2015، أي بنسبة 90.6 من كل 100 شخص، منهم 5.7 مليون كانوا يمتلكون هواتف ذكية، وقد ارتفعت هذه النسبة عام 2018 الى 36 مليون يمتلكون خط هاتف، أي بنسبة 94 %، منهم 7.709.000 يمتلكون هواتف ذكية.
ولم تعد الهواتف الذكية مجرد وسيلة اتصال، بل هي أداة تغيير ثقافي تكسر حدود الروابط التقليدية من الأسرة إلى الدولة، كما تكسر القيود الثقافية، والضوابط الاجتماعية بكل ما تعارفت عليه من قيم وعادات وتقاليد، وتأثيراتها الثقافية ما زالت في بدايتها في مجتمعاتنا، ولكنها كانت ملموسة للغاية في تفجير الثورات، وحشد الجماهير، واندفاع الافراد بجرأة لممارسة النقد والتعبير عن الشكوى… وستزداد هذه التأثيرات مستقبلا بشكل قد نعجز عن تخيله الآن.
ناهيك عما تقدم، فأن زيادة حضور منظمات المجتمع المدني، وتخلصها من أعبائها الفكرية والاجتماعية وتحررها التام للعمل في خدمة المجتمع، وتغيير قناعاته، سيكون له نتائج إيجابية كبيرة لهزيمة ما هو قديم معرقل.
فهذه المنظمات من طبيعتها، وخصوصية المنتمين إليها، والأهداف التي تسعى إليها يمكنها إذا ما نجحت في الاتحاد فيما بينها، باتجاه التضامن المستمر في القضايا محل اهتمامها، فإنها ستلعب دورا فعالا للغاية لإحداث تغيير ثقافي مهم، بل وتغيير سياسي، كما حصل في ثورات الألوان في أوروبا الشرقية مطلع الالفية الثالثة (جورجيا، صربيا، وأوكرانيا)، وكما حصل في ثورات الربيع العربي منذ عام 2011، وكما حصل وسيحصل في جميع البلدان المتقدمة، إذ يمكن لهذه المنظمات أن تعيد صياغة الرأي العام باتجاه القضايا المطروحة، كما يمكنها كسب ثقة الناس، وإضعاف تأثير المؤسسات التقليدية عليهم.
نعم تعرضت هذه المنظمات في العراق بعد عام 2003 إلى انتكاسة؛ لأسباب سياسية أو مالية أو أخلاقية لكن ظهورها وتناميها العددي بحد ذاته مؤشر إيجابي لا يمكن إغفاله، وستكون لها شأن كبير في المستقبل.
هذه المؤشرات وغيرها مما لم نلفت الانتباه إليه في هذه الدراسة، هي قوى حقيقية دافعة باتجاه التغيير، وهي معاول قوية تضرب بقوة جدار القديم المستمر، وهي لن تلبث طويلا حتى تُجهز عليه تماما، ولكن ما لم نحدد تماما أهداف التغيير واتجاهاته، فقد تكون النتيجة فوضى تزيد انقسام المجتمع، وتصيبه بصداع وحيرة لا يفهم كيف يخرج منها.
أخيرا، لا أزعم أن هذه الدراسة تناولت الموضوع من كل جوانبه؛ لأن موضوعا بهذه السعة والعمق والتعقيد يحتاج إلى جهود كبيرة ومخلصة يبذلها المختصون المخلصون والواعون بعلوم الاجتماع والنفس والتاريخ، ولا سيما تاريخ الأديان، والسياسة والتربية والتعليم وغيرهم للوقوف على أبعاده المختلفة، ولكن يمكن تشبيه الدراسة بأنها مجرد حجر تم القاؤه في بحيرة كبيرة من المياه الراكدة، عسى أن يفتح شهية المفكرين والباحثين إلى ما هو أفضل مستقبلا.