م.م. حسن فلاح عبد المهدي-باحث في العلوم السياسية
آب-أغسطس 2020
خلفت الأوبئة على امتداد التاريخ آثاراً فتكت بالإنسانية وخلقت تداعيات وتحولات اوعزت للامعقول أن يكون معقولاً واللا ممكن أن يكون ممكناً، ولازالت احصائيات جائحة كورونا تتشكل بمستويات ونسب مفاجئة مما يعقد إمكانية التكهن بمخرجاتها، إذ يطرح عالم السياسة “مارك ليلا” في أحد مقالاته تساؤلاً مفاده: (ما مدى اختلاف المستقبل؟) معلقاً: (يجب أن نسأل فقط عما نريد أن يحدث، وكيفية تحقيقه، بالنظر إلى قيود اللحظة)، فهي ظاهرة ولدها المجهول حملت ثلاث عناصر جوهرية هي عدم الاستعداد المسبق والصدمة والاختلاف في كيفية التعامل معها رغم انها عدو واحد مشترك وفق رأي “أ.د. كاظم هشم نعمة”.
فمن الناحية السوسيو-ثقافية والسيكولوجية فرضت الجائحة نمطا مجتمعياً مغايراً للعالمية، يجسد تحولاً عكسياً من التنوع إلى النمطية ومن الكتلة الشاملة إلى كيانات مفككة تسعى لحماية استقلاليتها وضبط حدودها، وستحفز عمليات الهدم والتجديد الاجتماعي كل مجتمع ليكون منظومة قائمة بذاتها، وسيعود الولاء للبنى الاجتماعية ذات الطبيعة المكانية مخلفةً موجة ارتجاعية غير متوقعة من اللا مكانية إلى المكانية، ذلك يعزز مضامين سيكولوجية ليست أقل من شحنة متفجرة، إذ يكون التغيير المتسارع محاولة قسرية لإيجاد توازن بين الجديد والمألوف من المواقف بعد الجائحة.
ويعرف العالم الأميركي “آلفن توفلر” (صدمة المستقبل): (انها العجز المذهل عن التكيف الذي يأتي في ركاب الميلاد المبتسم للمستقبل)، فهي صدمة ناشئة عن عملية احلال وتركيب لثقافة جديدة بحيث يكون المجتمع والعالم بين قابلية التكيف للتغيير أو الرفض والمقاومة للتكييف القسري، فالناس يعيدون تعريف أنفسهم إذا ما شعروا بتهديد خارجي (حرب ام وباء) أي إعادة صياغة مفاهيمية وقيمية ضمن جدليات التحدي أو التغيير وهو ما يعرف في علم النفس بـ(لحظة الزوبعة)، فقد أدت انعكاسات الجائحة ومخرجات السياسة العالمية إلى تحولات إيديولوجية دفعت نحو تحشيد ذهني وعقائدي جديد لإعادة النظر بالمعتقدات الرأسمالية وقد أماطت اللثام عن كونها أزمة رأسمالية نيو ليبرالية فالأخيرة خلقت تفاوتاً مخيفاً وكرست أوليغارشية عالمية أفقرت العالم وزادت الأغنياء تخمةً.
يتنامى تخوف اجتماعي كبير من تفشي موجات أخرى للجائحة رغم الجهود العالمية لحصرها فضلاً عن ارتباك الوضع العام للحياة واحتفاظ الحكومات بسلطات الطوارئ التي يصحبها تقييد للحريات المدنية وتفاقم مشاكل الصحة النفسية وعدم استقرار اجتماعي تدهور الأوضاع الاقتصادية وانخفاض الاجور والانقسامات والتشتت المجتمعي، فضلاً عن تهديد استمرارية الأنظمة التعليمية والتربوية وفشلها في التكيف مع مطاولة عمر الجائحة وافرازها لنتائج غير مقبولة ستولد تغذية عكسية مدمرة لمخرجات التعليم.
نحن اليوم بحق أمام مرحلة تحول دراماتيكي لإعادة مفهوم مجتمعات الماضي والحاضر المرتكزة على البقاء وتحييد مجتمع المستقبل سريع التشكيل المرتكز على مفهوم الزوال، فهي صراع محتدم لإعادة النظر بالموقوتية الجديدة كما يسيمها “توفلر” ضمن حركة التغيير المتسارعة المتمخض عنها عدم الثبات الشعوري أو المزاجي وطبيعة ديمومة العلاقات الاجتماعية، فقد فرضت الجائحة وكرست التزامات سلوكية واسلوبية عكست ادراك الناس لبراغماتية الموقف المغرقة واحساسهم بالانتماء والقدرة أو العجز عن مواجهة القادم أو المؤجل، فهو استنزاف للمواقف واستهلاك مضطرد للزمن يعززه التمدد والتغيير المتزايد للبيئة الذي سيرهق القابلية البشرية على التكيف أو بالأحرى كبحها عن استيعاب تدريجي للتكييف القسري في المستقبل وهذا يتعامد مع ما طرحه العالم “وليام اوجبورن” في نظرية (الهوة الثقافية) فالإنسان بطيء بالتكيف والبيئة سريعة التغيير ترهص علاقة عكسية فتُكّون هوة مطردة الاتساع.
أما جيو سياسياً يتم إعادة التفكير بمفهوم الدولة على مستويي السياستين الداخلية والخارجية واحياء روح الدولة القومية بماديتها ورمزيتها، قد يصاحب ذلك عدم استقرار سياسي إذ تجسد الجائحة اختباراً غير عادي لقدرات الدول وامكاناتها وكشف فاعلية أنظمتها السياسية والاقتصادية أمام شعوبها ومن ثم إعادة تقييمها، واحتمالية تفجر اضطرابات داخلية عنصرية أو إثنية مما سيخلق جواً من عدم اليقين بالجهود الحالية والمستقبلية لإدارة الصراع.
وباتت الدولة محور السياسة الدولية كلاعب أساسي وحيد أمام تراجع دور اللاعبين الثانويين سواء منظمات او تكتلات إقليمية ودولية، والاقبال على مرحلة من التنافس على الموارد والنفوذ فضلاً عن معادلات جديدة لموازين القوى الاقليمية وحدوث شرخ بين مستويات القوة التقليدية وغير التقليدية لعدم التماثلية كما يسميها “أ.د.كاظم هاشم نعمة”، واحتمالات تراجع التعاون الدولي وفقدان الثقة او فك الارتباط، وقد نشهد سباق تسلح لانعاش الاقتصادات عبر استثمار التقدم التقني في تصنيع الأسلحة، مع ضرورة الانتقال إلى تعزيز الاعتماد المتبادل الذي على ما يبدو ستكون الصين رائدته عبر توسيع لصفقات الحزام والطريق وتأسيس مشاريع هيكلية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وزيادة فاعلية الدور الصيني وتأثيرها في البنى التحتية العالمية وهو تفوق استراتيجي في استثمار الفرص، وستُسرع الجائحة من الانتقالية الصينية إلى عالم جديد رغم استمرارية القيادة العالمية الأميركية، وإذا ما سلمنا بفرضية الحرب البيولوجية الخفية في مطامحها وطواحين صراعها اقتصادية في حرب غير تقليدية لم تحدد من المنتصر او المنهزم، فنحن نشهد أميركا أولاً والانكفاء الداخلي مع المحافظة على قطبيتها الأحادية، والصين أولاً لكن على المستوى الدولي في المستقبل القريب.
وجيو اقتصادياً يمر العالم بمنعطف تاريخي حرج عزز من خلق إيكولوجيا سرعت بالتغييرات الهيكلية وعرت العالم الرأسمالي وأدت إلى تقويض مصداقية الديمقراطية الليبرالية الغربية كونها غير قادرة على التعامل بفاعلية واستيعاب الأزمات، مما ادى إلى اعادة تقييم إيديولوجية آنية لحظية، فقد أشار السيناتور الأميركي الديمقراطي “بيرني ساندرز” إلى أن هنالك تحرك نحو تطبيقات الفكر الاشتراكي مثل الرعاية الصحية وتأميم المستشفيات الخاصة التي باتت تترسخ في كثير من الدول مثل المملكة المتحدة والدنمارك واسبانيا فضلاً عن التعليم المجاني عبر زيادة السيطرة الحمائية، وارتفاع صوت الشعبوية في الولايات المتحدة وشروعها لحماية الشركات الصغيرة ومصالح المواطنين، مما يكشف عن ملامح ترجيح اشتراكية الدولة على حساب رأسمالية الدولة، إذ عزز الكساد العالمي فكرة دعم الحمائية، وقد يتراجع التكامل الاقتصادي بشكل اكبر داخل التكتلات الاقليمية والدولية لينحسر داخل الدولة لاستثمار المميزات الجيوبوليتيكية ولينعكس سلبا في تناقص المساعدات الخارجية وتسبيب كوارث انسانية كأزمات الامن الغذائي، وارتفاع مستويات الفقر وتقليص حجم التجارة والتعاملات المالية العالمية، واحتمالية تأميم بعض الصناعات الاستراتيجية في الوقت الذي سينخفض فيه الطلب على الطاقة في ظل التحول الى الاقتصاد الرقمي واقلمة توريد الصناعات وارتفاع مستوى البطالة الهيكلية بين الغاء الوظائف والقلق من الركود طويل الأمد.
وفقاً لما تقدم تبقى مسألة التكييف القسري حتمية لا مفر منها مع مخرجات عالم ما بعد الجائحة، فصدمة المستقبل التي تتدفق موجاتها الآنية والما بعدية للجائحة تعتمد ردة الفعل على المستوى الفردي والمجتمعي والدولتي، وقد نشهد تغيرات وتحولات في معادلات موازين القوى ومزاحمة للأدوار مع إعادة تعريف مفهوم القوة، لكن لاتزال السياسة العالمية أحادية القطب في ظل عدم وجود قوة تستطيع تحمل العبء القيادي للعالم، ورغم اخفاقات النظام الرأسمالي وفشله في الاختبار الذي أرسته الجائحة لازال قادراً على امتصاص الهزات وإعادة اطلاق ارتداداتها افقياً وعمودياً على العالم وهذا ما يفسر استمراريته للآن، وان العودة المباغتة لنفس القومية والشعبوية ما هي الا ردة فعل آنية شعورية او لا شعورية تطلبتها الكارثة الوبائية في لحظة وجودية عارمة متشبثة بكينونة البقاء والملاذ الامن لكنها ليست حتمية بل مرحلية تعتمد مصاولتها على الزمن المطلوب للتخلص من تداعيات الجائحة وهذا يعتمد محوري القدرات والإمكانات.