د. فراس حسين علي الصفار
رئيس قسم ادارة الازمات مركز الدراسات الاستراتيجية- جامعة كربلاء
9 تشرين الثاني 2020
يعود جو بايدن إلى البيت الأبيض ليقود الولاياتالمتحدة في خضم أزمة اقتصادية واسعة النطاق بعدما هزم الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، أن التطور الاقتصادي الحالي يثير لدى نائب الرئيس السابق مشاعر عاشها من قبل. وبشكل مختلف عن عام 2008، عندما انتخبت البلاد باراك أوباما رئيسا وبايدن نائبا له في وقت كان العالم يكابد فيه أزمة الرهن العقاري وانهيار بنك الاستثمار ليمان براذرز، فإن التراجع الاقتصادي الحالي ربما تجاوز بالفعل أسوأ مراحله”. وأوضح دونالد كون، الذي كان نائبا لرئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي خلال الأزمة المالية بين 2007 و2009، مستعيدا ذكريات ما حدث “كنا ما زلنا نسقط في الهاوية”. كانت تلك الأزمة أسوأ تراجع تشهده الولايات المتحدة منذ الكساد العظيم الذي حدث في ثلاثينيات القرن الماضي إلى أن طغت عليها الأزمة الحالية. وعندما تولى أوباما وبايدن السلطة في كانون الثاني 2009 كان معدل البطالة ما زال في ارتفاع، لكنه لم يصل إلى ذروته إلا بعد مضي عشرة أشهر من ولايتهما الأولى عندما بلغ 10 %. وساعد بايدن (الذي أمضى أكثر من 25 عاما في الكونجرس قبل أن يصبح نائبا للرئيس) على سن حزمة تحفيز قيمتها 800 مليار دولار، ولم يتراجع معدل البطالة في الولايات المتحدة عن مستواه المسجل عند انتخاب أوباما وبايدن إلا بعد مرور عام من ولايتهما الثانية. والآن عاد المشهد الاقتصادي الصعب من جديد، إذ يمر الاقتصاد الأمريكي بركود، وفقا للتعريف الفني وهو أصغر 3.5 %، عما كان عليه في بداية 2020 حتى بعدما حقق نموا قياسيا مرتفعا في الربع الثالث من العام. ويبقى ملايين الأمريكيين دون عمل خاصة في قطاعات المطاعم والسفر والترفيه، ودون أي فرص توظيف تلوح في الأفق، وضمن أسوأ الاحتمالات، قد يؤدي التدني الحالي إلى اتساع الطبقة الدنيا في أمريكا، التي يغلب عليها العاملون من النساء والأقليات. ويبقى فيروس كورونا يتفشى في غالبية أنحاء الولايات المتحدة، وستؤدي مخاوف المستهلكين وإجراءات الإغلاق الجديدة إلى كبح فرص النمو الاقتصادي. هذا ومنذ اندلاع الأزمة الحالية بإغلاقات آذار الماضي، التي فُرضت لمنع انتشار الفيروس، قدمت الحكومة الاتحادية حزم تحفيز بتريليونات الدولارات، وانخفض معدل البطالة بشدة إلى 6.9%، من ذروة نيسان الماضي البالغة 14.7%. ومن المرجح أن ينخفض المعدل أكثر خلال العام المقبل. وتنتظر الرئيس الأمريكي المنتخب الجديد جو بايدن عدة تحديات اقتصادية لعل اهمها محاربة جائحة كورونا، اذ ستحظى بالأولوية في برنامجه نظرا لما تسببت فيه من خسائر بشرية واقتصادية. وقال في خطاب إعلان النصر إن إحياء الاقتصاد لن يكون دون السيطرة على فيروس كورونا. وأضاف أنّه سيُشكّل اعتباراً من الإثنين 9 تشرين الثاني 2020 خليّة أزمة خاصّة بفيروس كورونا المستجدّ، تضمّ علماء وخبراء، لمواجهة التحدّي الأبرز الذي ستجد إدارته نفسها أمامه منذ اليوم الأول لولايته. وقال المرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن، إنه لن يرضى حتى يعيد بناء الاقتصاد الأمريكي ليحقق النفع لكل مواطن في الولايات المتحدة الأمريكية. وكتب، على “تويتر”، “الحقيقة أن الاقتصاد الأمريكي لم يكن يعمل من أجل الناس منذ وقت طويل قبل الأزمات التي ألمت به”. وتابع: “لهذا السبب لن يقتصر عملنا أنا وكامالا هاريس، المرشحة لمنصب نائب الرئيس، على الإصلاح الاقتصادي وإعادة الأمور إلى ما قبل الأزمات الحالية، وإنما سنعيد بناء الاقتصاد حتى يصل النفع إلى كل أمريكي”. وإبان الترشح للرئاسة كان البرنامج الاقتصادي للرئيس الأميركي المنتخب، يشتمل على مجموعة من الملفات الاقتصادية، من بينها هذه الملفات إعلانه عن خطط لرفع الضرائب على الشركات والأثرياء وخطة للتحول نحو الاقتصاد النظيف ألقت بظلالها على شركات النفط الصخري في أميركا والتي تمثل جانبا هاما في مشهد الاقتصاد الأكبر بالعالم، إضافة إلى طريقة تعامله تجاريا مع الصين. ويشير تقرير لموقع “ماركت ووتش”، إلى أن خطة بايدن الاقتصادية قد تتلقى ضربة حال سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى عرقلة مشاريع القوانين التي يعتزم الديمقراطيون تقديمها لتنفيذ تلك الخطة. ويقول مارك زاندي كبير المحللين في وكالة موديز لصحيفة USA Today الأميركية إن سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ تعني نمو اقتصادي متوقع حول مستويات 3.5% فقط مقارنة مع نمو متوقع 3.8% حال حكم بايدن مع سيطرة ديمقراطية. وعلى صعيد خلق الوظائف للاقتصاد يقول زاندي إن سيطرة الجمهوريين ستعني خلق نحو 11.6 مليون وظيفة خلال فترة حكم بايدن الأولى مقارنة مع 14.1 مليون وظيفة متوقعة حال سيطرة الديمقراطيين على المجلس. ومن بين الملفات الهامة الاخرى ملف الضرائب، إذ يتجه الرئيس المنتخب لرفع معدلات الضرائب على الشركات من مستويات حالية تبلغ نحو 21% إلى نحو 28% ما من شأنه أن يؤثر على أرباح الشركات العاملة بالبلاد. وتشير وكالة موديز إلى أن رفع الضرائب الذي يخطط له بايدن من شأنه أن يدر نحو 4 تريليونات دولار إضافية للاقتصاد الأميركي خلال السنوات العشر المقبلة. ويخطط بايدن أيضا لرفع الضرائب على الأثرياء من مستويات حالية تبلغ نحو 37% إلى نحو 40%. ويقدر بنك الاستثمار العالمي غولد مان ساكس أن خطة رفع الضرائب التي يتوقع أن يطبقها بايدن على الشركات وذوي الدخل المرتفع ستخفض العوائد على مؤشر S&P 500 من مستويات حالية تبلغ نحو من 188 دولاراً للسهم الواحد إلى 171 دولاراً للسهم وهو ما يعني انخفاض قيمة المؤشر بنحو 9%. اما في ملف الطاقة فتمثل خطة بايدن للتحول نحو الطاقة النظيفة ضربة لشركات الطاقة الأميركية التي تئن بالأساس في بيئة منخفضة لأسعار النفط ومصاعب تشغيلية جمة. ولدى بايدن خطة تقدر بنحو تريليوني دولار لمكافحة التغير المناخي وتقليل انبعاثات الكربون. ولكن بيت الأبحاث العالمي Morningstar يشير إلى أن نتائج تلك الخطة لن تظهر آثارها على الفور على قطاع النفط مع حقيقه مفادها أن التحول نحو الطاقة النظيفة لن يؤثر في الطلب على الوقود الأحفوري بالمستقبل المنظور. وخلال فترة حكم ترمب تراجع مؤشر S&P لشركات قطاع الطاقة الأميركي بنحو 14.8% فيما بلغ العائد على مؤشر S&P 500 خلال تلك الفترة نحو 14%. اما على الصعيد الخارجي فإن الولايات المتحدة يطاردها شبح الصين المهيمنة تكنولوجياً، بالنظر لوضع الصين الحالي، ليس هناك الكثير مما يمكن للولايات المتحدة فعله لعرقلة تقدمها، ناهيك عن إيقافها. اذ إن المحرك الحقيقي لنجاح الصين هو معدل الادخار العالي – ما يقرب من 40٪ من الناتج المحلي الإجمالي ، أو أكثر من ضعف المعدل في الولايات المتحدة وأوروبا. وهذا يعطي الصين موارد ضخمة للاستثمار في إرساء أسس القيادة التكنولوجية. والجدير بالذكر أن الحكومة الصينية قد قامت باستثمارات هائلة في تحسين كل من كمية ونوعية التعليم. وتعد العلاقات التجارية الموضوع الاهم بين الطرفين، اذ انها تعني دائمًا تبعية ثنائية الاتجاه. وبينما قد ترغب الولايات المتحدة في فكرة “التحرر” من الصين بقطع العلاقات التجارية ، فإنها ستدفع تكلفة عالية مقابل “تحرير” الصين منها. اذ يوفر عزل الموردين الصينيين عن السوق الأمريكية دعمًا ضمنيًا للمنتجين ذوي التكلفة الأعلى. في النهاية ، سيكون تأثير خفض التجارة الثنائية معادلاً لتأثير تعريفات ترامب الفاشلة ضد الصين، التي تعني ضريبة ضمنية على المستهلكين الأمريكيين. وقد يؤدي تقييد وصول الصين إلى بعض التقنيات الأمريكية الرئيسية إلى إحداث فرق على المدى القصير ، ولكن من غير المرجح أن يؤدي إلى إبطاء تنمية الصين بشكل ملحوظ. إن الحجم الهائل للموارد البشرية والمالية التي ستنشرها الصين على مدى العقد المقبل يعني أنها في وضع جيد للسيطرة على العديد من قطاعات التكنولوجيا الفائقة ، مع أو بدون مدخلات أمريكية. ومن ثم يجب على الإدارة الأمريكية المقبلة أن تقبل الصعود الاقتصادي والتكنولوجي المستمر للصين. قد لا تحب فكرة تجاوز الصين للولايات المتحدة – وهي علامة فارقة من المحتمل أن يتم الوصول إليها في غضون العقد المقبل. لكن محاولات أخرى لدرء هذه النتيجة لن تكون مجدية فحسب ، بل ستكون مكلفة للغاية أيضًا. أخيرًا ، يتميز جو بايدن بصفته سياسيا ثابتا لا يميل إلى إثارة الصراعات في السوق السياسية العالمية، وهو بالضبط ما تحتاجه دول العالم في ظل أزمة كورونا وتداعياتها الاقتصادية. وعلى الرغم من فوز بايدن في التصويت الشعبي ، لا يزال الناخبون الأمريكيون منقسمين بشدة. من غير المرجح أن تنجح دعاوى ترامب القضائية التي تدعي تزوير الانتخابات ، لكن محاولاته لإقناع الناخبين الجمهوريين بأن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات سيكون لها على الأرجح تأثير دائم. إذا نجح ترامب في نزع الشرعية عن النتيجة في نظر عدد كافٍ من الناخبين ، فسيواجه بايدن المزيد من المشاكل في تأمين الدعم لسياساته من الجمهوريين المنفصلين وممثليهم المنتخبين. علاوة على ذلك ، سيواجه بايدن أيضًا تحالفًا ديمقراطيًا منقسمًا قد ينفجر في أي لحظة في معركة بين اليساريين والمعتدلين والمستقلين المناهضين لترامب. ومع ذلك ، فإن هزيمة ترامب هي انتصار للديمقراطية الأمريكية. اذ كان ترامب من أكثر الرؤساء إثارة للانقسام وتدميرًا في العصر الحديث. إن إخفاقه في الفوز بولاية ثانية ، على الرغم من المزايا العديدة لشغل المنصب ، سيرسل إشارة إلى السياسيين الطموحين بأن الشعبوية لا يمكن ان تستمر كثيراً . الهوامش