رئيس الدولة في الانظمة البرلمانية المتطورة بين السلطة واللامسؤولية

      التعليقات على رئيس الدولة في الانظمة البرلمانية المتطورة بين السلطة واللامسؤولية مغلقة

الدكتورة روافد الطيار
باحثة في قسم الدراسات القانونية – مركز الدراسات الاستراتيجية
15 كانون الاول 2020
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
((وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ))*صافات /24
تمتاز الانظمة البرلمانية الملكية والتي ظهرت في بريطانيا مهد الانظمة البرلمانية التقليدية بعدم مسؤولية رئيس الدولة السياسية تحت قاعدة ( الملك يحكم ولا يخطئ) والتي تعني عدم مسؤولية رئيس الدولة سياسيا أو جنائيا ولا حتى مدنيا ، وبالتالي فهو غير مسؤول امام الشعب ولا حتى أمام البرلمان ، وعليه لايستطيع البرلمان أثارة مسألة سحب الثقة بحق رئيس الدولة وكذلك لايحق للشعب المطالبة بعزله أو أعادة اختياره، وأنما المسؤولية تقع بأكملها على الوزراء والتي تحولت بعد فترة زمنية وعدد من المواقف والصراعات بين الملك والحكومة من جهة والملك ومجلس العموم من جهة أخرى مما ترتب عليه ظهور مسؤولية جديدة تقع على عاتق الحكومة دون الملك مع انعدام كافة صلاحيات الملك الاساسية وانتقالها للحكومة.
تبنت العديد من الدول ، النظام البرلماني ، ولكن بشكل مختلف عن النظام البرلماني البريطاني ، اذ تم منح صلاحيات اكبر لرئيس الدولة إضافة إلى اختيار رئيس الدولة من قبل الشعب ، وفي مقابل ذلك ظهرت محاسبة تقع على رئيس الدولة لقيامه بمسؤولياته ، وهذا ما يطلق عليه النظام البرلماني المتطور الجمهوري.
في الانظمة البرلمانية المتطورة رئيس الجمهورية غير مسؤول سياسيا شأنه شأن الملك في النظام البرلماني التقليدي ، ولكنه مسؤول جنائيا عن الجرائم التي يرتكبها أثناء وظيفته وبسببها ، وإن كان يختلف تنظيم المسؤولية الجنائية ضيقا واتساعا بأختلاف الدساتير ، فبعض الدساتير جعلته مسؤولا عن جريمة الخيانة العظمى وغيرها من الجرائم؛ كما جاء في دستور العراق لسنة 2005 ( المادة 61/ سادساً ):
أ ـ مساءلة رئيس الجمهورية بناءً على طلبٍ مسبب بالاغلبية المطلقة لعدد اعضاء مجلس النواب.
ب ـ اعفاء رئيس الجمهورية بالاغلبية المطلقة لعدد اعضاء مجلس النواب، بعد ادانته من المحكمة الاتحادية العليا في احدى الحالات الاتية:1 ـ الحنث في اليمين الدستورية. 2 ـ انتهاك الدستور 3 ـ الخيانة العظمى.).
ويستثنى من عدم النص على مسؤولية رئيس الدولية سياسيا في الانظمة البرلمانية المتطورة ، بعض الدساتير التي اقرت مسؤولية حقيقية لرئيس الدولة وفي حدود ضيقة مثل دستور ( فايمر الالماني لعام 1919) وهو ابرز هذه الدساتير بموجب المادة(43) منه والتي أجازت عزل رئيس الدولة قبل انتهاء مدة الرئاسة والبالغة ( 7 ) سنوات بناءا على اقتراح من البرلمان بأغلبية الثلثين وموافقة الشعب بأستفتاء عام ، وهنا يعد الشعب صاحب الكلمة الفاصلة في محاسبة رئيس الدولة أو تجديد انتخاب رئيس الدولة مع حل البرلمان.
وقد قررت المادة (53) من الدستور مسؤولية رئيس الدولة عن الجرائم المقترفة عند ممارسته لوظائفه ،واعلنت المادة (59) مسؤولية الرئيس عن انتهاك الدستور أو اي قانون من قوانين الرايخ.
ونظرا لأنعدام النص على مسؤولية رئيس الدولة بالرغم من تمتعه بالصلاحيات ،تم اللجوء إلى نوع آخر من المسؤولية ، وهي المسؤولية السياسية غير المباشرة ، ويقصد بها ” محاولة إيجاد اليات لأقامة نوع من المسؤولية تقع على عاتق رئيس الدولة وذلك لصنع نوع من التوازن بين الصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الدولة وبين انتفاء اي قدر من المسؤولية عليه والقائها على عاتق الوزارة ،اي امكانية ايجاد نوع من القيود على سلطات الرئيس المتسعة في النظام البرلماني المتطور ومحاولة كبح تلك السلطات،وذلك بأيجاد اليات لأقامة قدر من المسؤولية تجاه رئيس الدولة من الناحية السياسية” .
إن السبب في اللجوء إلى المسؤولية غير المباشرة بسبب انعدام المسؤولية السياسية المباشرة لرئيس الدولة من جانب ومن جانب اخر صعوبة وضع قواعد المسؤولية الجنائية لرئيس الدولة موضع التنفيذ ، ولأنه كان لابد من محاسبة رئيس الدولة على الصلاحيات التي يتمتع بها عن طريق نوعين من المسؤولية غير المباشرة وهي :المسؤولية أمام الشعب والمسؤولية أمام البرلمان.
هذا النوع من المسؤولية ممكن ان نجده بشكل واضح في بعض الدول المتقدمة ،كما في فرنسا والمانيا ،إلا إننا لانجد مثل هذا النوع من المسؤولية في العراق ، ومن ذلك على سبيل المثال لانجد لأعادة أنتخاب رئيس الدولة ممكن أن تعد إثارة للمسؤولية السياسية لرئيس الدولة من قبل الشعب لعدة الاسباب:
1. لكون رئيس الدولة ينتخب من قبل البرلمان وليس من قبل الشعب .
2. جرى العرف على أن يكون رئيس الدولة كرديا ورئيس مجلس النواب من العرب السنة ورئيس الوزراء من العرب الشيعة ،مع عدم ورود نص في الدستور يحدد ذلك وصدور قرار من المحكمة الاتحادية العليا يمنع المحاصصة في المناصب العليا ، مما يعني إن توزيع المناصب بين الاحزاب السياسية تكون توافقية قبل البدء بممارسة مهام عمله ، ولايترتب عليه تحريك المسؤولية لأي منهم .
ومن صور إثارة المسؤولية كذلك حل البرلمان رئاسيا وإجراء انتخابات مبكرة التي تتم قبل انتهاء ولاية البرلمان بسبب خلاف بين رئيس الدولة من جهة ووزارة والبرلمان من جهة أخرى ،فإذا ما أراد رئيس الدولة إقالة وزارة تحوز على تأييد أغلبية البرلمان وتشكيل وزارة من الاقلية ، فإنه يلجأ إلى حل البرلمان وأجراء انتخابات جديدة لأستطلاع رأي الشعب حول موقفه ، فهنا يمكن أن تثير مسؤولية غير مباشرة لرئيس الدولة ،فيشترط في هذه الحالة أن تأتي الانتخابات بأغلبية مؤيدة لرئيس الدولة تؤيد وزارته، وإلا يعتبر بمثابة حجب الشعب لثقته عن رئيس الدولة ورفض لسياسته ، مما يجعله حائلا دون استمرار السلطات في إداء وظيفتها.
إلا إن المشرع الدستوري العراقي أخذ بالحل الذاتي ويقصد به حل البرلمان نفسه بنفسه، فالدستور العراقي قيد سلطة رئيس الجمهورية في حل البرلمان، ولم يمنحه إمكانية القيام بقرار الحل منفردا ، فسلطة الرئيس في ذلك الأمر مقيدة ومعلقة على إرادة البرلمان نفسه ،فرئيس الجمهورية في الواقع لا يملك إلا الموافقة على طلب اقتراح الحل الذي يقدم من الحكومة ،وأما القرار والفصل فيعود إلى المجلس نفسه،وهذا حسب المادة (64) من الدستور العراقي، وبالتالي تعد مسألة بعيدة التوقع أن يلوح رئيس الجمهورية بحل مجلس النواب.
كما إن رئيس الجمهورية لا يستطيع الاحتكام إلى الشعب عن طريق الاستفتاء.حيث حددت المادة (73) من الدستور العراقي أختصاصات رئيس الجمهورية وليس من ضمن هذه الاختصاصات ممارسة الاستفتاء وعرض موضوع معين على الاستفتاء العام لأخذ رأي الشعب في مسألة معينة.
ايضا من صور إثارت المسؤولية السياسية غير المباشرة لرئيس الدولة، سحب الثقة من الوزارة بسبب عدم الموافقة على السياسة العامة ، فيكون رئيس الدولة مجبر على تغير الحكومة أو الاستقالة لأنه هو من يضع السياسة العامة للدولة ، من جانب اخر عدم اعتراض الحكومة على سياسة رئيس الدولة يعد قبول وتأيد لسياسته ،وهنا على رئيس الدولة إما أن يقبل تغيير الوزارة وتغيير السياسة العامة للدولة لتتفق مع الاغلبية البرلمانية ،أو يبقى على الحكومة ويحل البرلمان ويلجأ إلى الشعب لحل النزاع.
اناط الدستور العراقي بقاء او عدم بقاء الوزارة بمجلس النواب حصراً، وهذا ما جاءت به المادة( 61/ ثامناً/ ب/ 3) 2018: يقرر مجلس النواب سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء بالأغلبية المطلقة لعدد اعضائه. وهذا ما جاء ايضا في المادة ( 40/ رابعاً) من النظام الداخلي لمجلس النواب لسنة 2018، إلا إنه لغاية يومنا الحالي لم يتم الطلب بسحب الثقة من الحكومة كطريقة لمساءلة رئيس الجمهورية كون إن رئيس الدولة لا تمثله الحكومة وأنما هي تعمل تحت ظل رئيس الوزراء .
وأيضا اقرار قانون من قبل البرلمان رغم اعتراض رئيس الدولة يعد نوع من أنواع المساءلة، بعض الدساتير أجازت الاعتراض على القوانين من قبل رئيس الدولة بارجاعه للبرلمان لقراءته والتصويت عليه للمرة الثانية ،ففي حالة الموافقة عليه من قبل البرلمان في المرة الثانية بالرغم من أعتراض رئيس الدولة يعد نوع من إثارة مسؤولية رئيس الدولة بشكل غير مباشر .
يتمتع الرئيس العراقي بمجموعة من الاختصاصات منها التصديق على مشروعات القوانين ودون أدنى اشارة إلى حق رئيس الدولة في الاعتراض على القوانين ،حيث يمارس رئيس الدولة حق التصديق وأصدار مشاريع القوانين التي يسنها مجلس النواب، وتعد مصادقا عليها بعد مضي خمسة عشر يوما من تاريخ تسلمها،ولم يشر المشرع الدستوري العراقي إلى حق الاعتراض على مشاريع القوانين كما هو عليه الحال في الرئاسة الجماعية وفق المادة (138) من الدستور.
أن دور رئيس اﻟﺪوﻟﺔ ﻓﻲ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺒﺮﻟﻤﺎﻧﻲ، ﻻ ينبغي أن ينظر إليه داﺋﻤﺎ ﻣﻦ الزاوية الضيقة، ﻓﺎﻟﻤﺆﺳﺴﺔ اﻟﻤلكية ﻓﻲ ﺑريطانيا ﻣﺜﻼ، وﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﻘﻠيص دورها ﻓﻲ ﺗﺴيير ﺷﺆون اﻟﺪوﻟﺔ، فوجودها يعتبر ﻋﺎﻣﻼ أﺳﺎسيا ﻓﻲ اﺳﺘﻘﺮار وﺛﺒﺎت اﻟﻨﻈﺎم السياسي البريطاني، وهذه اﻟﻤﻜﺎﻧﺔ اﻟﻤﺮﻣﻮﻗﺔ اﻟﺘﻲ يتمتع بها التاج البريطاني، ليست ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ ﺻﻼحياته اﻟﺪﺳﺘﻮرية، إﻧﻤﺎ ﺗﻌﻮد أﺳﺎﺳﺎ إﻟﻰ ما يرمز إليه ﻛﻤﺆﺳﺴﺔ عريقة وراﺳﺨﺔ ﻓﻲ تاريخ اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ اﻟبريطاني، وﻣﺎزال يحظﻰ ﺑﺎﺣﺘﺮام ﻛبير ﻟﺪى اﻟﺸﻌﺐ اﻻﻧﺠﻠيزي. إﺿﺎﻓﺔ إﻟﻰ هذا، ﻓﺈن أﺧﺘﻼف اﻟﻈﺮوف الاجتماعية والسياسية، ﻟﺒﺎﻗﻲ اﻟﺪول اﻟﺘﻲ أﺧﺬت ﺑﺎﻟﻨﻈﺎم اﻟﺒﺮﻟﻤﺎﻧﻲ، ﻗﺪ أﻓﺮز ﻋﻠﻰ ارض اﻟﻮاﻗﻊ ﺻﻮرا جديدة لهذا النظام، وهي غير ﻣﻄﺎﺑﻘﺔ ﺗﻤﺎﻣﺎ ﻟﻠﻨﻤﻮذج اﻷﺻﻠﻲ اﻟﺬي استلهمت منه، ولاسيما فيما يتعلق ﺑﺪور رئيس اﻟﺪوﻟﺔ ﻓﻲ الحياة السياسية، حيث أن ﻣﺸﺎركته إﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻓﻲ إدارة ﺷﺆون اﻟﺪوﻟﺔ، هو وﺿﻊ تكرسه دساتير ﺑﻌﺾ اﻟﺪول واﻟﺘﻲ ﺗﺼﻨﻒ ﺿﻤﻦ هذا اﻟﻨﻤﻮذج.
يؤخذ على المشرع الدستوري العراقي بالرغم من ابتعاده عن خصائص النظام النيابي التقليدي في عدد من المواضع إلا إنه ظل متمسكا بقاعدة (لاسلطة لامسؤولية) وهو ما لايتفق مع فكرة الجمهورية وانتخاب رئيس للدولة ولو بشكل غير مباشر ، حيث ترتبط فكرة الانتخاب بفكرة الشخص الأكفأ لشغل المنصب .
وبناءا على ماتقدم نوصي بما يأتي:
1. زيادة الوعي السياسية لدى الشعب العراقي للمطالبة بإثارة المسؤولية السياسية لرئيس الدولة بسبب عدم ممارسته لمهامه المنصوص عليها في المواد (73-50) من الدستور وبالاخص العمل على أحترام الدستور و الحفاظ على استقلال العراق وسيادته ، مثل المطالبة بأستقالة رئيس الدولة بعد أن أصبحت أرض العراق ساحة لـ”حرب قواعد” بين أمريكا وإيران عام 2019.
2. إضافة نص إلى الدستور يجيز لرئيس الدولة طرح موضوع عام للأستفتاء الشعبي وخاصة في حالة وجود خلاف بين المجلس الوزراء ومجلس النواب .
3. إضافة فقرة إلى النص المادة 64 أولا والخاصة بحل مجلس النواب ،وتكون بالشكل الاتي ” يحل مجلس النواب بالاغلبية المطلقة لعدد اعضائه أو بموافقة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء..”.
4. تعديل النص الدستوري 73/ثالثا بمنح رئيس الدولة حق الاعتراض على القوانين وتكون كالاتي :” يصادق ويصدر القوانين التي يسنها مجلس النواب، وفي حالة عدم المصادقة تعاد المشاريع لمجلس النواب لأعادة قرائته ويعد مصادق عليه بالاغلبية ثلاثة أخماس مجلس النواب عليه .
5. تنفيذ قرار المحكمة الاتحادية العليا والصادر بتاريخ 28/10/2019 والقاضي بعدم دستورية المحاصصة في توزيع المناصب الحكومية ، مما يترتب عليه جعل المنصب للأكفأ .
6. الاخذ بالانتخاب المباشر لرئيس الدولة من قبل الشعب بحيث يكون نص المادة 70 من الدستور كالاتي “اولاً ـ ينتخب رئيسا للجمهورية بالاقتراع العام المباشر السري.
ثانياً ـ يعد رئيسا للدولة المرشح الذي يحصل على الاغلبية المطلقة من الاصوات ،وفي حالة عدم حصول اي مرشح على الاغلبية المطلقة ، يتم التنافس بين المرشحين الحاصلين على اعلى الاصوات ويعلن رئيساً من يحصل على اكثرية الاصوات في الاقتراع الثاني.