الكنيسة الغربية ونظرية الحرب العادلة في العصور الوسطى

      التعليقات على الكنيسة الغربية ونظرية الحرب العادلة في العصور الوسطى مغلقة

    أ . م . حيدر خضير مراد

قسم الدراسات السياسية/ مركز الدراسات الاستراتيجية

     كانون الاول 2020

 

تمثل الحرب أقدم نشاط عرفته البشرية ، فمنذ ان قتل قابيل أخاه هابيل وهام في البرية يحمل وصمة الذنب الذي جناه ، والانسان لا يكف عن الحرب والقتال ، وعلى الرغم من هذا ، وربما بسببه ، سعى الناس دائماً الى إيجاد المبرر الأخلاقي للحرب لكي يجعلوا من قتل الانسان لأخيه الانسان أمراً مشروعاً ، وقد اختلفت المبررات الاخلاقية للحرب من عصر الى آخر وفقاً للأيديولوجية السائدة في المجتمع ، ففي العصور القديمة كان حق الغزو لتحقيق الأمجاد ، او البحث عن موطن أفضل ، مبرراً كافياً لشن الحرب ، وفي العصور الوسطى لبست الحرب ثياب الدين في أغلب الأحوال ، وها نحن أولاء ، في عصرنا الحالي ، نرى الحروب تندلع هنا وهناك : تهلك بني البشر بعشرات الألوف ، وتدمر المدن والارياف ، وتمحو مظاهر الحياة في بعض الاقاليم والبلدان ، متذرعة بنشر الحضارة بين قوم متخلفين تارة ، وبحجة الدفاع عن الحرية وحقوق الانسان تارة أخرى ، بل ان أكثر الحروب تدميراً وتخريباً وفتكاً بالإنسان تشن اليوم بحجة إقرار السلام(1).

ونتيجة لسعي الانسان المتواصل منذ قديم الزمان لإيجاد المبرر الأخلاقي لشن الحرب ، ظهرت نظرية الحرب العادلة ، والتي يعتقد بعض الباحثين انها تعود الى مصر القديمة ، مما يدل على ان فكرة الحرب العادلة نشأت خارج حدود اوربا ، وانها كانت موجودة قبل قرون من ظهور المسيحية او حتى ظهور العقائد اليونانية الرومانية القديمة(2).

وقد كانت الامبراطورية الرومانية دولة عسكرية من الطراز الأول لها نظمها وعقيدتها وتكتيكها العسكري الذي يكفل لها حماية حدودها المترامية الاطراف ، وكانت ايديولوجيتها العسكرية تعمل على مواجهه الاعداء قبيل اقترابهم من حدودها اي ان معظم حروبها كانت حروباً هجومية ، ومع ذلك فقد ظهرت اصوات ضد الاستخدام غير المبرر للعنف ، وبدء البحث عن المبرر الأخلاقي لإعلان الحرب وممارستها ، فأخذ الكتاب والفلاسفة يحللون بشيء من التفصيل جوانب الحرب المختلفة(3)، التي مثلت موضوعاً شائكاً بالنسبة لهم في تلك الفترة(4).

ومع انتشار الديانة المسيحية داخل الامبراطورية الرومانية بدأت مفاهيم الرومان عن الحرب تتغير ، خاصة بعد اجتياح الشعوب الجرمانية للغرب الأوربي ، فلم تعد حروب روما الهدف منها مهاجمة الاعداء في عقر دارهم ، وإنما صار هدفها هو استرداد الاراضي الرومانية المفقودة ، وهكذا بعد انهيار الامبراطورية الرومانية وجد المسيحيون انفسهم بين أمرين الأول : هو تعاليم السيد المسيح والقديس بطرس التي تمنع المسيحي من اللجوء الى العنف : ” كل الذين يأخذون السيف ، بالسيف يهلكون” ، والأمر الثاني : هو مسايرة الوضع السياسي واستغلال حاجه الامبراطور الروماني للتعاون مع الكنيسة من أجل توسيع نفوذها الديني ، وتنمية إمكاناتها الاقتصادية ، وتقوية رصيدها السياسي في جسد الامبراطورية المتداعي(5)، فبدأت الكنيسة الكاثوليكية تبحث عن مبرر اخلاقي للحرب بعد تحالفها مع الدولة ، وتحول الامبراطورية الرومانية الى مملكة مسيحية ، الأمر الذي أدى الى ظهور فكرة القتال للدفاع عن الوطن المسيحي والديانة المسيحية(6)، وقد ازدادت المسألة تعقيداً بشكل ملح في خضم غزوات الشعوب الجرمانية لأوربا ، والتي كانت الحرب عملاً عادياً في شريعتها وبمثابة رياضة يومية ، لذلك اضطر آباء الكنيسة الكاثوليكية الى تكييف مفهوم الحرب مع ما يتماشى والفكر الكنسي بتبني نظرية الحرب العادلة التي تبلورت في بدايات القرن الخامس الميلادي ، حيث قام القديس اوريليوس اوغسطين ( 304 – 430م) بدراستها بتوسع وتفصيل أكثر وصياغتها حتى اصبحت فيما بعد تشكل تراثاً ثميناً سار عليه عدة فقهاء ومختصين في الفقه الكنسي في العصور الوسطى ، الذين لم يكتفوا بنقل افكارها وأسسها ، بل اعادوا صياغتها لتصبح أكثر ملائمة للحقائق السياسية لذلك العصر(7).

لقد قام القديس اوغسطين بتوفير الغطاء الكنسي لفكرة الحرب في المسيحية الكاثوليكية ، إذ كان مقتنعاً بفكرة ان الرب هو الآمر بالحرب التي تشن بهدف فرض السلام ، ولكن السلام الذي ينشده القديس اوغسطين ليس سلاماً مطلقاً ، وانما هو السلام الذي يناسبه ، ويتوافق مع مصالحه بغض النظر عن مصالح الاخرين(8).

ويرتكز مذهب اوغسطين اساساً على التمييز بين الحرب العادلة والحرب غير العادلة ، وهو تمييز يرجع في أصله الى المشرعين الرومان الكلاسيكيين ، ذلك ان شيشرون ، على سبيل المثال ، قد عالج هذه المسألة في كتاباته ، ولكن مفهوم اوغسطين للحرب العادلة تجاوز الاعتبارات والمفاهيم الرومانية القديمة التي توجب ان يكون لها سببها الأخلاقي ، وشكلها الاحتفالي ايضاً ، ليقرر ان الحرب التي تشن بناء على أمر مقدس هي حرب عادلة ، لأن الرب بالضرورة هو الذي أمر بها ، ولما كانت حروب الرب حروباً عادلة ، فإنه يحق للحكام المسيحيين الأمر بشن الحرب دفاعاً عن الحق(9)، وبهذا تكون حروبهم عادلة استناداً الى ما قاله بولس من ان الحكام يستمدون سلطانهم من الرب(10).

وهكذا انكب القديس اوغسطين في القرن الخامس الميلادي على دراسة هذه النظرية وقدم التبرير المسيحي الأول للحرب ، معتمداً ليس فقط على التعاليم المسيحية فحسب ، ولكن على القانون الروماني وحكمة الفلاسفة الكلاسيكيين ايضاً ، وقد ذكر  “ان الحرب العادلة تلك التي تكون ثأراً من ظلم ، إذا ما تغاضت الأمة او الدولة التي تُشن الحرب عليها عن معاقبة خطأ ارتكبه مواطنوها ، أو لاستعادة شيء ما جرى الاستيلاء عليه بغير الطريق الصحيح”(11)، غير أنه اشترط للحرب العادلة ان تشن بواسطة حاكم شرعي ، وان يكون هناك سببا عادلا يبرر القيام بها ، وان تكون الحرب الوسيلة الوحيدة لاستعادة الحقوق(12).

وقد شكلت أراء القديس اوغسطين في هذا المجال الخلفية التي قام عليها الموقف الاساسي لمعظم المفكرين الغربيين بخصوص مسألة الحرب في العصور الوسطى ، وقد لخص ايزيدور الاشبيلي موقف اوغسطين من الحرب العادلة في كتابه  “الاشتقاقات” بقوله : ” إن الحرب العادلة هي الحرب التي تشن بأمر لاستعادة الممتلكات او لصد هجوم ” ، وكان من رأي المشرعين الكنسيين بعد ايزيدور ان المشاركين في الحرب العادلة لا يرتكبون ذنباً بقتل الاعداء ، بل انهم كانوا يرون ان من يعاقب الخطاة يكون بمثابة خادم للرب نفسه(13).

وهكذا ومن هذا الخط بدأ التطور الذي ادى الى وجود فكرة الحرب المقدسة ثم الفكرة الصليبية(14) داخل نطاق فكرة الحرب العادلة التي لم تكن تفرق بين الحرب الهجومية والحرب الدفاعية خلال العصور الوسطى ، فعندما قام البابا اوربان الثاني بالدعوة الى الحملات الصليبية على العالم الإسلامي في مجمع كليرمونت الكنسي بجنوب فرنسا في تشرين الثاني سنة 488هـ / 1095م لم يكن عنده ادنى شك في ان محاربة المسلمين هي حرب عادلة ، وهو بهذا يعكس فكر عصره ، لاسيما وانه كان مطلعاً على الدراسات النظرية للمصلحين الكنسيين عن العنف ككتابات القديس اوغسطين عن الحرب العادلة ومبرراتها(15)، وبالتالي فأن ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية في عصرنا الراهن من شن حروب وقائية استباقية ضد بعض البلدان تحت ذريعة حماية حقوق الانسان ومحاربة الإرهاب ، له جذوره التاريخية التي تضرب بعيداً في عمق التاريخ الأوربي والفكر الكنسي الغربي .

الهوامش :

(1)  قاسم ، قاسم عبده ، الخلفية الإيديولوجية للحروب الصليبية دراسة عن الحملة الأولى 1095 – 1099م ، ط1 ( المريوطية : عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية ، 1999م ) ، ص11 .

(2) Cox, Rory , ” Expanding the History of the Just War : The Ethics of War in Ancient Egypt “. International Studies Quarterly, Volume 61, Issue 2, 2017, P. 371.                                                                                                                     

الرابط على شبكة الانترنيت : https://doi.org/10.1093/isq/sqx009

(3) علي ، ميثم سلمان ، الحرب المقدسة حوار تطبيقي بين عقائد اللاتين ومفاهيم البيزنطيين اثناء الحروب الصليبية ، رسالة ماجستير غير منشورة ، ( جامعة المنصورة ، 2016م) ، ص د

(4) قاسم ، الخلفية الإيديولوجية ، ص14 .

(5) علي ، الحرب المقدسة ، ص د .

(6) الشيخ ، محمد محمد مرسي ، عصر الحروب الصليبية في الشرق ، ( الاسكندرية : د.مط ، 2004م ) ، ص80 – 81 .

(7) علي ، الحرب المقدسة ، ص هـ .

(8)  قاسم ، الخلفية الإيديولوجية ، ص15 .

(9) المرجع نفسه ، ص 15 – 16 .

(10) جاء في رسالة بولس الرسول الى أهل رومية (13: 1-3) : ” لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة ، لأنه ليس سلطاناً إلا من الله ، والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله ، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله ..” . ينظر : كانتور ، نورمان ف ، التاريخ الوسيط ، تر: قاسم عبده قاسم ، ط5 (القاهرة : عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية ، 1997م ) ، ج1 ، ص131 .

(11) فيشر ، ديفيد ، الأخلاقيات والحرب : هل يمكن أن تكون الحرب عادلة في القرن الحادي والعشرين؟ ، ترجمة : عماد عواد، سلسلة عالم المعرفة، العدد 414، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 2014) ، ص105 -106 ؛ قاسم ، قاسم عبده ، ماهية الحروب الصليبية ، (الكويت : عالم المعرفة ، 1990م ) ، ص29 .

(12)   Othman, Hussain, Islamophobia, the First Crusade and the Expansion    of Christendom to Islamic World, World Journal of Islamic History and    Civilization, IDOSI Publications, 2014,p.91.

(13) قاسم ، الخلفية الإيديولوجية ، ص 16 – 17 .

(14) التي نادت بها البابوية في العصر الوسيط .

(15) سميث ، جوناثان رايلي ، الحملة الصليبية الأولى وفكرة الحروب الصليبية ، ترجمة : محمد فتحي الشاعر ، ط2 ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1999م ) ، ص39 .