أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث مشارك في قسم ادارة الازمات
مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء
يُعد سـعر صرف العملة أحد المتغيّرات الاقتصادية المهمة ، ويُمثّل عدد الوحدات اللازمة من العملة المحلية للحصول على وحدة واحدة من عملة أخرى . ومن ثم فانّ سعر الصرف للدينار العراقي مقابل الدولار يتمثّل بعدد الوحدات من الدنانير العراقية اللازمة للحصول على وحدة واحدة من الدولار الأمريكي ، كما انه يمثّل مقلوب هذه العلاقة اذا ما نظرنا الى سعر صرف الدولار الأمريكي أزاء الدينار العراقي .
وتتضح أهمية سعر الصرف في كونهِ يُعد حلقة الوصل بين الأسعار المحلية والأسعار العالمية من خلال حركة التجارة الدولية ، وبالتالي فهو يتأثر بحالة ميزان المدفوعات ويُمثّل أحد المؤشرات المهمة للتعبير عن حالة الاقتصاد الوطني ، ولاسيّما في الأحوال التي يستمد فيها سعر الصرف قوتهُ من متانة القطاعات الاقتصادية الحقيقية وقدرتها التنافسية في مجالات المبادلات الدولية . وتتضح أهميتهُ بالنسبة للعراق من خلال كونهِ يُشكّل عاملا مهما في استقرار الأسعار المحلية المرتبطة بعمليات الاستيرادات التي تحتاجها الأسواق العراقية في ظل ما آل اليه الواقع الاقتصادي والمالي من اعتمادٍ متزايد على تصدير النفط والنفقات الحكومية .
واذا ما نظرنا الى نظم أسعار الصرف المطبقة في معظم دول العالم ، يُمكّن التمييز بين فئتين أساسيتين من أسعار الصرف ، تتمثّل الفئة الأولى بنظام أسعار الصرف الثابتة من خلال ضبط حركة سعر الصرف ضمن حدود ضيّقة من قبل السلطة النقدية ، في حين تتمثّل الفئة الثانية في أسعار الصرف الحرة أو المعوّمة وفق درجات متفاوتة من التعويم وحرية الحركة . وفي اطار نظام أسعار الصرف الحرة ، ومن حيث المبدأ ، تسعى السلطة النقدية الى عدم فرض قيود على التحويلات المالية الخارجية وترك سعر الصرف يتحدد وفق قوى العرض والطلب على العملة الأجنبية ، ومع ذلك فانّ سعر الصرف الحر أو المعوّم يمكن أن يكون بشكل نسبي من خلال تدخل السلطة النقدية لتنظيم عملية التعويم المدار بغية منع التقلبات الحادة في سوق الصرف في ضوء التفاعل الحاصل بين قوى العرض والطلب . كما قد يكون تعويم سعر الصرف تعويما حرا غير مدار ، وفي هذه الحالة تسمح السلطة النقدية لقيمة العملة المحلية أن تتغيّر وفقا لقوى السوق دون تدخل .
واستنادا الى ذلك فانّ حالة التعويم الحر ، تشكّل مسارا في السياسة النقدية يكون منسجما مع المسارات العامة للسياسات الاقتصادية السائرة وفق منهج التحرير الاقتصادي في ظل وجود دور فاعل للقطاع الخاص في الاقتصاد الوطني ، في اطار اقتصادات غالبا ما تتسم أجهزتها الانتاجية بالتطور والمرونة في عمليات الانتاج والتنوّع في النشاط التصديري الذي يتيح للقطاع الخاص الحصول على العملات الأجنبية وتمويل استيراداتهِ دون الحاجة الى موارد الدولة من العملة الأجنبية ، ومن ثم يُصبح القطاع الخاص في مثل هذه الاقتصادات المتنوعة رافدا من روافد تمويل الاقتصاد الوطني بالعملة الأجنبية وتعزيز رصيد الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي وليس عبئا عليها .
انّ ما يُميّز أسعار الصرف الثابتة ، بشكل أكثر وضوحا ، هو تدخل السلطة النقدية من أجل تثبيت سعر صرف العملة المحلية مقابل عملة معيّنة أو سلة من العملات وعدم السماح بحركتهِ الاّ ضمن حدود ضيّقة ، وهو ما يحتاج الى دعم السلطة النقدية لسعر صرف عملتها ، وقد يجري هذا الدعم ضمن تكاليف مرتفعة يتحملها الاقتصاد الوطني ، فعندما تسعى السلطة النقدية الى تثبيت قيمة عملتها بأعلى من قيمتها الحقيقية للحد من الضغوط التضخمية على أسعار المستهلك ، فانّ أحد الكلف لسعر الصرف المغالى به ، هو حصول زيادة في عجز ميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة للدولة .
أما فيما يتعلق بأسعار الصرف الحرة والمعوّمة فانها تتميّز بكونها أكثر اعتمادا على آلية السوق وقوى العرض والطلب وأقل حاجة الى تدخل ودعم السلطة النقدية ، الاّ انها لا تكون مناسبة لحالة الاقتصادات الريعية المعتمدة بدرجة كبيرة على النفط والتي لاتُعنى بسياسات التنويع الاقتصادي وتعاني من الاختلالات الهيكلية في قطاعاتها السلعية الانتاجية .
وفي العودة الى البدايات التي أعقبت عملية التغيير التي حصلت في العراق بعد عام 2003 والتي أسهمت أحداثها في تغيير نمط النظام المالي والمصرفي واسلوب ادارة سعر الصرف في اطار المنطلقات الاقتصادية الجديدة التي كان من المنتظر تطبيقها من أجل تغيير واقع الاقتصاد العراقي ، وأبرزها منهج التحرير الاقتصادي والتحوّل نحو اقتصاد السوق وتفعيل دور القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل والثروة . فقد شهدت البدايات الأولى لعملية التغيير اصدار قوانين وقرارات لازالة القيود المفروضة على النشاط التجاري والتحويلات المالية وتحرير عمل الجهاز المصرفي من القيود ، ومحاولة تشجيع الاستثمارات من خلال قانون الاستثمار ، وقد كانت عملية التحرير المالي والنقدي وازالة القيود عن الاستيرادات أولى التطبيقات العملية لفرضية التحرير الاقتصادي ، وكانت السياسة النقدية تنتظر بناء نظام سعر صرف أكثر مرونة واستجابة لمتطلبات قوى العرض والطلب ، على أمل وضع الاقتصاد العراقي على عتبة الانطلاق لبناء اقتصاد سوق منتج يعتمد التنويع الاقتصادي ويُسهم في تقليل الاعتماد على موارد النفط . وفي اطار هذه التوجهات للخروج من مركزية الدولة نحو منطلقات التحرير الاقتصادي ، تم اصدار عددٍ من القوانين والاجراءات المتعلقة بالشأن الاقتصادي ، ومن ذلك :
أولا : الاجراءات المتعلقة بعملية التحرير التجاري ، وكان من ملامحها ايقاف العمل بقانون التعرفة الكمركية رقم (77) لسنة 1955 ، وكذلك قانون الكمارك رقم (23) لسنة 1984 ، واللذين كانا مطبقين قبل عام 2003 ، وفرض بدلا عن ذلك ضريبة اعادة اعمار العراق بنسبة 5% من قيمة السلع المستوردة الخاضعة للرسم الكمركي بموجب أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (38) لسنة 2003 وأمر سلطة الائتلاف رقم (54) لسنة 2004 ، على أن ينتهي العمل بضريبة اعادة الاعمار بعد مرور سنتين من تطبيقها والرجوع بعد ذلك الى تطبيق القوانين الكمركية . الاّ انّ العودة الى تطبيق القوانين الكمركية قد شهدت العديد من الاشكاليات والصعوبات بعد انتهاء المدة المقررة على الرغم من اصدار قانون جديد للتعرفة الكمركية رقم (22) لسنة 2010 الذي لم يتم تفعيل تطبيقهِ بشكلهِ الكامل . وقد ساهمت هذه الظروف في ظل فرضية التحرير الاقتصادي والحفاظ على استقرار الأسعار في تهيئة بيئة ملائمة للتوسع في الاستيرادات على حساب الكثير من المنتجات المحلية التي كانت تنتظر التشجيع والتحفيز ، الأمر الذي كان له أثر واضح في تراجع دور وفعالية الأدوات والأساليب المنظمة للسياسة التجارية في ادارة عمليات الاستيراد ، ممّا شكّل أحد العوامل في زيادة الطلب على العملة الأجنبية في ضوء حالة التوسع التي شهدها قطاع التجارة الاستيرادي ، حيث ازدادت قيمة الاستيرادات من (21,302) مليار دولار عام 2004 الى (58,138) مليار دولار عام 2019[1]
ثانيا : التحرير المالي والنقدي ، وكان من أبرز ملامح هذا التحرير ازالة القيود عن التعاملات والتحويلات المالية وتعزيز مبدأ استقلالية البنك المركزي في تلبية جميع عناصر الطلب على العملة الأجنبية واستخدام الأدوات النقدية للحفاظ على استقرار سعر الصرف ومستويات الأسعار ، فضلا عن توجّه السياسة النقدية لأن تكون أكثر استجابة لمتطلبات اقتصاد السوق . ورغم وجود مثل هذه المنطلقات الاّ انّ هدف الحفاظ على استقرار سعر الصرف والأسعار ، قد تطلّب تحوّل نظام الصرف الى نظام ثابت لايتحرك سعرهُ الرسمي الاّ ضمن حدود ضيقة ، وأصبحت مهمة الدفاع عن ثبات سعر الصرف من المهام الأساسية للسياسة النقدية للبنك المركزي بغيّة المحافظة على استقرار الأسعار المحلية في اطار الامكانات التي توفّرت من الاحتياطيات الدولية المتأتية من صادرات النفط والتي شهدت زيادة ملحوظة خلال السنوات التي تلت عملية التغيير بعد عام 2003 ، حيث ازدادت من نحو (9) مليار دولار في عام 2004 الى نحو (75) مليار دولار في عام 2013 . ومع حصول التحوّل في سياسة سعر الصرف والتحرير المالي والنقدي كانت هنالك اجراءات نذكر منها :
1.أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم (56) لسنة 2004 والذي انبثق عنهُ قانون البنك المركزي العراقي الذي تضمن منطلقات التحرير المالي والنقدي والتأكيد على استقلالية البنك المركزي في ادارة السياسة النقدية ، حيث تضمنت المادة (26) من القانون عدم لجوء البنك المركزي الى اقراض الحكومة أو أية مؤسسة عامة ، وأن يكون تقديم الدعم للسيولة النقدية في المصارف التجارية الحكومية بذات الشروط لتسليف المصارف التجارية الخاصة . كما تضمنت المادة (28) من هذا القانون تنظيم عمليات السوق المفتوحة ، ومنها بيع وشراء النقد الأجنبي وازالة القيود المفروضة على التعاملات والتحويلات المالية ، كما انتهج البنك المركزي في عام 2004 سياسة التخلي عن تحديد أسعار الفائدة . وفي اطار ذلك تم الغاء ( دائرة الرقابة على التحويل الخارجي ) التابعة للبنك المركزي التي كانت مسؤولة عن تنظيم عمليات التحويلات المالية وتلبية متطلبات المدفوعات المالية المتعلقة بالاستيرادات والتعاملات الأخرى التي يتضمنها الجانب المدين في ميزان المدفوعات والتي ترتبط بمناهج الاستيرادات السنوية واجازات الاستيراد المنبثقة عن وزارة التجارة . وقد أصبح هناك تحوّل في عمليات التمويل للمدفوعات المالية الخارجية نحو ( نافذة بيع العملة الأجنبية ) التي تم استحداثها بعد عام 2003 ، حيث أصبحت هذه النافذة التي يمارسُها البنك المركزي بشكل يومي ، احدى أدواتهِ للحفاظ على استقرار سعر الصرف والمستوى العام للأسعار في ظل معطيات الواقع الاقتصادي وحالة الاتساع المالي في نفقات الدولة العامة .
2.التوسع في عدد المصارف التجارية الأهلية الذي ازداد الى ما يقرب (80) مصرفا ، بعد أن كان في حدود (17) مصرفا في عام 2003 ، وجاء هذا التوسع بعد صدور قانون المصارف رقم (94) لسنة 2004 من أجل ارساء نظام مصرفي يعمل وفق المعايير الدولية لدعم جهود التنمية والمساهمة في تنويع الاقتصاد الوطني في اطار منطلقات اقتصاد السوق والتحرير الاقتصادي .
3.تحويل سوق بغداد للأوراق المالية الى سوق العراق للأوراق المالية ، وتعزيز أنشطتهِ وتطوير امكاناتهِ ضمن اطار قانوني يُلبّي تحقيق الاستقلالية المالية والادارية للسوق المالي ، استنادا الى أمر سلطة الائتلاف رقم (74) لسنة 2004 . وكان الهدف من الاهتمام بالسوق المالية ، هو من أجل تعزيز البيئة الاستثمارية ونشر ثقافة الشركات لتفعيل دور القطاع الخاص في التحولات الاقتصادية المنتظرة ، ودعم آليات وأساليب الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص في اطار منهج اقتصاد السوق .
ثالثا : المضامين الاقتصادية التي جاءت في الدستور العراقي الصادر في عام 2005 وتأكيدها على مسؤولية الدولة في انتهاج سياسات اقتصاد السوق ، وأن يكون للقطاع الخاص دورٌ فاعل في عملية التنمية الاقتصادية والتحولات الاقتصادية التي ينتظرُها الاقتصاد العراقي . وجاء هذا التأكيد من خلال عددٍ من المواد التي تضمّنها الدستور ، حيث تضمنت المادة (25) (( تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصادية حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده وتنويع مصادره وتشجيع القطاع الخاص وتنميته )) ، كما تضمنت المادة (26) (( تكفل الدولة تشجيع الاستثمارات في القطاعات المختلفة وينظم ذلك بقانون )) ، وأكدّت المادة (27) أولا : على أنّ (( للأموال العامة حرمة ، وحمايتها واجب على كل مواطن )) .
ويتضح من خلال المضامين الاقتصادية التي وردّت في دستور 2005 والذي يُعدّ القانون الأسمى للبلاد بعد عام 2003 ، بأنّ عملية تحرير الاقتصاد العراقي من هيمنة الريع النفطي والهيمنة المالية للدولة وبناء اقتصاد يعتمد على الأنشطة الانتاجية للقطاع الخاص ، كان هو الهدف الأساس لمجمل اجراءات التحرير الاقتصادي الأخرى . ومن ثم فانّ عملية التحرير التجاري للاستيرادات والتحرير المالي والنقدي لم تكّن سوى اجراءات تطلبتها طبيعة المرحلة من أجل أن تكون ضمن حزمة من السياسات الاقتصادية والتمهيد عبر مرحلة انتقالية نحو بناء اقتصاد سوق منتج يكون للقطاع الخاص الدور الأساس في النهوض بواقع الصناعة الوطنية والمشاريع الزراعية ، وأن يكون للدولة دورٌ اقتصادي في ايجاد الحلول لمشاكل الشركات الصناعية العامة والمختلطة ، وأن تكون هنالك سياسة حكومية للنهوض بواقع القطاع السياحي الذي يمتلك فيه العراق الكثير من العناصر والمقومات . الاّ انّ غياب السياسات الاقتصادية عن تنمية قطاعات الانتاج الحقيقية ودعم القطاع الخاص للنهوض بالواقع الصناعي والزراعي والسياحي ، في ظل زيادة الاعتماد على قطاع النفط الخام وعوائدهِ ، قد شـكّل تحديا واشكالية كبيرة أمام السياسة النقدية وأدواتها في ادارة سعر الصرف ، فلم يكّن المقصود باطلاق قوى السوق للتحرير المالي والنقدي أن تجري بمعزلٍ عن سياسات اقتصادية حكومية في القطاعات السلعية الانتاجية تُسهم في تنويع الاقتصاد العراقي من خلال الاستفادة من امكانات الدولة وامكانات القطاع الخاص من أجل تشجيع وجذب الاستثمارات نحو اقامة مشاريع حقيقية للتنمية الاقتصادية .
رابعا : كذلك في اطار ما تم رسمهُ من منطلقات مفترضة للتحرير الاقتصادي ، حظيَّ موضوع تشجيع الاستثمارات الأجنبية باهتمامٍ خاص ، حيث تم تشريع قانون الاستثمار الأجنبي رقم (13) لسنة 2006 وتعديلاتهِ ، والذي منح العديد من الامتيازات لرؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في المشاريع الاقتصادية في العراق ، الاّ انّ عملية جذب الاستثمارات كانت بحاجة الى بيئة استثمارية مشجّعة لم تستطع السياسات الاقتصادية توفيرها . ومن ثم فقد بقيّت الاستثمارات الأجنبية قريبةً ًمن استثمار النفط ، بشكلٍ أساس ، والذي عُدَّ المجال الاستثماري المفضل والأكثر جذباً للشركات النفطية العالمية وفق عقود التراخيص النفطية ، في حين ظلّت هذه الاستثمارات بعيدةً عن مجالات الاستثمار في القطاعات السلعية الانتاجية التي لم تحظَّ بالاهتمام اللازم ضمن سياسات الدولة واجراءاتها الاقتصادية ، في ظل استمرار العديد من الشركات الصناعية العامة والمختلطة فضلا عن الكثير من المشاريع الانتاجية الخاصة ، تعاني من المشاكل التقنية والتسويقية وضعف الاستثمارات نتيجةً لتراجع الدور الاقتصادي للدولة وانخفاض دعمها للمشاريع الانتاجية والانفتاح الواسع على الاستيرادات .
لقد بقيَّ الاقتصاد العراقي شديد الاعتماد على موارد النفط في ظل غياب سياسات التنويع الاقتصادي ، ومن مؤشرات شدة ريعية الاقتصاد العراقي حالة الاتساع المالي للموازنة العامة للدولة المعتمدة بشكل أساس على ايرادات النفط في ظل انخفاض مساهمة قطاعات الانتاج الحقيقية في الناتج المحلي الاجمالي . فبحسب احصاءات عام 2019 ، بلغت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الاجمالي 3,3% والصناعة التحويلية 2% ، في حين احتل قطاع التعدين المتمثّل بالنفط نسبة 43% من حيث المساهمة بالقيمة المضافة في الناتج المحلي الاجمالي [2]
وبلغ متوسط نسبة التخصيصات الاستثمارية لقطاع النفط في الموازنات السنوية للدولة خلال المدة 2006 ــ 2019 نحو 36,8% على الرغم من استثمار النفط وفق عقود التراخيص التي تستحوذ على ما يقرب من 10% من عوائد النفط الدولارية ، في حين لم تحظَ الصناعة التحويلية الاّ بتخصيصات استثمارية بنسبة 1,1% والزراعة بنسبة 0,5% من اجمالي التخصيصات الاستثمارية خلال المدة المذكورة[3]
وعلى صعيد مساهمة قطاع النفط في الايرادات الفعلية للموازنة العامة للدولة ، فقد بلغت هذه المساهمة نحو 92,1% ، في حين بلغت مساهمة الايرادات الفعلية غير النفطية 7,9% في اجمالي الايرادات العامة للدولة عام 2019 . كما احتلت النفقات التشغيلية الفعلية الجارية النسبة العظمى ، اذ بلغت 86% مقابل 14% للنفقات الفعلية الاستثمارية من اجمالي النفقات العامة الفعلية للدولة خلال السنة المذكورة[4]
وفي ظل استمرار هذه الاشكاليات التي تَعززَّ وجودها في الاقتصاد العراقي ، فقد أصبحت الموازنة العامة للدولة المموّلة من ايرادات النفط ، المصدر الأساس لمعيشة المجتمع واستمرار الطلب الاستهلاكي على السلع والمواد في الأسواق المحلية ، وأصبح القطاع الحكومي الملجأ للباحثين عن الأعمال ، سواء في عقود الدولة أو العمل والتوظيف في دوائرها ، وذلك لغياب فرص العمل في الأنشطة الاقتصادية الخاصة وضعف الدور الذي تمارسهُ الدولة في دعم القطاع الخاص والقطاعات الانتاجية الحقيقية في الاقتصاد الوطني .
لقد ازدادت أعداد الموظفين والعاملين لدى الدولة والمحسوبين على فقرة الرواتب والأجور الحكومية بشكل كبير ، فلقد كان هذا العدد في حدود المليون قبل عام 2003 ممّن يتقاضون رواتب من الدولة ، الاّ انّ هذا العدد ارتفع الى ما يقرب من (7) مليون خلال السنوات الأخيرة ، ممّا أصبح يشكّل عبئا ماليا كبيرا تتحملهُ النفقات التشغيلية في الموازنات السنوية للايفاء بمستحقات الرواتب والأجور التي تصل الى نحو (6) تريليون دينار شهريا .
لقد أدى زيادة الاعتماد على ايرادات النفط ، والموجّه معظمها للنفقات التشغيلية الجارية ، مع غياب وجود مشاريع استثمارية رصينة ، الى تفاقم حالة التوسع المالي في الموازنة العامة للدولة وازدياد حجم الكتلة النقدية المؤثرة في الطلب الاستهلاكي الذي يجري تلبيتهُ عن طريق الاستيرادات المموّلة بالعملة الأجنبية من نافذة بيع العملة للبنك المركزي ، فضلا عن انّ الجزء الآخر من السيولة النقدية لدى فئات المجتمع والناجم عن النفقات العامة للدولة ، أصبح في عداد الأموال التي يجري اكتنازها خارج نطاق الجهاز المصرفي ، أو انها تمارس التأثير في زيادة الطلب على العملة الأجنبية لأغراض التحوّط أو التحويلات المالية الى الخارج دون أن ينتفعَ منها الاقتصاد العراقي .
ومن ثم ، فانّ من جملة النتائج التي تمخّضت عن هذا الواقع ، هو أن أصبحت المالية العامة للدولة المصدر الحاكم للكتلة النقدية والعرض النقدي بالعملة المحلية ، من خلال ايراداتها ذات الهيمنة المطلقة لعوائد النفط التي تصل الى نحو 93% من الايرادات العامة ، وصادرات نفطية تشكّل نحو 99,8% من اجمالي حجم الصادرات العراقية ، وفي ظل نفقاتها العامة ذات الهيمنة المطلقة لفقرة الرواتب والأجور الحكومية التي تشكّل المرتكز الأساس في القوة الشرائية للطلب الاستهلاكي اللازم لتلبية الاحتياجات الضرورية للمجتمع ، وفي ظل غياب دور فاعل للأنشطة الاستثمارية ، سواء من جانب الدولة أو القطاع الخاص الذي أصبح أكثر تركيزا في أنشطتهِ على القطاع التجاري الاستيرادي والاعتماد على العملة الأجنبية المتأتية من عوائد النفط ، ممّا جعل الجزء الأعظم من النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص يسهم في استهلاك العملة الأجنبية بدلا من أن يكون منتجاً وداعماً لها .
واذا ما نظرنا الى عناصر الغطاء والقوة التي يستمدُ منها سعر الصرف قوتهُ الحقيقية في اقتصادٍ معيّن ، نلحظ بأنّها تكمّن في مدى قوة وتنوّع قطاعات الاقتصاد السلعية التي تعمل على توفير استدامة الاستقرار الحقيقي لسعر الصرف والذي يمكّن أن يجعل السلطة النقدية تركّز بقدرٍ أكبر على استخدام الأدوات النقدية من أجل زيادة حجم الاستثمارات والحفاظ على استقرار سعر الصرف والأسعار وفق قدر كبير من الانسجام والتوافق مع أدوات السياسة المالية والأداء العام للاقتصاد الوطني المُعَزز بتفاعل التأثيرات الايجابية التي تُحدثها السياستان المالية والنقدية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتفعيل عوامل التنمية المستدامة.
انّ استمرار تراكم العوامل المؤثرة في زيادة الطلب على العملة الأجنبية لأغراض الاستيرادات على وجه الخصوص والتحويلات المالية الأخرى ، دون تفعيل عوامل زيادة العرض من العملة الأجنبية ، واعتماد هذا العرض بشكل أساس على ايرادات النفط المحتكرة من قبل الدولة ، قد أدى الى توليد ضغوط شديدة على أدوات السياسة النقدية من أجل الحفاظ على استقرار سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار ومن خلال تكلفة نقدية مرتفعة لدعم قيمة الدينار والحفاظ على مستوى ملائم لاستقرار الأسعار ، في ظل استمرار حالة العجز الواضح لمخرجات القطاعات الاقتصادية الحقيقية عن تقديم الدعم والغطاء الحقيقي لسعر الصرف .
لقد اتسم سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار بالثبات النسبي بعد عام 2003 ، ولاسيّما في السنوات الأولى لتطبيق اجراء ( نافذة بيع العملة الأجنبية ) في أوائل تشرين الأول من عام 2003 ، حيث كان سعر الصرف قد تراوح في حدود (1500) دينار للدولار الواحد ، بعد أن كان قبل ذلك يعادل نحو (3000) دينار للدولار الواحد في بعض سنوات عقد التسعينيات من القرن العشرين ، وبقيَّ هذا المستوى الذي بلغهُ سعر صرف الدينار ثابتا حتى عام 2006 حيث تم رفعهُ بشكلٍ تدريجي من قبل السلطة النقدية حتى بلغ معدل السعر (1160) دينار للدولار الواحد في عام 2012 ، في حين بلغ معدل سعر السوق الموازي في السنة نفسِها (1233) . وبعد ذلك استمرت أسعار الصرف الرسمية لنافذة بيع العملة باتجاه اجراء تخفيضات محدودة لسعر صرف الدينار مقابل الدولار في ضوء الزيادة الحاصلة في الطلب على العملة الأجنبية في نافذة البيع ، حتى بلغ المعدل (1190) منذ عام 2017[5] .
وقد أسهمت الزيادة التي تحققت في مبيعات الدولار عبر نافذة بيع العملة والتي بلغت في عام 2019 نحو (51,127) مليار دولار ، في حصول تراجع نسبي في سعر السوق الموازي خلال عامي (2018 ــ 2019) ، اذ بلغ معدل السعر الموازي (1209 و 1196 ) على التوالي ، الاّ انّ انخفاض ايرادات النفط بسبب انخفاض الأسعار والكميات المصدرة نتيجةً لحالة الركود في الاقتصاد العالمي خلال عام 2020 ، قد أدّى مرةً أخرى الى زيادة الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسعر الموازي الذي تجاوز معدلاتهِ الطبيعية في منتصف كانون الأول 2020 ، والذي بلغ حدود (1300) تحت ضغط الظروف التي تولّدت عن الأزمة المالية التي شهدها الاقتصاد العراقي في هذا العام وازدياد الدور الذي تمارسهُ عوامل الطلب غير الحقيقية والمضاربة في سوق العملة ، وتوقعات السوق بتخفيض قيمة الدينار كاجراءٍ لتمويل العجز ، ممّا ولّد القلق لدى حَمَلةِ الدينار باتجاه شراء الدولار . وفي ظل هذه الظروف يحتاج سوق العملة الى الاطمئنان والتهدئة من قبل السلطة النقدية لامتصاص عوامل القلق وتعزيز الثقة بالدينار العراقي وارجاع سعر الصرف الموازي الى معدلاتهِ الاعتيادية .
وعلى الرغم من التركيز الذي تُوليّه السلطة النقدية لمسألة استقرار سعر الصرف والأسعار المحلية والدفاع عن سعر صرف ثابت عند مستويات محدودة الحركة ، فانّ اتساع الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي من شانهِ أن يزيد من التكلفة النقدية لسعر الصرف الرسمي المغالى به ، حتى فيما يتعلق بانعكاساتهِ على أسعار السلع المحلية التي يكون معيارها سعر الصرف في السوق الموازي الذي يُعد العامل المهم المؤثر في أسعار المستهلك ، سواء السلع التي يتم شراؤها بالعملة المحلية ، أو التي تتحقق مشترياتُها من خلال الدفع المباشر بالدولار . ومن ثم فانّ معيار استقرار الأسعار يكّمن في مدى قدرة السلطة النقدية في السيطرة على سعر الصرف الموازي وجعله يقترب من السعر الرسمي ضمن حدود مناسبة من التفاوت تسهم في تقلّيص أرباح الوسطاء في سوق الصرف الموازي .
فخلال المدة التي شهدت تطبيق اجراء نافذة بيع العملة ما بين (2003 ــ 2019) ، بلغ اجمالي الأرباح التي تحققت من بيع العملة في سوق الصرف الموازي ، في حدود (20,896,766) تريليون دينار ، وهي أرباح ناجمة عن الفروقات التجميعية بين أسعار الصرف الرسمية لنافذة بيع العملة وأسعار الصرف الموازية خلال المدة المذكورة[6] .
في اطار ذلك نلحظ بأنّ هنالك اشكالية واضحة في عملية ادارة سعر الصرف نمّت وتطوّرت مع وجود الانفصام في العلاقة بين عملية تحرير الاستيرادات والتحرير المالي والنقدي ، وبين الفشل الذي أصاب السياسات الاقتصادية الأخرى في تحرير الاقتصاد العراقي من الهيمنة المالية التي فرضها قطاع النفط الخام والهيمنة المطلقة للنفقات العامة للدولة وتأثيرهُما الحاسم على عرض النقد وحجم الكتلة النقدية المؤثرة على مستويات الأسعار المحلية .
وضمن هذا السياق فانّ ما ينجم عن وجود هذه الاشكالية ، هو تعدد التحديات والصعوبات أمام السياسة النقدية في أداء وظائفها التنموية ، ممّا يجعلها تركّز بقدر أكبر على استقرار الأسعار وكبح الضغوط التضخمية الناجمة عن عمليات تمويل الاستيرادات واستخدام نافذة بيع العملة كوسيلة لتحقيق هذا الهدف. وتطرح هذه الاشكالية بعض الاعتبارات والملاحظات : ــ
أولا : انّ السلطة النقدية باعتبارها المسؤولة عن ادارة الكتلة النقدية ، أصبحت تنظر الى نافذة بيع العملة على انّها الاطار المناسب لتأمين تمويل الاستيرادات وبقية عناصر الطلب على العملة الأجنبية ، كما انّها تمثّل الوسيلة لسحب الكتلة النقدية الناجمة عن النفقات العامة وتوفير التمويل بالدينار للموازنات السنوية للدولة . ومع الأهمية الواضحة لهذه المسؤولية ، الاّ انّ نافذة بيع العملة في ظل واقعها الحالي ، لايمكّن اعتبارها الخيار الأمثل لتلبية الطلب على العملة الأجنبية ، ومن ثم فانّها تمثّل اجراءاً تطلبتهُ ظروف المرحلة وتكون قابلة للاصلاح لتعزيز دورها في الاستقرار النقدي والمالي ضمن سياساتٍ متكاملة للاصلاح الاقتصادي .
ثانيا : لقد كانت هنالك محاولة للحد من حالة الاتساع الحاصل في مبيعات العملة الأجنبية من خلال نافذة بيع العملة للبنك المركزي ، اذ تضمّنت المادة (50) من قانون الموازنة الاتحادية لسنة 2015 تحديداً لسقف مبيعات الدولار لايتجاوز (75) مليون دولار يومياً ، ومطالبة المصارف المشاركة في نافذة بيع العملة بتقديم المستندات والوثائق المتعلقة بادخال البضائع ، والبيانات المتعلقة بالتحاسب الضريبي والادخال الكمركي خلال فترة (30) يوما من شراء المصارف للدولار . كما تضمنت المادة (50) الطلب من البنك المركزي تفعيل دور أدوات السياسة النقدية الأخرى من أجل الحفاظ على استقرار وقوة الدينار العراقي مقابل الدولار . الاّ انّ هذا الخيار قد واجه العديد من الصعوبات ، وأُعتُبر تدخلاً في استقلالية البنك المركزي التي ضمنّها القانون .
وتُثير هذه الاشكالية ضعف الدور الذي تمارسهُ اجراءات السياسة التجارية والسياسات الاقتصادية الأخرى في تنظيم عمليات الاستيراد ، والتي يمكّن أن تعيد الهيكلة للعديد من السلع والمواد المستوردة ، ولاسيّما تلك التي يتوفّر منها بدائل محلية تكفي لتلبية الطلب ، أو تلك التي لاتشكّل ضرورة ويمكّن ترشيد الاستيرادات منها ، بما يسهم في تقليل الطلب على العملة الأجنبية المخصصة لبعض السلع والمواد غير الضرورية أو تلك التي يكون لها تغطية مناسبة من المنتجات المحلية . ومن ثم فانّ عنصر الاستهداف للاستيرادات في مبيعات نافذة بيع العملة يحتاج الى دورٍ أكثر فعالية من قبل اجراءات السياسة التجارية واجراءات ادخال البضائع عبر المنافذ الحدودية ، والتي تساعد في الحد من السقف المرتفع لمبيعات الدولار وفق مناهج الاستيرادات السنوية ، وحوكمة الاعتمادات المستندية والتحويلات المالية من قبل المصارف ، دون حاجةٍ الى تحديدٍ مسبق لسقف مبيعات الدولار اليومية .
ثالثا : انّ القول بأنّ السلطة النقدية مسؤولة عن الجزء المتعلق بالسياسة النقدية والحفاظ على استقرار سعر الصرف والسيطرة على التضخم ، لايلغي وظيفتَها في دعم المنتجات المحلية والمساهمة في تقليل الاستيرادات ضمن سياسات اقتصادية ينبغي تفعيلها من قبل الدولة تتعلق بالتنويع الاقتصادي ودعم القطاع الخاص ، وتنظيم عمل السياسة التجارية وبرامج واجازات الاستيراد ، فضلا عن تفعيل تطبيق القوانين الاقتصادية كقانون التعرفة الكمركية وقانون حماية المنتجات المحلية وقانون المنافسة ومنع الاحتكار وقانون حماية المستهلك ، والتي تُعد من المستلزمات المهمة لدعم عمل السياسة النقدية وتمكينها من أداء وظائفها .
رابعا : على الرغم من تشابه الدول النفطية الريعية من حيث كونها المحتكر للعملة الأجنبية المتولّدة عن صادرات النفط ، الاّ أنّهُ لايمكّن التسليم بأنّ الاسلوب المتبع من قبل السلطة النقدية بعد عام 2003 ضمن نافذة بيع العملة يتماثل مع ما هو متّبع في الدول الريعية الأخرى ، اذ انّ لكل دولةٍ ظروفها من حيث مستوى التنويع الاقتصادي ودرجة الاعتماد على عوائد النفط ، كذلك الاختلاف من حيث الأساليب والآليات التي تجري من خلالها عمليات تنظيم وتمويل الاستيرادات وحوكمة التحويلات المالية .
خامسا : انّ الاستقرار المستهدف لسعر صرف الدينار يمكّن أن يكون عند نقطة دفاع تُقلل من حالة المغالاة في سعر الصرف الحالي وفق منهجٍ تدريجي ومن خلال تفعيل دور المؤسسات ذات العلاقة بطلب العملة الأجنبية في التنظيم والحوكمة ، بما يجعل السياسة النقدية تسهم في تشجيع المنتجات المحلية والحد من دعم الاستيرادات والتقليل من حجم العجز الداخلي والخارجي ، في ظل تحسين نظام الدعم الاجتماعي المقدم للعوائل المتعففة وتنفيذ الاصلاحات الاقتصادية الداعمة لجهود التنمية .
[1] التقارير الاقتصادية السنوية للبنك المركزي العراقي للسنتين 2004 و 2019 .
[2] وزارة التخطيط | الجهاز المركزي للاحصاء | المجموعة الاحصائية السنوية لسنة 2019 .
[3] بيانات الموازنات السنوية للدولة للمدة 2006 ــ 2019 | الوقائع العراقية | أعداد متفرقة .
[4] الندوة الافتراضية لبيت الحكمة ــ قسم الدراسات الاقتصادية ( البنك المركزي العراقي والاصلاح المالي في ظل الأزمة المالية الراهنة ) ـــ 15|11|2020 .
[5] البنك المركزي العراقي ( النشرات الاحصائية السنوية لسنوات متعددة ) .
[6] تم استخراج هذا الرقم من خلال حساب الفروقات بين الأسعار الرسمية والأسعار الموازية خلال المدة المذكورة ، وهو يمثّل حجم الفجوة الكلية بين أسعار النافذة وأسعار السوق الموازية | النشرات الاحصائية السنوية للبنك المركزي العراقي لسنوات متعددة .