الاقتصاد العالمي بين التعافي والخوف من اضطرابات ما بعد الازمة

      التعليقات على الاقتصاد العالمي بين التعافي والخوف من اضطرابات ما بعد الازمة مغلقة

 

د. فراس حسين علي الصفار

باحث في قسم ادارة الازمات

مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء

8 نيسان 2021

في أعقاب الأزمة الصحية والاقتصادية الشديدة التي تسببت فيها جائحة فيروس كورونا، يبدو الاقتصاد العالمي وكأنه خارجٌ من واحدة من أشدّ حالات الركود ليبدأ مرحلة تعافٍ ضعيف. أذ يواجه واضعي السياسات على المدى القصير تحديات جسيمة في الصحة العامة، وإدارة الدَّين، وسياسات الموازنة، وأنشطة البنوك المركزية والإصلاحات الهيكلية، في الوقت الذي يسعون فيه لضمان أن يكتسب التعافي العالمي في عام 2021، الذي لا يزال هشاً، قوة دفع لا بأس بها، ويرسي الأساس لنمو وتنمية قويين على المدى البعيد.

ويتعين على الحكومات، والأسر ، والشركات جميعاً السعي نحو اعتماد مشهد اقتصادي مغاير. فإلى جانب حماية الفئات الأكثر معاناة وتأثراً، يتطلب الأمر اعتماد سياسات ناجحة تسمح بتحول رؤوس الأموال، والأيدي العاملة، والمهارات، والابتكارات إلى أغراض جديدة، لبناء مناخ اقتصادي أقوى وأكثر مراعاة للبيئة، في أعقاب جائحة فيروس كورونا. وعلى البلدان السائرة بالفعل في هذا الاتجاه من الدينامية والمرونة أن تضاعف جهودها؛ في حين أصبح التغيير واجباً بشدة على البلدان الأخرى، التي تعاني من أوضاع مالية أجهدتها الجائحة أيّما إجهاد، ومن ضعف العوامل الدافعة للنمو على المدى الطويل.

من جانب اخر حثت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، الاقتصادات الكبرى في العالم على عدم تخفيف الجهود المالية لدعم الاقتصاد العالمي. وقالت يلين، في كلمة وجهتها إلى اللجنة التوجيهية لصندوق النقد الدولي، إن التوقعات العالمية تحسنت مع صرف المساعدات في وقت واحد حول العالم، لكن المهمة لم تنتهِ، مشيرة إلى وجود قدر كبير من عدم اليقين ومخاطر الآثار طويلة المدى لجائحة فايروس كورونا في العديد من البلدان. واضافت: إنني أحث الاقتصادات الكبرى على عدم سحب دعمها في وقت مبكر جدا، وإنما على السعي لتقديم دعم جديد كبير للميزانية لضمان انتعاش قوي. فقد تبنى أكبر اقتصاد في العالم (امريكا) خطة دعم جديدة بقيمة 1.9 تريليون دولار في نهاية مارس وتعتزم إدارة بايدن أن تطرح على الكونجرس في وقت لاحق من العام خطة استثمارية ضخمة تزيد عن 2000 مليار دولار على مدى ثماني سنوات.[1]

وبين صندوق النقد الدولي في تقريره (آفاق الاقتصاد العالمي) الذي صدر الثلاثاء 6 نيسان 2021 أن الاقتصاد العالمي سيحقق انتعاشا أكثر من المتوقع في العامين 2021 و2022 مدفوعا بالنمو القوي في الولايات المتحدة وفي بضعة الاقتصادات الكبيرة، فضلاً عن التعافي المرتقب نتيجة زيادة عدد متلقي اللقاحات في النصف الثاني من عام 2021، واستمرار تكييف النشاط الاقتصادي لمقتضيات التنقل المحدود. وتخضع هذه الآفاق المتوقعة لدرجة كبيرة من عدم اليقين، ارتباطا بمسار الجائحة، ومدى فعالية دعم السياسات في توفير الحالة الملائمة لاستعادة الأوضاع الطبيعية اعتمادا على توافر اللقاح، وتطور الأوضاع المالية. [2]

واشار صندوق النقد الدولي ان الاقتصاد العالمي محاط بقدر كبير من عدم اليقين بعد مرور عام على بداية الجائحة. ومما يثير القلق ظهور سلالات الفيروس المتحورة الجديدة وتراكم الخسائر البشرية من جراء الجائحة، في الوقت الذي تتزايد فيه تغطية اللقاحات وتبعث شعورا بالتفاؤل. وهناك تباعد في مسارات التعافي الاقتصادي بين البلدان والقطاعات، مما يعكس التفاوت في الاضطرابات الناجمة عن الجائحة ومدى الدعم المقدم من السياسات لمواجهتها. ولا تعتمد الآفاق المرتقبة على التعامل مع الجائحة فحسب إنما ترتهن أيضا بمدى قدرة السياسات الاقتصادية المطبقة في ظل درجة عالية من عدم اليقين على الحد بصورة فعالة من الضرر الدائم المترتب على هذه الأزمة غير المسبوقة. ومن المتوقع أن يبلغ النمو العالمي 6% في عام 2021، ثم يتراجع إلى 4,4% في عام 2022. ويرجع هذا الرفع للتوقعات إلى الدعم المالي الإضافي.[3]

ويتطرق التقرير لموضوعة الاثار المستقبلية (الندوب) نتيجة الازمات اذ تُسبب حالات الركود الاقتصادي أضرارا جسيمة على الوضع الاقتصادي غالبا ما يستمر أثرها لفترة طويلة. فالأعمال تغلق أبوابها، والإنفاق الاستثماري يخضع للتخفيض، والناس يعانون من البطالة وقد يفقدون مهاراتهم ودافعهم للعمل مع مرور الشهور الطويلة. ولكن الركود الذي جلبته جائحة فايروس كورونا ليس بالركود العادي. فمقارنةً بالأزمات العالمية السابقة، كان الانكماش مفاجئا وعميقا ( حسب البيانات ربع السنوية) ، تجاوز انخفاض الناتج العالمي المستوى الذي سجله إبان الأزمة المالية العالمية بنحو 3 أضعاف، وفي نصف المدة. وبفضل إجراءات السياسات الاقتصادية غير المسبوقة، أمكن تجنب الضغط المالي النظامي إلى حد كبير حتى الآن وهو الضغط الذي يصاحب الضرر الاقتصادي طويل الأمد. غير أن مسار التعافي لا يزال محفوفا بالتحديات، وخاصة بالنسبة للبلدان التي تمتلك حيزا ماليا محدودا، ويزداد صعوبة بسبب التأثير المتفاوت للجائحة.

سيعتمد مدى التعافي على مدى استمرارية الأضرار الاقتصادية ، على المدى المتوسط. وسيختلف هذا الأمر باختلاف البلدان، تبعا لمسار الجائحة في المستقبل، ونسبة القطاعات التي تتسم بكثافة المخالطة المباشرة؛ وقدرة مؤسسات الأعمال والعاملين على التكيف، ومدى فعالية الاستجابات التي تصدرها السياسات. وهذه الأمور المجهولة تجعل من الصعب التنبؤ بمدى عمق الندوب الناجمة عن الأزمة، ولكن هناك بعض الدروس التي يمكننا استقاؤها من التاريخ. فنوبات الركود الحاد في الماضي، ولا سيما تلك العميقة، ارتبطت بخسائر مستمرة في الناتج من جراء انخفاض الإنتاجية. وبالرغم من أن الجائحة حفزت زيادة التحول الرقمي والابتكار في عمليات الإنتاج والتسليم – على الأقل في بعض البلدان – فإن عملية إعادة توزيع الموارد للتكيف مع وضع معتاد جديد قد تكون أكبر مما كان مطلوبا في فترات الركود السابقة، مما يؤثر على نمو الإنتاجية في المستقبل. وهناك مخاطرة أخرى مدفوعة بالجائحة تتمثل في تصاعد القوة السوقية للشركات المهيمنة التي تزداد رسوخا في الأسواق بينما ينهار منافسوها. [4]

وقد تأثرت الإنتاجية بالاضطرابات التي أحدثتها جائحة فيروس كورونا في شبكات الإنتاج. فالقطاعات كثيفة المخالطة، مثل الفنون والترفيه، والإقامة والمطاعم، وتجارة الجملة والتجزئة، هي قطاعات أقل مركزية في شبكات الإنتاج، مقارنة بقطاع الطاقة مثلاً. ولكن التحليل التاريخي يوضح أنه حتى الصدمات التي تصيب هذه القطاعات الثانوية يمكن أن تتضخم كثيرا من خلال انتقال التداعيات إلى قطاعات أخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤثر إغلاق المطاعم على المزارع ، مما يقلل الطلب على الجرارات وغيرها من الآلات الزراعية. وبالتالي، فرغم تركُّز الأثر المبدئي للجائحة في قطاعات الخدمات الأكثر اعتمادا على المخالطة المباشرة، فإن حجم الاضطراب المترتب على ذلك أدى إلى هبوط واسع النطاق في النشاط الاقتصادي.

ويرى الكاتب مايكل هيرش، في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية (Foreign policy)، أنه بعد انقضاء عام 2020 الذي كان أشبه بكابوس وتوزيع لقاحات “كوفيد-19” بكميات كبيرة، يعتقد العديد من الاقتصاديين أن التعافي الاقتصادي العالمي في عام 2021 قد يكون الأسرع منذ عقود. لكن الوباء وعمليات الإغلاق المرتبطة به سيتركان إرثا قاتما قد يستغرق التخلص منه عقودا أيضا، منها اتساع فجوة عدم المساواة في الدخل الذي قد يؤدي إلى إعادة إحياء السياسة الشعبوية في الولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى. وبعد عام شهد فيه كل اقتصاد رئيسي تقريبا انكماشا، مع استثناء وحيد واضح للصين، يتوقع معظم الاقتصاديين أن يجلب عام 2021 النمو.[5]

وكان تقرير آفاق الاقتصاد العالمي (كانون الثاني 2021) قد توقع  أن يحقق الاقتصاد العالمي نموا قدره 5,5% في عام 2021 وبنسبة قدرها 4,2% في عام 2022. وقد تم تعديل تنبؤاتنا لعام 2021 بزيادة قدرها 0,3 نقطة مئوية مقارنة بالتنبؤات السابقة. ويأتي تعافي النمو المتوقع هذا العام في أعقاب الهبوط الحاد في عام 2020 الذي ترك آثارا عكسية بالغة على النساء والشباب والفقراء والعاملين في القطاع غير الرسمي فضلا عن العاملين في القطاعات التي تتسم بكثافة المخالطة. وتشير التقديرات إلى انكماش النمو العالمي في عام 2020 بنسبة قدرها -3.5%، بزيادة 0.9 نقطة مئوية عما كان متوقعا في التنبؤات السابقة .[6]

تؤكد الخبرة المكتسبة من نوبات الركود السابقة على أهمية تجنب العسر المالي وضمان الدعم الفعال من السياسات إلى أن يستقر التعافي على مسار ثابت. وستحتاج البلدان إلى تصميم سياساتها حسب مراحل الجائحة المختلفة، اعتمادا على مزيج من الدعم الأفضل استهدافا للأسر والشركات المتضررة، والاستثمارات العامة. وبينما يستمر التحسن في تغطية اللقاحات وانحسار النقص في الإمدادات، ينبغي أن تركز هذه الجهود على ثلاث أولويات: [7]

أولا: معالجة الانتكاسة التي أصابت تراكم رأس المال البشري. ولمعالجة زيادة عدم المساواة التي يرجح أن تسفر عنها الجائحة، ينبغي توسيع نطاق شبكات الأمان الاجتماعي، وتخصيص موارد كافية للرعاية الصحية والتعليم.

ثانيا: دعم الإنتاجية من خلال سياسات لتيسير الحركية الوظيفية وتشجيع المنافسة والابتكار.

ثالثا: تعزيز الاستثمار العام في البنية التحتية، ولا سيما البنية التحتية الخضراء للمساعدة على جذب استثمارات القطاع الخاص.

وأخيرا، سيكون التعاون الدولي الوثيق مطلوبا لمعالجة التباعد المتزايد بين أوضاع البلدان. فمن الضروري أن تتاح للاقتصادات التي تعاني من قيود مالية فرصا كافية للوصول إلى السيولة الدولية لتمويل الإنفاق على التنمية. وعلى الصعيد الصحي، يعني هذا أيضا ضمان كفاية إنتاج اللقاحات وتوزيعها عالميا – بما في ذلك عن طريق تمويل آلية كوفاكس تمويلا كافيا – لمساعدة البلدان النامية على دحر الجائحة.

الهوامش

[1] (يلين تدعو الدول الغنية إلى استمرار دعم الاقتصاد العالمي) مقال منشور على الرابط : https://www.alittihad.ae/news

[2]الموقع الرسمي لصندوق النقد الدولي الرابط :https://www.imf.org/ar/home

[3] (إدارة التعافي بمساراته المتباعدة) مقال منشور على الرابط : https://www.imf.org/ar/News/Articles/2021/04/06/Blog-WEO-Ch1-Global-Prospects-Policies

[4] (ندوب تندمل ببطء: تركة الجائحة) مقال منشور على الرابط : https://www.imf.org/ar/News/Articles/2021/03/31/blog-slow-healing-scars-the-pandemic-legacy

 

[5] (ما الذي ينتظر الاقتصاد العالمي في 2021؟) مقال منشور على الرابط : https://www.aljazeera.net/ebusiness/2021/1/6

[6] (مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي : دعم السياسات ونشر اللقاحات يعززان النشاط الاقتصادي) تقرير افاق الاقتصاد العالمي الرابط: https://www.imf.org/ar/Publications/WEO/Issues/2021/01/26/2021-world-economic-outlook-update

[7] (ندوب تندمل ببطء: تركة الجائحة) مقال منشور على الرابط : https://www.imf.org/ar/News/Articles/2021/03/31/blog-slow-healing-scars-the-pandemic-legacy