البابا يوحنا بولس الثاني يُقبل نسخة من القرآن الكريم
أ . م . حيدر خضير مراد
قسم الدراسات الدولية / مركز الدراسات الاستراتيجية
تشرين الثاني 2021م
يُعّد البابا يوحنا بولس الثاني – John Paulus II ( 1978- 2005م)(1) من أكثر الدعاة الى ارساء أسس السلام في العالم من بين بابوات الكنيسة الكاثوليكية في روما ومن أشد منتقدي ومعارضي الحرب وقد ساهمت السياسة التي اتبعها تجاه اصحاب الديانات الأخرى في تعزيز سبيل الحوار والتقارب بين الاديان وخصوصاً مع المسلمين مما عزز الدور السياسي الذي يقوم به الفاتيكان من أجل احلال السلام العالمي بين الشعوب.
فمنذ قرون طويلة هيمنت على العلاقات بين المسلمين والمسيحيين الكاثوليك قدر من عدم الثقة والاستياء الذي كان يستند الى أرث من ذكريات القمع والعنف المتبادل بين الطرفين، فلايزال المسلمون يتذكرون الحملات الصليبية التي شهدتها القرون الوسطى والتي مثلت انتهاكاً لحريتهم واستقلالهم تحت مسمى الدين(2)، ومن جانب أخر عانى الكاثوليك من توسعات الدولة العثمانية في أوربا وما صاحبها من اعتداءات(3)، الا ان النهج البابوي الذي سار عليه البابا يوحنا بولس الثاني ساعد في تحويل الصراع الى تعاون وفي تحويل عدم الثقة والتنافر الى تقارب بين المسلمين والكاثوليك، وقد ساعدت جهوده في هذا الميدان الى تجنب صدام الحضارات الذي كان الكثير يخشون من حدوثه بعد هجمات 11 أيلول عام 2001م التي نفذها بعض المنتمين الى جماعات الاسلام الراديكالي المتطرف ضد الولايات المتحدة الامريكية(4).
وقد قام البابا بأول خطوة في هذا السبيل سنة 1986م عندما دعا المسلمين وأتباع الديانات الأخرى الى الصلاة معاً كي يحل السلام في العالم(5).
وفي ربيع عام 2000م أصدر البابا بياناً اعتذارياً عن سائر خطايا الكنيسة الكاثوليكية باسم الدين، طوال الألفي سنة الماضية، وقد سمى البابا بيانه هذا باسم: الذكرى والمصالحة، وقد جاء هذا الاعلان بعد اعتذار عام 1992م عن اضطهاد غاليليو سنة 1633م، والذي كان عملاً أخر من أعمال الكشف عن الحقب المظلمة في تاريخ الكنيسة على رأس الألفية الثالثة، وقد أطلق البابا على عملية المراجعة هذه اسم: “التطهير التاريخي”، ومن بين الأعمال الشنيعة التي ارتكبت بحق اليهود والمسلمين والنساء والجماعات الإثنية، فإن الحروب الصليبية خُصَّت بالذكر في ذلك البيان، وقد تلقى المسلمون في الشرق الأوسط بيان البابا المذكور بفرح شديد، ففي سياق سلسلة الاعتذارات الدينية التي أصدرها البابا، صارت الحروب الصليبية مُدانة كما دينت المحرقة ضد اليهود(6)، وقد ساهم هذا البيان الاعتذاري في تعزيز التقارب والحوار بين المسلمين والكاثوليك واحلال اسس التفاهم بين الطرفين.
وفي أيار عام 2001م قام البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة رسمية للمسجد الأموي بدمشق ليكون أول حبر روماني أعظم يقوم بزيارة لأحد مساجد المسلمين(7)، وقد صرح اثناء زيارته هذه قائلاً: “أرجو من آعماقي ان يقدم كبار رجال الدين الإسلامي والمسيحي مجتمعيناً الدينين العظيمين باعتبارهما طرفي حوار قائم على الاحترام وليس طرفي نزاع”، وتابع وهو على خطوات من قبر صلاح الدين الأيوبي الذي استطاع تحقيق النصر على الصليبيين في حطين واسترجاع القدس من ايديهم، “نحن بحاجة الى ان نسعى لعفو من العلي القدير وان نقدم الصفح المتبادل عن كل العصور التي أذى فيها المسلمون والمسيحيون بعضهم البعض”(8).
وقد ساهمت مواقفه السياسية المعارضة للحرب واستخدام العنف ضد المسلمين وابناء الديانات الأخرى، في تعزيز صورة الفاتيكان كمساهم أصيل في صنع السلام العالمي، فمثلاً اثناء أزمة اعتصام الفلسطينيين في كنيسة المهد وحصار الجيش الاسرائيلي المكثف لها، وجه الفاتيكان تحذيراً شديد اللهجة الى إسرائيل متهماً إياها بعدم احترام الأماكن المقدسة، وطالب بفك الحصار فوراً (9).
كما أنه عارض بشدة الحرب على العراق عام 2003م، ورفض تماماً التدخل الأمريكي الأحادي في العراق، من منطلق ايمانه بأنها ليست حرباً عادلة وقد صرح قائلاً: “لا للحرب، الحرب ليست دائماً لا مفر منها، وهي دوماً هزيمة للبشرية”(10)، وقد أثار موقفه هذا حفيظة الإدارة الامريكية وامتعاضها، وكانت معارضته الصريحة للغزو الذي قادته الولايات المتحدة الامريكية على العراق محل تقدير خاص في العالم الإسلامي، وقد استحق هذا البابا بسبب التزامه ضد غزو العراق والحركة الدبلوماسية التي نتجت عن هذا الالتزام، ترشيحه لجائزة نوبل للسلام وهذا امر لم يسبق ان حصل عليه أي من البابوات في الماضي(11)، كل هذه المواقف السياسية التي اتخذها هذا البابا تؤكد المنهاج الذي اتبعه والذي وضع السلام والحوار بين الشعوب والديانات في مقدمة اولوياته، الأمر الذي عزز دور الفاتيكان في هذا الميدان، والعالم اليوم بحاجة الى رجال من هذا النمط تعمل بهمة واخلاص على تعزيز سبل التعايش السلمي بين شعوب عالمنا المعاصر لأرساء أسس السلام والمحبة كجزء من رسالة الاديان السماوية من أجل رفاه وخير البشرية جمعاء، وللتقليل والحد من الآثار السلبية والمدمرة للحروب والصراعات التي تعصف بالمجتمع البشري في العصر الراهن في مناطق مختلفة من العالم وتعاني من ويلاتها الشعوب الفقيرة والمستضعفة.
الهوامش:
- وهو كارول جوزيف فوتيلا ، ولد في 18 أيار 1920م في مدينة كراكاوا البولندية ، وانخرط في سلك الكهنوت عام 1946م واصبح أسقفاً عام 1958م وتدرج في المناصب الكنسية حتى أصبح حبراً أعظم للكنيسة الكاثوليكية عام 1978م خلفاً للبابا يوحنا بولس الأول ، كأول بابا غير ايطالي منذ عهد ادريان السادس ( 1522 – 1523م) ، توفي في 2 نيسان 2005 م . للمزيد عن سيرته انظر:
Mcbrien , Richard Peter , The pocket Guide to the popes , (New york , Library of Congress , 2006(,p.329 – 334.
- للمزيد عن هذه الحروب انظر: بالار ، ميشيل ، الحملات الصليبية والشرق اللاتيني من القرن الحادي عشر الى القرن الرابع عشر ، ترجمة: بشير السباعي ، (المريوطية : عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية ، 2003م) ، ص41 وما بعدها .
- انظر: حسون ، علي ، العثمانيون والبلقان ، ط2 ( د.م : المكتب الإسلامي ، 1986م) ، ص36 وما بعدها ؛ رنسيمان ، ستيفن ، تاريخ الحملات الصليبية ، تر: نور الدين خليل ، ط2 (جنيف : د. مط ، 1993م) ، ج3 ، ص514 وما بعدها .
- موقف البابا يوحنا بولس الثاني من قضايا الشرق الأوسط ، مقال منشور على الرابط : https://www.dw.com/ar
- موقف البابا يوحنا بولس الثاني من قضايا الشرق الأوسط ، https://www.dw.com/ar
- رستون ، جيمس ، مقاتلون في سبيل الله ( صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد والحملة الصليبية الثالثة ) ، ترجمة: رضوان السيد ، ط1 (الرياض : مكتبة العبيكان ، 1423هـ/2002م) ، ص20.
- يوحنا بولس الثاني ، من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ، الرابط على الانترنيت : https://ar.wikipedia.org/wiki
- موقف البابا يوحنا بولس الثاني من قضايا الشرق الأوسط ،
- للمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع انظر: حصار كنيسة المهد ، من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ، الرابط على الانترنيت :
- يوحنا بولس الثاني ، من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة ، الرابط على الانترنيت : https://ar.wikipedia.org/wiki
- لمحة عن المنهج البابوي للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني ، مقالة على موقع الشرق ، الرابط الالكتروني : https://www.dw.com/ar