أ.م. د. حيدر خضير مراد اليساري
باحث مشارك في قسم الدراسات السياسية / مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء
كانون الثاني 2022م
يعدّ القديس أوغسطين أشهر آباء الكنيسة الكاثوليكية على الإطلاق، وكان لآرائه واجتهاداته النظرية تأثير هائل في فكر الكنيسة الغربية في العصور الوسطى، ويعد من أكثر المفكرين الغربيين ثقافة في موضوع الحرب وفلسفتها، وقد وضع أسس نظرية الحرب العادلة في الفكر المسيحي، ولا يزال لاجتهاداته الفكرية في هذا الموضوع أثر كبير في العقل الغربي وموقفه من الحرب، فمن هو القديس أوغسطين؟
هو اوريليوس أوغسطين، ولد في تاغست ( حالياً سوق أهراس في الجزائر) عام 354م، وتوفي عام 430م في مقاطعة هيبو، وقد عاش حياته كلها، فيما خلا خمسة أعوام منها، في شمال أفريقيا الخاضع للحكم الروماني، وكان خلال الأربعة والثلاثين عاماً الأخيرة من عمره أسقفاً لمدينة هيبو البحرية ( تمثلها الآن مدينة عنابة بالجزائر)، وفي ميناء هيبو كانت الكتب حكراً على القديس أوغسطين، ولم تكن خلفية عائلته ذات ثقافة عالية، فقد حصل هو على الثقافة عن طريق التعليم، وعن طريق كتاباته التي يتجاوز ما تبقى منها ما وضعه أي مؤلف قديم، امسى يُمارس أثراً واسعاً لا في معاصريه وحسب، بل، وخلال السنوات اللاحقة أيضاً، في الغرب بأسره(1).
كان القديس أوغسطين أول مفكر مسيحي عالج مسألة تبرير الحرب على أساس ديني(2)، إذ انكب في القرن الخامس الميلادي على دراسة مسألة الحرب من جوانبها المختلفة(3)، وربما لا يزال يعد أبرز عالم لاهوتي عالج تلك المسألة على أسس مسيحية ماهرة(4)، وفي سعيه للتعامل مع موضوع الحرب اعتمد أوغسطين، ليس فقط على تعاليم الديانة المسيحية، ولكن أيضاً على القانون الروماني وحكمة الفلاسفة القدماء من أمثال شيشرون(5).
وقد حاول أن يضع تعريفاً للحالة التي تصبح الحرب فيها حرباً عادلة (bellum justum )، وقد خضعت الشروط التي وضعها أوغسطين للحرب العادلة بعد مدة من الزمن للتبسيط الشديد من جانب علماء اللاهوت الكنسي(6)، بحيث اختصرت في ثلاثة شروط، هي:
1 – أن يكون هناك سبب عادل يسوغ شن الحرب، وعادة ما يكون هذا السبب العادل عدواناً أو عملاً ضاراً أتاه الآخرون(7).
2 – أن يرتكز قرار الحرب على سلطة شرعية، وفي الاغلب تكون هذه السلطة علمانية(8).
3- يتمثل الشرط الثالث بالهدف القويم، وهو ما يعني أنَّ كل مشارك في الحرب ينبغي أن تكون دوافعه نقية وسامية، كما يجب أن تكون الحرب هي الوسيلة الوحيدة المتاحة، لتحقيق الهدف العادل أو لاستعادة الحقوق المنتهكة(9).
وكان القديس أوغسطين مقتنعاً بأن أهل الحق مجبرون أحياناً على شن الحرب نتيجة لأخطاء الأشرار(10)، وفي رأيه أنّ هدف كل حرب هو السلام، ومن ثَمَّ كانت الحرب أداة للسلام، ولا ينبغي القيام بها إلا لفرض السلام(11)، ولكن السلام الذي ينشده القديس أوغسطين ليس سلامًا مطلقًا، لأن كل طرف يشن الحرب – في رأيه- من أجل السلام الذي يناسبه ويتوافق مع مصالحه، بغض النظر عن مصالح الآخرين(12).
وفي رأيه أنَّ الحرب العادلة تنتقم للأضرار، بمعنى أنّ الحرب تكون مبررة عندما يتجاهل شعب ما، أو مدينة ما معاقبة الأخطاء التي ارتكبها مواطنوها، او لاستعادة شيء ما جرى الاستيلاء عليه دون وجه حق(13).
وهكذا تعامل أوغسطين مع التعاليم المسيحية التي وردت في الكتاب المقدس عن الحرب، بإعادة تقييمها سياسياً، مما أدى إلى تغير الموقف الفكري للكنيسة الغربية من الحرب، بحيث أصبحت الحرب ضرورية بعد أن كانت خطيئة بطبيعتها(14)، وبذلك استطاع أوغسطين أن يهزم الاتجاه السلمي، الذي تميزت به المسيحية الباكرة، وكان حريصًا على صياغة ايديولوجية الحرب العادلة، بالشكل الذي يسوغ استخدام القوة لمصلحة الكنيسة(15)، ومن هذا الخط بدأ التطور الذي أدى إلى وجود فكرة الحرب المقدسة ثم الفكرة الصليبية داخل نطاق فكرة الحرب العادلة، التي لم تكن تفرق بين الحرب الهجومية والحرب الدفاعية(16)، وقد شكلت آراؤه التي تبناها في موضوع الحرب العادلة تراثاً ثميناً سار عليه المفكرون الغربيون اللاحقون، سواء في العصور الوسطى أو العصر الحديث(17)، وإنَّ ما تقوم به بعض دول الغرب في عصرنا الراهن، من شنّ حروب وقائية استباقية، على بعض البلدان تحت ذرائع وحجج مختلفة، كنشر الديمقراطية والحرية، والدفاع عن حقوق الانسان، ومحاربة الارهاب، له جذور تاريخية عميقة، تضرب بعيداً في عمق التاريخ الأوربي، وفكر آباء الكنيسة الغربية في العصور الوسطى.
الهوامش :
- هنري تشادويك، أوغسطينوس: مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: أحمد محمد الروبي، ط1 (القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2016م)، ص9-10 .
- قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية، (الكويت: عالم المعرفة، 1990م) ، ص29 .
- ديفيد فيشر، الأخلاقيات والحرب: هل يمكن أن تكون الحرب عادلة في القرن الحادي والعشرين؟ ترجمة: عماد عواد، سلسلة عالم المعرفة، العدد 414، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2014)، ص105 -106 .
- قاسم، ماهية الحروب الصليبية، ص29 .
- فيشر، الأخلاقيات والحرب، ص 106 .
- جوناثان رايلي سميث، ما هي الحروب الصليبية، ترجمة: محمد فتحي الشاعر، (القاهرة: دار المعارف ،1991م)، ص10 .
- قاسم، ماهية الحروب الصليبية، ص29 .
- سميث، ما هي الحروب الصليبية، ص10 .
- المرجع نفسه، ص10.
- قاسم عبده قاسم، الخلفية الإيديولوجية للحروب الصليبية دراسة عن الحملة الأولى 1095 – 1099م، ط1 ( المريوطية: عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية ، 1999م )، ص15 .
- Frederick H Russell, The Just War in the Middle Ages, (Cambridge: Cambridge University Press,1975),p.16.
- قاسم، ماهية الحروب الصليبية، ص29.
- فيشر، الأخلاقيات والحرب، ص 106.
Russell, The Just War,p.18.
- Russell, The Just War,p.17.
- قاسم، الخلفية الإيديولوجية، ص17 .
- المرجع نفسه، ص17.
- العباسي كهينة، المفهوم الحديث للحرب العادلة، رسالة ماجستير غير منشورة، (الجزائر: جامعة مولود معمري تيزي وزو، كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2011م)، ص2 .