الكاتب: أ.م. مؤيد جبار حسن/ قسم الدراسات الدولية/ مركز الدراسات الاستراتيجية
بلاد ما بين النهرين (العراق حاليا) كانت أولى الحضارات التي عرفت القانون ودونته في (مسلة حمورابي) والتزمت به، لكنها اليوم تعاني من حالة انفلات وفوضى، بسبب عدم الاحتكام للقانون، واللجوء إلى بدائل اخرى، كالاقتصاص الشخصي والاعراف القبلية وغيرهما.
مثلت حادثة الاعتداء والتعذيب، التي تعرض لها المواطن البابلي، من قبل أجهزة التحقيق، لأجل انتزاع الاعترافات، واحدة من عشرات بل مئات الحالات المشابهة. بسبب أن أسلوب التحقيق في الواقع يختلف عن الأسلوب الواجب اتباعه عن اجراء التحقيق، إذ تعد طرق التهديد والشتيمة والضرب نهجًا متبعًا لانتزاع الاعترافات في أغلب المؤسسات الأمنية، وهذا ما لاحظته المنظمات الدولية والمحلية واستنكرته، وأشار إليه الكثير من الحقوقيين والسياسيين والنشطاء في مجال حقوق الانسان.
كذلك حادثة جبلة، التي سقط فيها العشرات من المدنيين بين امرأة وطفل، في حادثة تؤشر تعدد القرار الامني، لدرجة الفوضى وتداخل ما هو شخصي بما هو رسمي، وافتقاد العنصر الأمني للخبرة والتدريب والدراية المناسبة للتصرف في هكذا مواقف، فضلا عن التعبئة الطائفية التي سببت للعراق، وما زالت تسبب، الكثير من المآسي والتراجيديا اليومية.
لكن، لماذا لا نسير حسب اللوائح في موضوع الاعتقال والحبس والتحقيق وحقوق المتهم أو السجين كانسان قبل كل شيء؟ هل الامر له جذور في التربية والنشأة العراقية التي تقوم على مبدأ التهذيب والتخويف والألم الجسدي (الضرب)؟ وهذا ما عشناه ورأيناه في المدرسة والبيت والشارع، أم إنَّ مردَّ ذلك يعود إلى قضايا أخرى لا علاقة لها بذلك؟
بعض الأسباب لهذه الظاهرة:
تاريخية: تتعلق بطبيعة نشوء الدولة والظروف التي واكبت ذلك، فضلا عن الاوضاع الاجتماعية فيها، من غلبة الفتوات وسيطرة الاقوياء على الحارات والمدن، وهيمنة شيوخ العشائر والباشوات على الريف.
سياسية: تتعلق بطبيعة تولي السلطة، فجميع من وصل إلى سدّتها جاء نتيجة الفرض والاجبار والقوة المهيمنة الطاغية، حتى عهد الديمقراطية الأخير فُرِض من قوات محتلة غازية متهمة بقتل المئات من المدنيين والآلاف من العسكريين العراقيين .
اجتماعية: تتعلق بطبيعة المجتمع العراقي وتركيبة الأسر فيه، إذ إنّه مجتمع ذكوري الغلبة فيه للاب ثم الابناء الذكور، ولا رأي ولا كلمة للنساء، حتى وصل الأمر إلى عدَّهن جزءًا من الدية، يتم تسليمهن إلى عائلة بيت المقتول، أو ما يسمى (الفصلية)
دينية: إذ إنَّ هناك رأيًا يرى في القانون صنيعة البشر الخطّاء، ولا يجب الاحتكام اليه، في المقابل وجود قانون الهي أنزله الله على أنبيائه (الشرائع السماوية).
النتائج:
- هدر هيبة الدولة التي تعد المطبق والمنبع الرئيس للقانون .
- الاستغلال غير المهني للوظيفة الحكومية لغايات شخصية، وقد تكون بعض دوافعه نفسية وشوفينية (التعذيب والتلذذ به).
- مع ضعف قانون الدولة برز إلى الوجود مرة أخرى قانون العشائر، الذي يقوم على مجموعة من الاعراف، إذ يلجأ الافراد إليه لغرض الحماية وحل النزاعات واسترجاع الحقوق.
- الانصراف عن الاحتكام لقانون الدولة أدى إلى فوضى عارمة تضرب بأطنابها مفاصل الحياة العامة جميعها.
والحل الوحيد لمشكلة غياب الاحتكام للقانون، هو عودة المجتمع بأفراده كافة: حاكمين ومحكومين، إلى الاعتماد على القانون، بوصفه الحل الوحيد لإعادة الأمور إلى نصابها، ودونه الفوضى التي نراها اليوم.