م.د. بلسم عباس حمودي / مركز الدراسات الاستراتيجية
آذار 2022
التعبير القرآنيّ تعبير فني مقصود، يسمو فوق أنماط التعبير الأخرى، كل لفظ فيه وضع وضعًا فنيًا مقصودًا، في غاية الروعة والجمال. فالقرآن الكريم يتأنق في اختيار الألفاظ فكل لفظ من ألفاظه يؤدي معناه في دقة فائقة، تكاد تؤمن معها بأنَّ هذا المكان إنَّما خلق له هذا اللفظ دون سواه، وأنَّ كلمة أخرى لا تستطيع توفية المعنى الذي وفت به أختها. من ذلك قوله تعالى في تشبيه حال المنافقين واضطرابهم في أمر الدين: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ﴾(البقرة:17)، فقد قال تعالـى: (بنورهم)، ولم يقل: (بضوئهم) المتسق مع قولـه: ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ﴾, وذلك لأنَّ ذِكْر النور أبلغ في الدلالة، لأن الضوء فيه دلالـــة على الزيادة. فلـــو قيل: (ذهب الله بضوئهم)، لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نورًا، والغرض إزالـــة النور عنهم رأسًا وطمســه أصلًا. وهذا الاختيار اللفظي الدقيق والمحكم يتناسب مع الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم, ولهذا السر الدلالي الجليل آثر القرآن الكريم التعبير (بنورهم) بدل (بضوئهم).
وتأمل قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾(النحل/112)، فقد جعل الله عزّ وجلّ هذه القرية التي هذه حالها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. فقد رسم النص القرآني صورة معبرة بألفاظ فيها من الدقة والفصاحة والصور البيانية التي لا يمكن أن تؤديها غيرها، إذ قال تعالى: ﴿أذاقها الله﴾ و﴿لباس الجوع والخوف﴾ وفي التعبير بـ(أذاقها) إشارة إلى أن الإيلام مسَّ نفوسهم، فالإذاقة في الأصل تعبر عن الاحساس بالطعام حلاوته ومره، وعبرت في الآية الشريفة عن الشعور بإحساس الألم والمعاناة؛ ليعطي للمتلقي صورة مركبة عن تمكن هذا الألم وهذه المعاناة منهم واستقراره فيهم.
أما قوله تعالى: ﴿لباس الجوع والخوف﴾ فجعل اللباس مستعارًا لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف، بأن شبَّـه ما يغشى الإنسان ويلتبس به من أثر الجوع والخوف باللباس الحقيقي، والجامع بينهمــا كونهمــا مشتملين على الإنسان وغاشيين له. ولهذا جاء التعبير ( لباس الجوع ) إذ يحصل من لفظ ( لباس) في الآية المبالغة في عموم الجوع والخوف، وهذا المعنى يفوت لو جاء التعبير (طعم الجوع).
وقد آثر القرآن الكريم لفظ (الاستواء) في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾(هود/44) على غيره، ولم يقل سبحانه: (رست أو استقرت)؛ لأن الاستواء يدل على معنى لا يدل عليه واحد من نظيريه المذكورين.
فالاستواء يدل على الاستقرار أو الرسو المطمئن مع اعتدال الوضع. أما الرسو والاستقرار فقد يكونان على غير وضع الاعتدال، كأن ترسو السفينة أو تستقر وهي منكسة مثلا على الشاطئ. والاستقرار المعتدل الوضع هو المعنى المطلوب في جانب نجاة المؤمنين من الهلاك وسلامتهم من الطوفان.
ومن بديع اختيار الألفاظ اسـتعمال القرآن الكريم لفظ (نفحة) بهيئة مصدر المرة، وإســناد (المسَّ) إليها دون فعل آخر في قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾(الأنبياء/46) ففي نظم هذه الكلمات من جزالة اللفظ وإحكامه ووضوح المعنى ما لا يتأتى مثله في كلام البشر. فقد سيقت هذه الألفاظ لإظهار هول العذاب، وذلك بإظهار التأثير الشديد لأقلَّه، فإنَّ جميع ألفاظ الجملـة تفيد التقليل، كي يظهر الهول وشـدة العذاب في الكثير منـه، ففي المس والنفحة مبالغة، لأن النفح في معنى القلة والنزارة، وهي لبناء المرة. وقيل: أصل النفح من الريح اللينة والمعنى ولئن مسهم شيء قليل من عذاب الله كالرائحة من الشيء دون جسمه، لتنادوا بالويل واعترفوا على أنفسهم بالظلم. فضلا عن أن تنكير لفظ (نفحة) يفيد التقليل أيضا، فما ظنك بعذاب يدفع قليله، من حلَّ به، إلى الإقرار باستحقاقه إياه وإنشاء تعجبه من سوء حال نفسه.
ومن بديع اللفظ إيثار القرآن الكريم استعمال كلمة (انسلخ) في قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾(الأعراف/175) للدلالة على الإقلاع عن العمل بما تقتضيه الآيات من فساد دين الجاهلية. ومعنى انسلخ: خرج منها، يقال لكل من فارق شيئا بالكلية انسلخ منه. فقد ذكر الباري عز وجل حال من آمن به ثم بعد ذلك كفر، كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما اطلعوا عليه من كتب الله المنزلة، وتبشيرها به، فلما بُعث كفروا به. إنَّ في الانسلاخ من الآيات، مبالغة في التبري منها، والبعد. أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه من إتيانه آياتنا، فجعل كأنه ملتبسًا بها كالثوب فانسلخ منها، وهذا من إجراء المعنى مجرى الجزم.
والانسلاخ لغة: هو اخراج الشيء عن جلده. ثم يُحْمَلُ عليه. وهذا اللفظ يرسم لنا الصورة عنيفة فظيعة. فكان خروج هذا الرجل عن طاعة الله إلقاء لستوره وما يحفظ عليه أمره، فهو – بعد- لا يلوى على شيء من أسباب الكرامة ودواعي التوقير. ويفهم من التعبير معنى آخر، ذلك إنَّ الانسلاخ للشاة لا يكون إلا بعد الذبح، ومحال أن يسلخ جلد شاة وهي على قيد الحياة. وفي هذا تضمين يوحي بأنَّ هذا الرجل ومن كان على شاكلته أموات غير أحياء. فما أروعه وأحكمه من استخدام لهذه الكلمة، لما تحمله من دلالات تعجز أي كلمة أخرى أداء وظيفتها.
وروائع القرآن الكريم في الاختيارات اللفظية لا يمكن احصاؤها وعدّها، وما ذُكر، هو نزر يسير من فيض الذكر الحكيم، فالقرآن الكريم نظام لغوي محكم اختيرت ألفاظه اختيارًا مقصودًا، فكل لفظ من ألفاظه استعمل استعمالًا دقيقًا جدًا في موضعه، من أول القرآن حتى آخره، ليدل على معنى يعجز غيره من الألفاظ الدلالة عليه، ويصور لنا الحالة تصويرًا وكأنه حدث نشاهده، ليعطي المتدبر حقيقة هذه الصورة كما أرادها الخالق سبحانه وتعالى.