ميثاق مناحي العيسى
آذار/ مارس 2022
تشير السيادة الداخلية إلى الشؤون الداخلية للدولة، وموقع السلطة العليا داخل هذه الدولة، ومن ثَمَّ فإنَّ السيادة الداخلية هي هيئة سياسية تمتلك سلطة قصوى نهائية ومستقلة، سلطة قراراتها ملزمة لكل المواطنين، والمجموعات والمؤسسات في المجتمع. إنَّ مهمة تحديد موضوع السيادة الداخلية في الحكومة الحديثة، أمر صعب بشكل خاص، ويكون ذلك أوضح ما يكون في حالة الدول الفيدرالية، أو مع مبادئ الليبرالية الديمقراطية، أو مع اللامركزية، إذ أدخلت هذه المفاهيم، شخصيات قانونية غير الدولة، بنقل صلاحيات أكثر أو أقل أهمية، وهذه الشخصيات هي الجماعات الداخلية التي استفادت من هذا النهج. ويأخذ الرباط المحافظ على السلطة المركزية شكل الرقابة الإدارية التي تتفحص من جهتها غير المركزية الممثلة للدولة([i]). إذ يعدَّها بعض المفكرين بأنَّها نقيض للسيادة؛ لأنها تدعو إلى توزيع السلطة بين عدد من المؤسسات، التي لا أحد منها يستطيع الادعاء بشكل له معنى، بأنَّه يتمتع بالسيادة، بالرغم من اعتقاد روسو، بأنَّ السيادة تكمن في الجماهير “الإرادة العامة”. أمَّا في الدول الفيدرالية كالعراق، فإنَّ الحكومة تكون مقسمة إلى مستويين، وتمارس كل مجموعة من السلطات المستقلة ذاتياً. وكما يعتقد كثيرون، بأنَّ الفيدرالية تتضمن تقاسم السيادة بين هذين المستويين، بين المركز والمحيط. غير أنَّ الفيدرالية في تطورها لمفهوم السيادة المقسومة أو المشتركة، قد حَرَّكت التصور بعيدًا عن الاعتقاد التقليدي في سلطة سيادة مفردة وغير قابلة للقسمة. فضلا عن ذلك، فإنَّه من الممكن افتراض أنَّ كلا المستويين من الحكم، لا يمكن في النهاية وصفهما بأنَّهما ذوو سيادة؛ لأنَّ السيادة تترك للوثيقة التي تخص سلطة كل مستوى “الدستور”، ويمكن بالطبع القول: بأنَّ السيادة القانونية في العراق تكمن في الدستور؛ لأنه يحدد سلطات الحكم الفيدرالي، ويوزع الواجبات والسلطات والوظائف، والرئاسة والمحكمة الاتحادية، ومن ثَمَّ فإنَّه يحدد طبيعة النظام الفيدرالي، لكن نظرًا لامتلاك المحكمة الاتحادية العليا سلطة تفسير الدستور، يمكن أن يفترض أنَّ السيادة تكمن في المحكمة الاتحادية، مع ذلك لا يمكن وصف المحكمة الاتحادية بدقة بأنَّها الحكم الدستوري الأعلى، بما أنَّ تفسيرها للدستور يمكن أن يسقط بواسطة تعديلات للوثيقة الأصلية. بهذا المعنى يمكن القول بأنَّ السيادة تكمن في الآلية المخولة بتعديل الدستور ومقدار نسبها، سواء كانت بنسبة معينة أو بالأغلبية المطلقة أو البسيطة. لكن في الأخير يمكن القول بأنَّ السيادة في العراق هي للشعب العراقي، بما تتضمنه المواثيق الدستورية والسلطات العامة([ii]). لذلك علينا أولاً تحديد نوع المنظار الذي نضعه في تقييم التجربة العراقية بعد عام٢٠٠٣، “كما يقول رئيس الوزراء العراقي السابق السيد عادل عبد المهدي” فالدول تتخلى طوعًا أو كرهًا عن سيادتها في أمور، كما عند الانتماء للمنظمات الدولية، والقبول بأن تكون مواثيقها حاكمة عليها في عدة أمور(سياسية واقتصادية، وتجارية، وأمنية)، أو عند التوقيع على معاهدات أو اتفاقات دولية مع دول أو تحالفات، كالتحالف الدولي الذي تشَّكل ضد تنظيم داعش في العراق، بعد اجتياح محافظة نينوى؛ لذلك نقول في التجربة العراقية جعلت المصادقة على الاتفاقات والمعاهدات الدولية في العراق بيد السلطة التشريعية، باعتبار أنَّها من تستطيع أن تقرر مصالح البلاد وطرق الحفاظ على سيادتها. فضلاً عن ذلك يجب استحضار الطبيعة الحقيقية والعوامل المهيمنة لهيكلية النظام العالمي والعلاقات بين الدول، أين موقعنا من هذا النظام، فهل نحن في قممه ودوائره العليا ولنا كلمة وقرار في تلك الدوائر، أم نحن في مراتبه الدنيا، نُحكم ونُقاد بآليات مباشرة وغير مباشرة، وما أوزان هذه وتلك؟ فهذه القضايا تصبح هي الحاكمة والمقررة عمليًا لسيادتنا الحقيقية، وليس الشكليات والنصوص الورقية([iii]).
هذه الإشكاليات والتقاطعات أسهمت إسهامًا كبيرًا في تعقيد أزمة السيادة العراقية، وحتى إن سلمنا بالسيادة في الدستور العراقي النافذ عام ٢٠٠٥، فالدستور يحمل ثغرات كبيرة كشفتها التطبيقات العملية، أو تلك التي لم يلتفت لها المشرعون، فضلاً عن ذلك، فإنَّ الدستور اخضع لمزاجية القوى السياسية وإرادتها، وفُسرت الكثير من فقراته ومواده سياسيًا، مما افقده الكثير من المعاني الحقيقية بوصفه القانون الاسمى للبلاد. فصار الدستور في كثير من الأحيان عامل فوضى وانقسام بدل أن يكون عامل حسم لإرادة الأمة، وعامل وحدة واستقرار لسيادته. أما إذا سلمنا بالسيادة المتمثلة بالسلطة التشريعية، أو المحكمة الاتحادية، فكلاهما قد اخضعت لمزاجية القوى السياسية والسلطة التنفيذية أيضاً. بموازاة ذلك، فالتجربة العراقية بعد عام2003 ما تزال بعيدة عن السيادة الشعبية بمعناها الدستوري والسياسي، في ظل التلاعب بنتائج الانتخابات، وعدم نزاهة العملية الانتخابية، ووجود للقوات الأجنبية والجماعات المسلحة، وتحكمها بالقرار العراقي بشكل أو بآخر. فضلاً عن ذلك، فإنَّ النظام اللامركزي والفيدرالي الذي طُبق في العراق بعد عام٢٠٠٣، وضع المحافظات والحكومات المحلية وإقليم كردستان، وطرح ويطرح أسئلة عديدة في سلسلة من الأمور السيادية، وتحديد اختصاصات الحكومة الاتحادية أو الحكومات المحلية، أو كدور القوى المسلحة الموروثة من مرحلة الكفاح ضد النظام السابق داخلياً، كالبيشمركة أو بدر أو غيرهما، أو مدى التحكم بالمنافذ الحدودية والمطارات والسياسات الاقتصادية والنفطية والسياسية. بل افرزت الخلافات المكوناتية حالات من الطعن بسلطة الدولة، وما تزال تمثل تحديًا كبيرًا أمام سلطة الدولة وسيادتها على أراضيها. هذه جميعها تعقد المشهد السيادي،
(*). المقال عبارة عن مطلب مستل من بحثنا الموسوم (إشكالية السيادة في عقيدة الأحزاب السياسية العراقية: دراسة في المقاربة الإسلامية – العلمانية) الفائز بالمرتبة الاولى في المسابقة العلمية التي نظمها معهد العلمين عن (أزمة العراق سياديًا) بتاريخ 4/12/2021
1)).جاك باغنار، الدولة…مغامرة غير أكيدة، ترجمة نور الدين اللباد، ط١، مكتبة مدبولي، القاهرة،٢٠٠٢، ص112.
2)). أندرو هيوود، النظرية السياسية: مقدمة، ترجمة: لبنى الريدى، ط1، المركز القومي بالترجمة، القاهرة، 2013، ص167-170.
(3).عادل عبد المهدي، أزمة العراق سيادياً، إعداد: محمد بحر العلوم، ط1، العلمين–دار العارف للنشر، النجف، 2021، ص64.