أ.م.د. حمد جاسم محمد
قسم إدارة الأزمات
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
6 نيسان 2022
تعود أحداث التوتر بين روسيا وأوكرانيا، إلى أعوام سبقت الهجوم الروسي يوم 24 شباط 2022. إنَّ توجهات أوكرانيا نحو الغرب أصبحت عامل قلق لموسكو، فبعد الاحتجاجات الأوكرانية التي اندلعت عام 2014، وإقصاء الرئيس الأوكراني المنتخب (فيكتور يانوكوفيتش) عن السلطة، وتعيين حكومة مؤقتة اتخذت عدة قرارات، منها: توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوربي، وتعديل الدستور، وإلغاء القانون المتعلق باللغات الإقليمية، الذي سمح للمدن الأوكرانية التي تضم أقليات روسية كبيرة، باستخدام لغاتهم الخاصة في إداراتهم المحلية، كذلك عمليات تطهير كبيرة ضد كبار الموظفين المرتبطين بروسيا، وظهور دعوات بإنهاء وجود الاسطول الروسي في شبه جزيرة القرم. فسرت موسكو هذه القرارات بأنَّها استهداف مباشر لها، فاتخذت عدة خطوات، منها: ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ودعم الأقليات الروسية في إقليم الدونباس (لوغانسك ودونيتسك)، والتي طالبت بالانفصال عن أوكرانيا، وبعد مواجهات عديدة بين الانفصاليين في الشرق والجيش الأوكراني، عقدت معاهدة مينسك في بلاروسيا عام 2015، والتي أكدت على وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى والمعتقلين، وإقامة منطقة عازلة، ومراقبة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي لوقف إطلاق النار، والحدود الروسية الأوكرانية. إلا أنَّه ما زادت الامور سوءا بعد انتخاب الممثل الكوميدي (فولوديمير زيلينسكي) رئيسا لأوكرانيا عام 2019، زادت الأمور سوءًا، إذ بدأت أوكرانيا تتجه بشكل أكبر نحو الغرب، ولاسيما إعلان رغبة كييف في الانضمام إلى حلف الأطلسي والاتحاد الاوربي، ثم استقدام مدربين من الحلف وشراء الأسلحة الغربية المتقدمة، فضلا عن كشف وجود عسكري دائم لبعض دول الناتو، مثل: الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، ثم حشد أوكرانيا لقوات عسكرية كبيرة على حدود دونباس، بهدف استعادة المنطقة بالقوة، والقصف العسكري المستمر على جمهوريتي: لوغانسك ودونيتسك، عندها حشدت روسيا قواتها العسكرية مقدرة بـ (150 ألف جندي) على حدودها مع أوكرانيا، في أثناء ذلك أعلنت روسيا اعترافها بجمهوريتي: (لوغانسك ودونيتسك) دولتين مستقلتين في 21 شباط 2022، بعدها أعلن الرئيس الروسي بدء الهجوم العسكري على أوكرانيا في 24 شباط 2022، الهدف المعلن منها هو نزع سلاح أوكرانيا، والقضاء على القوميين المتطرفين، ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، أو إقامة أحلاف عسكرية أو قواعد عسكرية على أراضيها، وما زالت العملية العسكرية مستمرة، ووصلت إلى محاصرة العاصمة كييف، واحتلال عدة مدن في شرق البلاد وجنوبها، وتدمير معظم القوة العسكرية الأوكرانية ولا سيما القوة الجوية، والسيطرة على سواحلها في البحر الاسود وبحر ازوف بشكل كامل، وتدمير شامل للمقرات العسكرية والمطارات. وعلى الرغم من إجراء عدة جولات من المفاوضات بين الطرفين، والتي بدأت أولها في بلاروسيا ثم انتقلت إلى تركيا، والتي أحرزت بعض التقدم ولا سيما بما يتعلق بالمطالب الروسية، والخاصة بحيادية أوكرانيا وعدم انضمامها إلى حلف الناتو، ومستقبل القرم والدونباس، إلّا أنَّ القتال ما زال مستمرًا، لا سيما ان بعض دول الغرب تحاول اطالة القتال، من أجل تحقيق مصالحهم وانهاك روسيا.
لأكثر من شهر ونصف من العمليات العسكرية الروسية المستمرة ضد أوكرانيا، وما خلفته من دمار على مستوى المنشآت العسكرية والمدنية الأوكرانية، وآلاف الضحايا والجرحى، فإنَّ مستقبل الحرب لا يتوقف على إعلان وقف إطلاق النار، أو عقد اتفاق سلام بين الدولتين، بل يتعدى ذلك إلى ظهور آثار تداعيات على روسيا وأوكرانيا من جهة، وعلى دول العالم من جهة أخرى قد تستمر إلى سنوات طويلة، منها:
- إنَّ دخول روسيا بمواجهة عسكرية مع أوكرانيا، وبالرغم من كل ما تحققه من تقدم عسكري فيها، وفرض شروطها عليها، إلا أنَّ تداعيات تلك المواجهة على الداخل الروسي تبقى لها أثر كبير، إذ إنَّ الاقتصاد الروسي يعتمد اعتمادًا أساسيًا على تصدير النفط والغاز وبعض السلع الغذائية، وتعد أوروبا سوقا مهمة لهم، لقربها من مصدر الطاقة الروسية، وإنَّ فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وتقليل الاعتماد على الطاقة منها، والبحث عن بدائل، والتي هي متوفرة في مناطق ليست بعيدة عن أوروبا، سيكون له تداعيات على اقتصادها مستقبلا، كما أنَّ امتلاك روسيا لترسانة عسكرية متطورة كبيرة، لا يعفيها من عواقب استنزافها مع طول مدة الحرب، إذ إنَّ أوكرانيا لا تستخدم حرب المواجهة، بل جر الجيش الروسي إلى حرب مدن من أجل انهاك قوته، كما أنَّ روسيا كدولة كبرى وعضو دائم في مجلس الأمن وثقلها العالمي، لا تقارن بأوكرانيا التي كانت جزءا منها، وإنَّ الحرب معها لا تحقق لروسيا هيبتها وأمنها حتى لو انتصرت فيها، لأنَّ الدعم الإعلامي والتصريحات بدفع الشعب الأوكراني إلى معادات روسيا، عن طريق اظهارها كدولة معتدية ترتكب الجرائم ضدهم، فضلا عن استقطاع أجزاء من أرضهم.
- ما يخص أوكرانيا فإنَّ الحرب وما الحقته فيها من دمار شمل البنى التحتية العسكرية والمدنية، وآلاف الضحايا والخسائر الاقتصادية، التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات، كما أنَّ المفاوضات بين الدولتين، والتي قد تفرض اتفاقية سلام عليها، تجبرها على التنازل عن أجزاء واسعة من أراضيها، ولا سيما ذات اهمية اقتصادية واستراتيجية، مثل: القرم والدونباس، فضلا عن وجود تقارير تتحدث عن احتمالية اقتطاع أجزاء أخرى من الشرق، مثل: خاركيف وسومي، ومن الجنوب في أوديسا وميكولايف، وحرمانها من أي سواحل على البحر الاسود وبحر آزوف، وهو ما يحرمها من موانئها، فضلا عن نزع سلاحها وفرض الحياد عليها، ومنع اقامة أي احلاف عسكرية أو قواعد فيها، كل ذلك لا يمكن أن يتقبله الشعب الأوكراني، وهو ما يقود إلى محاسبة قيادته، والتي كان لها أن تعقد اتفاقية مع روسيا بأقل من هذه الخسائر، وتتجنب كل هذا الدمار الكبير، الذي يتطلب مئات المليارات لإعادة الإعمار، لا سيما أنَّ الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة قد لا تساعد أوكرانيا، إذا عقدت اتفاقية سلام مع روسيا، فلن تكون لأوكرانيا حينها، تلك الاهمية التي كان الغرب يحلم بها سابقا.
- دوليا، أحدثت الحرب حالة من الشك والخوف وعدم اليقين، من تصرفات الدول التي تمتلك القوة العسكرية والاقتصادية، وتمتلك الهيمنة في مجلس الأمن الدولي، والذي يجعلها في حلٍّ من تطبيق القانون الدولي والانساني. فحالة أوكرانيا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد سبقها الاحتلال السوفيتي لأفغانستان عام 1979، ثم الاحتلال البريطاني لجزر فوكلاند 1982، بعدها جاء الاحتلال الأمريكي لأفغانستان 2001، وللعراق 2003، فضلا عن عدة تدخلات أمريكية في مختلف دول العالم الأخرى من دول الربيع العربي كسوريا واليمن وتونس ومصر والسودان، هذه الحروب والتدخلات أدت إلى تدمير دول مستقلة وذات سيادة، وحدوث عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي، وخسائر مادية وبشرية كبيرة جدا، وما زالت هذه الدول تعاني من آثار الاحتلال، لهذا فإنَّ دول العالم الأخرى ولا سيما الدول الصغيرة والضعيفة، سوف تعاني من مستقبل مظلم، واحتمال غزوها من قبل دول أخرى واردة، كما أنَّ دول مجلس الأمن الدولي، والتي تملك حق النقض الفيتو، والتي يفترض فيها أن تكون هي من يطبق القانون الدولي، ويحميه من الخرق والانتهاك، أصبحت هي من يخالف ذلك القانون وينتهكه، بدون أي رادع يقف بوجهه أو يحد منه، وإنَّ عودة الحرب الباردة إلى الساحة الدولية، وسياسة المحاور أصبحت واضحة، وإنَّ المستقبل سوف يحمل في طياته مخاطر كبيرة، وإنَّ انزلاق العالم إلى حرب كونية ثالثة، ممكنة في ظل التشدد والتشرذم الدولي.
أخيرًا يمكن القول إنَّ ما بدأت به الولايات المتحدة من سنن غزو الشعوب واحتلالها وتدميرها قبل سنوات، انقلب عليها الان، إذ أصبح هذا عرفا تملكه الدول الدائمة العضوية، وتتخذ منه ذريعة في أعمالها الدولية، فقد صرحت القيادة الروسية بأنَّ على محكمة العدل الدولية أن تفتح تحقيقا بجرائم الولايات المتحدة في العراق وافغانستان، قبل أن تفتح تحقيقًا عن جرائمها في أوكرانيا. المستقبل لهذه الحرب سوف يحمل في طياته الكثير من الاحداث والسيناريوهات المتوقعة وغير المتوقعة، والتي قد تضع البشرية ووجودها على المحك.