م. د. بلسم عباس حمودي
مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء
أيار/ 2022
التذييل في اللغة: جاء في لسان العرب: الذيل: آخر كل شيء. وذيل الثوب والإزار: ما جرَّ منه إذا أسبِل. والذيل: ذيل الإزار من الرداء، وهو ما أسبل منه فأصاب الأرض. وهو تفعيل من قولهم ذيَّل كلامه إذا عقبه بكلام بعد كمال غرضه منه.
والتذييل: هو أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول، تحقيقا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه، ليكون معه كالدليل ليظهر المعنى عند من لا يفهم ويكمل عند من فهمه.
وفي القرآن الكريم كثيرا ما تختم الآيات المباركات بالأســـماء الحسنى، وقد تختم باســـم من أسمائه الحسنى أو باسمين متجاورين. وكلها أسماء مدح، دوالٍ على معانٍ, وصفها الله سبحانه بأنها حسنى كلها، فقال سبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف/180)، فهي لم تكن حسنى لمجرد اللفظ، بل لدلالتها على أوصاف الكمال.
وختم الآيات بأسماء الله الحسنى يدل على أن الحكم المذكور في الآية القرآنية له تعلق بذلك الاسم الكريم. فإنه سبحانه يعلل أحكامه وأفعاله بأسمائه، وما ذلك إلا لدلالة هذه الأسماء الحسان على معانٍ عظيمة، ولو لم يكن لها معنى لما كان التعليل صحيحا.
وتتعلق هذه المعاني تعلقًا شديدًا بسياق الآية الشريفة ومضمونها، ولهذا لما سمع بعض العرب قارئا يقرأ: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾(المائدة/38)، (والله غفور رحيم)، قال: ليس هذا كلام الله تعالى، فقال القارئ: أتُكذِّب بكلام الله تعالى؟ فقال: لا، ولكن ليس هذا بكلام الله تعالى، فعاد إلى حفظه وقرأ: (والله عزيز حكيم) فقال الأعرابي: صدقت، عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. ولهذا إذا ختمت آية الرحمة باسم عذاب، أو بالعكس، ظهر تنافر الكلام وعدم انتظامه. ولو كانت هذه الأسماء أعلاما محضة لا معنى لها لم يكن فرق بين ختم الآية بهذا أو بهذا.
إنَّ المتتبع للآيات القرآنية الشريفة المختومة بأسماء الله الحسنى، يتضح له بجلاء ما لهذه الاسماء الشريفة من معانٍ عظيمة مرتبطة بمعنى السياق القرآني الواردة فيه ومترشحة عنه، فهي تنساب انسيابا طبيعيا حسبما تتطلبه المعاني، وتقتضيه الأحكام، بسهولة ويسر، حتى تتماسك في مواضعها التي هيئت لها، مما يكسبها إحكاما دلاليا قويا لا يتصور معه أن يصلح اسم مكان غيره مع احتماله لدلالة الآخر وأثره في الآية.
وشواهد ذلك كثيرة في القرآن يصعب احصاؤها ولا تكاد تجد سورة إلا وقد ختمت بعض آياتها باسم أو اسمين من أسمائه الحسنى، لما تتضمنه من معانٍ عظيمة تزيد معاني الايات بيانا وايضاحا.
ومن أمثلة الآيات القرآنية الشريفة التي ختمت باسم واحد من الاسماء الحسنى قوله تعالى: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة/20).
فقوله: (إن الله على كل شيء قدير) تذييل ختمت به الآية الشريفة، ومعنى (القدير) التام القدرة لا يلابس قدرته عجزا بوجه، وقد ناسب مجيء (قدير) مع ما ذكر في الآيات الكريمة من تصوير لحال المعاندين، وما يصيبهم من شدة الهول، وفرط الرعب، لكفرهم وعنادهم، والوعيد لهم بأنه سبحانه لو شاء لأذهب عنهم سمعهم وبصرهم عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم فهو قدير على الأشياء كلها. فكان ذلك تمهيدا لذكر الاسم الشريف في ختام الآية. يقول ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: وقوله: (إن الله على كل شيء قدير) تذييل، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم، وإبلاغا لهم وقطعا لمعذرتهم في الدنيا والآخرة.
ومنه ما ختم بـ (عليم) كقوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران/115). و(العليم): هو العالم بالسرائر والخفيات، التي لا يدركها علم الخلق. وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم. فالختم به يتناسب مع سياق الاية الشريفة ويرتبط بها ارتباطاً تاما, فالآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف الحميدة من أهل الكتاب، ممن ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران/113-114)، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير، ناسب ختم الآية بذكر(العليم)، ذلك ان قوله تعالى: (والله عليم بالمتقين) يجري مجرى الدليل على عدم الحرمان من الأجر والثواب، فعدم ايصال الثواب والجزاء إما أن يكون للسهو والنسيان، وذلك محال في حقه لأنه عليم بكل المعلومات، وإما أن يكون للعجز والبخل والحاجة، وذلك محال لأنه إله جميع المحدثات، فاسم الله تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة، وقوله (عليم) يدل على عدم الجهل، وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء. وإنما قال: (عليم بالمتقين) وإن كان عالما بالمتقين وبضدهم، دلالة على أنَّه مجازيهم على تقواهم، وفي ذلك وعد للمتقين ووعيد للمفرطين.
وقد يجتمع اسمان من الأسماء الحسنى في خواتيم الآيات القرآنية الشريفة وهو أكثر وقوعا من التعقيب باسم واحد، وفي اجتماعهما جمالا معنويا خاصا، وإحكاما دلاليا بديعا، إذ يعطي اجتماعها إيحاءات دلالية جليلة مستوحاة من دلالة الاسمين الشريفين، وبعدا معنويا غاية في الروعة. وتتنوع التعقيبات من آية الى أخرى، تبعا لاختلاف معانيها وما يرتبط بها من الدلالات التي تناسب ما تتضمنه الآية، من ذلك ما ختم بـ(الغفور الرحيم) وفي ورود هذين الاسمين الشريفين مجتمعين إيناسا وطمأنينة للنفس الإنسانية التواقة لنيل غفران الله ورحمته في الدنيا والآخرة، ومعنى (الغفور): هو الذي يكثر منه الستر على المذنبين من عباده، ويزيد عفوه على مؤاخذته. و(الرحيم): المثيب على العمل فلا يضيع لعامل عملا ولا يهدر لساعٍ سعيا، وينيله بفضل رحمته من الثواب أضعاف عمله. وكان هناك ترابط بين ورودهما في خاتمة بعض الآيات القرآنية وسياق الآية التي وردا فيها.
ومما ختم بــــ(الغفور الرحيم) قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة/173)، ذلك ان قوله “إن الله غفور رحيم” تذييل ختمت به الآية الشريفة وإن ختم الآية بالمغفرة والرحمة يتناسب ويتلاءم مع سياقها ومضمونها الدلالي وفيه تعليل للحكم الشرعي قبله. فلما ذكر سبحانه إباحة الطيبات، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾(البقرة/172) عقبــه بتحريم المحرمات فقــال: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ…﴾ الآية، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحالة المقيدة له أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى (غفور رحيم)، وذكر أبو حيان أن “إخبار الله عن نفسه بأنه تعالى (غفور رحيم) لأن المخاطب بصدد أن يخالف فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات فأخبر بأنه (غفور) للعصاة إذا تابوا (رحيم) بهم أو لأن المخاطب إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة فهو تعالى (غفور) له ذلك (رحيم) بأن أباح له قدر الحاجة، أو لأن مقتضى الحرمة قاتم في هذه المحرمات، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة، ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمـة أي (لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك). وهو كما يقول ابن عاشور: تذييل قصد به الامتنان، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب.. ومعنى الآية: أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة.
ومن تجاور الاسماء الحسنى تجاور الاسمين الشريفين (عزيز حكيم)، ومعنى(العزيز) “المنيع الذي لا يغلب. و(الحكيم) “الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب، وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم. وقد ورد هذان الاسمان مجتمعيـن في خاتمـة كثير من الآيات القرآنيـة الكريمـة، فإذا اجتمعا، فحري أن تقدم العزة، لأن الحكمة لن تؤتي ثمارها، ولن تكون لها نتائجها إلا إذا سبقتها العزة، ونقيض العزة الذلـة، وما أبعد الذلة عن الحكمة.
وإذا تأملنا قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (لقمان/8-9)، وجدناه ختم بـ (العزيز الحكيم)، وختام الآية الكريمة بالعزة والحكمة، يتناسب ويتلاءم مع ما ذكره الله عز وجل في الآيات من وعيد للكفار، ووعد للمؤمنين، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(لقمان/6-7)، لما ذكر الكافرين وذكر أن لهم عذابا مهينا وعذابا أليما ذكر بمقابل ذلك من امن وعمل صالحا فذكر أن لهم جنات النعيم.. ثم ذكر أنهم خالدون فيها، وأن هذا وعد منه لا يتخلف. وكيف يتخلف وهو وعد من الله العزيز الحكيم؟ وجملة (وهو العزيز الحكيم)، تذييل مقرر لما ذكر في الآيات الكريمة من وعد ووعيد. فالعزيز الحكيم، كامل القدرة يعذب المعرض ويثيب المقبل، كامل العلم يفعل الأفعال كما ينبغي، فلا يعذب من يؤمن ولا يثيب من يكفر.
يقول الدكتور فاضل السامرائي: اجتماع هذين الاسمين أحسن شيء وأنسبه في هذا المكان. فإن تمام العزة أن يكون صاحبها حاكما وهو أعلى العزة، فإن العزة درجات والأعزة درجات فبعضهم أعز من بعض، وأعلى العزة أن تجتمع مع الحكم فإنه قد يكون العزيز غير حاكم فإذا اجتمع معها الحكم كان تمام العزة. والعزيز الحاكم إن لم يكن ذا حكمة كانت عزته وحكمه تهورا وبطشا وغرورا وكان ذلك في حقه منقصة وليس صفة كمال. فإن من ألزم صفات الكمال للعزيز الحاكم أن يكون ذا حكمة فتزداد صفاته كمالا. فكان اجتماع هذين الوصفين أحسن اجتماع وأنسبه.
ومنه تجاور الاسمين الشريفين (العليم الحكيم) في خاتمة قوله تعالى: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة/32)، “قالوا” أي الملائكة “سبحانك” أي تنزيها لك وتعظيما عن أن يعلم الغيب أحد سواك وجاء قولهم هذا بعد قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين﴾(البقرة/31)، وفي تصدير كلامهم بـ(سبحانك) إيماء إلى الاعتذار عن مراجعتهم، بقولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها)، فهو افتتاح من قبيل براعة الاستهلال عن الاعتذار. والاعتذار وإن كان يحصل بقولهم: (لا علم لنا إلا ما علمتنا)، لكن حصول ذلك منه بطريق الكناية دون التصريح. (إنك أنت العليم الحكيم) ساقوه مساق التعليل لقولهم: (لا علم لنا إلا ما علمتنا)، لأن المحيط علمه بكل شيء المحكم لكل خلق إذا لم يجعل لبعض مخلوقاته سبيلا إلى علم شيء لم يكن لهم قبل بعلمه إذ الحصول بقدر القبـول والاستعداد أي فلا مطمع لنا في تجاوز العلم إلى ما لم تهيء لنا علمه بحسب فطرتنا. إنَّ ختم هذه الآيــة بهذين الاسمين الكريمين وما يحملانـه من دلالات عظيمة على علم الله بآدم وما خلق له وما خلق عليه وتمام حكمته في خلقه، وما يترتب على ذلك من المصالح المتنوعة، كان منسجما كل الانسجام مع المعنى العام الذي سيقت من أجله الآيات القرآنية الشريفة، مما أعطى النص إحكاما لغويا رائعا.
وتعقيب العليم بالحكيم في قوله: (إنك أنت العليم الحكيم)، من إتباع الوصف بأخص منه فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لأن الحكمة كمال في العلم.
ومن تجاور الاسمين الشريفين (العزيز العليم) قوله تعالى في سورة يس: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ۚذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾(يس/38)، فقد ختمت الآية الكريمة بـ (العزيز العليم) وهذه الخاتمة تتناسب وتتلاءم مع ما ذكر من دقة النظام الكوني في جريانه والذي لا يستطيعه إلا من اتصف بالعزة والعلم، فالعزة تناسب تسخير هذا الكوكب العظيم، والعلم يناسب النظام البديع الدقيق، فالشمس تجري لمستقر لها وجريها لا يمكن أن يكون منسوبا لذاتها وإنما بتقدير وتدبير من (عزيز عليم) فهي تجري “على وفق سنة وضعها لها خالقها ، وبذلك أبطل أن تكون حرة مختارة وإنما هي خاضعة لمن جعل لها مستقرا لا تعدوه ولا تتخطاه. يقول الزمخشري في تفسير الآية: الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي تكل الفطن عن استخراجه وتتحير الأفهام في استنباطه. ما هو إلا تقدير الغالب على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم. فورود هذين الاسمين الكريمين خاتمة للآية المباركة أنسب شيء .
ومن تجاور الاسماء الحسنى تجاور الاسمين الشريفين (الحكيم الخبير) والقرن بين هاتين الصفتين، لأنَّ كل واحدة تدل على معنى أصلي ومعنى لزومي، وهما مختلفان، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع، لأنَّ الحكيم مشتق من الإحكام وهو الإتقان، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها، وهو يستلزم التمكن من تصريفها.
ومن الآيات الكريمات الآتي ختمن بـ (اللطيف الخبير) قوله تعالى: ﴿ لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام/103) ومعنى (اللطيف) “الذي يريد بعباده الخير واليسر، ويقيض لهم أسباب الصلاح و البر”. وختام الآية الكريمة بـ(اللطيف الخبير) يتناسب ويتلاءم مع ما ذكره الله عز وجل في الآيات الكريمات من أوصافه سبحانه وتعالى إذ قال: ﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال. ثم قال: “لا تدركه الأبصار” ولا تتعلق به، وهو يدرك الأبصار، فجاءت الخاتمة “وهو اللطيف الخبير” تتويجا لما سبقها، و(اللطيف) أي: يلطف عن أن تدركه الأبصار، و(الخبير) بكل لطيف فهو يدرك الأبصار، ولا تلطف عن إدراكه. جاء في التحرير والتنوير: جملة (وهو اللطيف الخبير) تذييل للاحتراس دفعا لتوهم أن من لا تدركه الأبصار لا يعلم أحوال من لا يدركونه.
يتضح لنا بعد هذه الشواهد من الآيات القرآنية الكريمة وشواهد أخرى لا يتسع المقام لذكرها جميعا، أن التذييل بأسماء الله الحسنى مفردة ومزدوجة، ظاهرة أسلوبية قرآنية واضحة، فيها إحكام دلالي بديع، وذلك لما تدل عليه هذه الأسماء الحسان من معان عظيمة. إن ورود الأسماء الحسنى في ختام بعض الآيات القرآنية لم يكن ورودا عابثا، وإنما وردت لمعان جليلة وغايات نبيلة، وقد جاءت متناغمة بشكل عجيب مع سياق الآيات الشريفة، فهي تتغير وتتنوع حسبما تحمل من دلالات ومعان وبما يتناسب مع معنى الآية ومقصودها وما تضمنته من أحكام وتشريعات أو أوامر أو نواهي، فتزيد المعنى وضوحا وبيانا وتمنح العبارة تأكيدا أو تقريرا. وقد تكون للتنبيه أو التذكير أو وعد أو وعيد أو ترغيب أو ترهيب. ومع وفائها بحق المعنى فإنها تمنح العبارة تناسقا ايقاعيا جميلا.
فالقرآن الكريم بناء محكم آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، فنحن نلاحظ تتابع الآيات الشريفات في سورها وتلاحم معانيها، في إحكام دلالي منقطع النظير، حتى كأن كل آية ممهدة للأخرى وبساط لها، فلا تنافر بينها ولا تعارض وإنما هي كالكل الواحد