م.م. سيف الامارة : باحث مشارك في قسم ادارة الازمات مركز الدراسات الاستراتيجية متخصص بالنظم السياسية
دفع ضعف اداء النظامين السياسيين اللبناني والعراقي، وما يستتبعه بين الحين والاخر من تظاهرات، وانغلاق سياسي، يصيبا عادة البلدين بالركود- الكثير من المتابعين للشأن السياسي الى الاعتقاد بفشل التجربة التوافقية في هذين البلدين، ويدعون لمعالجة ذلك عبر اصلاحات انية وشاملة، لكن المتابعة الحثيثة لمسارات تلك الاصلاحات ومآلاتها، توحي بانها لم تنجح في تحقيق التغيير المنشود، ولا يعني ذلك في الوقت ذاته فشل جوهر التجربة التوافقية في هذين البلدين، لذا تحاول هذه الورقة تحليل التجربة التوافقية في لبنان والعراق، والبحث عن مقاربة جديدة للإصلاح مستوحاة من دراسة تجارب العديد من الدول ذات الديمقراطية التوافقية.
لقد اثبتت التجربة التوافقية نجاحها في العديد من الدول منها بلجيكا، وهولندا، وسويسرا، وجنوب افريقيا، وماليزيا، لكنها اخفقت في دول اخرى كلبنان والعراق، ومن دون البحث المعمق في اسباب تلك النتائج المتباينة، يتضح ان قوة او ضعف ادوات النظام السياسي الرقابية تلعب دوراً محورياً بهذا الصدد.
ربما تولد الازمات التي تواجه النظم السياسية فرصة للكشف عن نقاط الضعف التي تعتريها، بغية اصلاحها وتعزيز قوتها على المديين المتوسط والبعيد، لكن تتابع الازمات الخانقة خلال فترات قصيرة نسبياً، يوحي بان تلك النظم بتركيباتها القائمة لم تعد صالحة للحكم بفاعلية، ما لم يتم اصلاحها.
من المفارقات التي يمكن تسجيلها على النظم التوافقية في البلدان التي اخفقت بها: هي انها تنجح بتجميد الصراع وتحقيق الاستقرار في مرحلة ما بعد الحرب او عدم الاستقرار، عبر اشراك جميع القوى المتصارعة للتفاعل سلمياً ضمن بوتقة السلطة، لكنها في الوقت ذاته لا تعالج ذلك الصراع، بل تنقله الى مؤسسات الدولة وتعمقه فيها، ويصاب النظام السياسي برمته بالشلل، ويصبح بذلك اداة لتوزيع المنافع بين الطبقة السياسية، بدلاً من كونه اداة للحكم وتحقيق مصالح الشعب، حيث يتحول النظام ذاته الى عائق امام التنمية المستدامة، ومصدر المشكلة بدلا من كونه اداة للحل. بالمحصلة يكون الانطباع العام هو فشل التجربة التوافقية في تلك البلدان بتحقيق التوازن بين السلام الهش الذي تنتجه، وامكانية الانتقال الى فضاء التنمية المستدامة.
يلاحظ كذلك تميز التجارب التوافقية في البلدان التي اخفقت بها، بما يمكن ان يطلق عليه بــــ “مأسسة الفساد” (Institutionalized Corruption)، حيث تتحول مؤسسات الدولة الى اقطاعيات تملكها الاحزاب الاثنوطائفية (Ethno-sectarian political parties)، وتتسم بمحدودية الطبقة السياسية، واحتكارها لمقاليد السلطة، واغلاق الباب امام التيارات السياسية التي تحاول الخروج من بوتقة التمثيل الاثنوطائفي، وتضخيم القطاع الحكومي واضعاف فاعليته. تساعد تلك العوامل على تعميق عدم المساواة عبر اغلاق المجتمع طبقياً، ويصعب عندئذ انتقال الافراد من طبقة الى اخرى، فضلاً عن تعرض الدولة المستمر لهزات اقتصادية بين الحين والاخر تهدد عادة بالانهيار التام، وضعف ثقة المجتمع بالنظام السياسي، مما يوجد قطيعة بينهما تضعف شرعية ذلك النظام، وعادة ما يترجم ذلك السخط عبر العزوف عن المشاركة الانتخابية.
تقود هذه الاوضاع عادة الى تظاهرات واضطرابات بين الحين والاخر، وبعد كل اضطراب يواجه تلك البلدان تطرح كردة فعل من قبل الطبقة السياسية –وعادة لأغراض الاحتواء- رؤى اصلاحية شاملة لمعالجة اختلالات النظام السياسي، لكن الملاحظ خلال سنوات عدة فشل اغلب اذ لم يكن جميع تلك الرؤى في تصحيح مسار النظم السياسية، رغم ان القوى السياسية ذاتها تدرك الحاجة الماسة الى الاصلاح، ولديها معرفة بالمواضع التي تحتاج الاصلاح، لكنها تعجز عن المضي بتحقيقه، وهذا يمكن عزوه لعده اسباب منها التركيبة الفريدة التي تنتجها التجربة التوافقية بإقامة تعارض حاد بين مصالح المجتمع الواسعة، لاسيما الفئات المتضررة من مآلات النظام القائم، والمصالح الضيقة للطبقة السياسية المستفيدة من النظام، والتي عادة ما تكون ذات عدد محدود، لكنها تمتلك قدرات كبيرة لوقف او حرف مسار الاصلاح لإبطال مفعوله الحقيقي. اضافة الى عوامل اخرى معوقة للإصلاح كضعف او غياب الاستمرارية في نهج الاصلاح، حيث يسهم طابع الصراع بجعل كل حكومة تنسف عمل الحكومة التي سبقتها، وضعف التأييد المجتمعي للرؤى الإصلاحية بسبب ازمة الثقة، والية الفيتو المتبادل بين صانعي القرار والتي تحتمها خاصية الاجماع التي تقوم عليها التجربة التوافقية.
يتضح مما سبق، ان تجربة الاصلاحات الشاملة غير واقعية فهي تفرز قوى رابحة واخرى خاسرة مما يدفع الاخيرة لإفشال الاصلاح، وفي كل مرة يؤجل فيها الاصلاح تصبح المهمة الاصلاحية اكثر صعوبة، لكن من جانب اخر ان بقاء الوضع على حاله دون اصلاح يشكل خطر كبير باحتمالية الانهيار التام، والذي تفقد خلاله حتى الطبقة السياسية مكانتها وامتيازاتها، لذا ربما يمثل نهج الاصلاح التدريجي عبر البدء بالتحديات الانية والخطيرة التي تمس مصالح الشعب بشكل مباشر ثم التحديات الاخرى لاحقاً- نقطة التوزان والالتقاء بين مصالح الشعب ومصالح الطبقة السياسية ذاتها. عليه نقترح اصلاح ما يأتي:
- القطاع العام: يتسم عادة القطاع العام في الدول التي تخفق فيها التجربة التوافقية بالتضخم المفرط وضعف الفاعلية، كون التوظيف في ذلك القطاع يقوم عادة على اسس الانتماءات الفرعية بدلا من الكفاءة، وتستخدم الطبقة السياسية ذلك التوظيف كمصدر لنيل الشرعية امام ناخبيها في ظل غياب المنجز الحقيقي، وبذلك يتحول القطاع العام ذاته الى معوق للتنمية المستدامة. لقد اثبتت التجارب ان الاصلاح الاقتصادي، لا يمكن تحقيقه بشكل فاعل دون اصلاح اداري، كون البيروقراطية الادارية تستطيع ايقاف او تشويه سير التنمية الاقتصادية، لذا يمكن ان يشمل الاصلاح بهذا المجال ما يأتي:
-تقليص التوظيف في القطاع العام، مع اهمية تحقيق التوازن بين الكفاءة والاعتبارات السياسية عند التوظيف.
-تقليص مركزية القرار في المجال الاداري.
– اصلاح وتحديث القوانين والنظم الادارية.
-اعادة هيكلة النظام الاداري.
2- مكافحة الفساد السياسي، والاداري، والمالي: يمكن ان يشمل الاصلاح في هذا المجال ما يأتي:
- كشف الفاسدون امام الشعب لإفقاد شرعيتهم، وهنا يلعب الاعلام المستقل –غير التابع للأحزاب الاثنوطائفية المتصارعة- والمعارضة البرلمانية ادواراً مهمة.
- تنفيذ استراتيجيات مكافحة الفساد، وعدم الاكتفاء بإطلاقها فقط، وضرورة تضمين تلك الاستراتيجيات اليات عقابية صارمة، كي يصبح ارتكاب الفساد امراً صعباً.
- التحول نحو الحكومة الالكترونية، لاسيما أتمته النظام البنكي، وتقليص نظام النقد بأقصى حد ممكن، حيث يشكل النقد، محور الفساد، لاسيما غسيل الاموال.
3-اصلاح النظام الانتخابي: تمثل الانتخابات دوراً محورياً في الاصلاح التدريجي عبر تغيير الطبقة السياسية، لكن الملاحظ انها تتحول في بعض الاحيان الى جزء من المشكلة بدلاً من ان تكون هي الحل، والاخطر من ذلك عندما يفقد الشعب الثقة بأهمية الانتخابات كأداة مركزية للتغيير، وهنا يمكن ان تشمل الاصلاحات ما يأتي:
- عدم تعديل النظام الانتخابي بشكل مستمر وخلال فترات قصيرة، كي لا يفهم ذلك بأنه محاولات تكتيكية من قبل الطبقة السياسية في كل مرحلة انتخابية، للالتفاف على الناخبين.
- السماح للمزيد من المستقلين بالولوج الى المسرح السياسي، كي يساعد ذلك على اعادة الثقة بالعملية الانتخابية، ورفع المشاركة الانتخابية. الملاحظ ان الصراع بين الاجيال هو حقيقة تكاد تتواجد في اغلب بلدان العالم، لكن خطورة ذلك تكمن عندما يكون التعارض شديداً بين قيم الاجيال المتعاقبة، وتمنع في الوقت ذاته الطبقة السياسية القديمة دخول الاجيال الجديدة الميدان السياسي، لذا من الاجدى لتلك الطبقة فتح الباب امام الاجيال الجديدة تدريجياً كي لا يتعرض النظام السياسي برمته للانهيار.
4- قطاعي الماء والكهرباء: الملاحظ ان هذين القطاعين عادة ما يكونا ذي اداء سيء في النظم التوافقية، وربما يعود ذلك الى حجم الميزانيات المالية الكبيرة التي تخصص لهما مما يشكل حافزاً للفساد، وصراع الاحزاب السياسية للسيطرة عليهما، وتكمن الخطورة هنا في مساس عملهما بالحياة اليومية للمواطنين، فضلاً عن كارثة التغيير المناخي الوشيكة، وانعكاساتها على قطاع المياه تحديداً، لذا يكمن الاصلاح في هذا الاطار بفصل هذين القطاعين عن المنظومة السياسية، لتكون ادارتهما بيد التكنوقراط حصراً، حيث يتيح ذلك عدة مزايا اهما:
- اخضاع ادارة القطاعين اعلاه للمعايير الفنية بعيداً عن التجاذبات السياسية.
- الاستمرارية عبر القدرة على وضع خطط متوسطة وطويلة الامد، وضمان تنفيذها لغرض المعالجة الحقيقية للإشكالات التي تعتري القطاعين دون التأثر بتغير الحكومات من فترة الى اخرى .
- الاستفادة القصوى من الدعم الدولي مالياً وفنياً.