التنويع الاقتصادي وضروراتهُ التنموية لتغيير واقع الاقتصاد الريعي في العراق

      التعليقات على التنويع الاقتصادي وضروراتهُ التنموية لتغيير واقع الاقتصاد الريعي في العراق مغلقة

التنويع الاقتصادي وضروراتهُ التنموية لتغيير واقع الاقتصاد الريعي في العراق

أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث مشارك في قسم إدارة الأزمات

مركز الدراسات الاستراتيجية ــ  جامعة كربلاء

         يرتبط مفهوم التنويع الاقتصادي ارتباطاً وثيقاً بنظريات التنمية وتطبيقاتها، ضمن التجارب التنموية والتطورات الاقتصادية التي شهدتها دول العالم, وقد فتحت الثورات الصناعية المتعاقبة آفاقاً واسعة للولوج في مجالات التنويع الاقتصادي، منذُ الثورة الصناعية الأولى التي حصلت في أوروبا في القرن الثامن عشر، واختراع المحركات البخارية، واستخدام المعدات الميكانيكية, إلى عصرنا الحاضر الذي يشهد ما جادت بهِ الثورة الصناعية الرابعة، من منجزاتٍ سريعة وهائلة استندت إلى الاستخدامات الواسعة لتطبيقات الذكاء الصناعي، في ميادين مختلفة من الأنشطة الاقتصادية وغير الاقتصادية، وأسهمت في توليد المزيد من التنوّع في الأعمال والمنتجات، واتساع نطاق المبادلات التجارية بين الدول.

       وعلى الرغم من أنّ سياسات التنويع الاقتصادي قد توسعت وامتدّت في الأنشطة الاقتصادية وميادين التطور المختلفة في عددٍ كبير من دول العالم, إلاّ أنّ التنويع، كفكرٍ اقتصادي، يُعدّ حالة متأصلة وجوهرية ارتبطت ارتباطًا أساسيا بتنوّع وتطور الموارد الاقتصادية والحاجات البشرية، وسعي المجتمعات نحو تحقيق تنويع أكبر في مصادر الدخل والثروة المسـتدامة والموارد الاقتصادية المتجددة، والحد من الاعتماد على مصادر الثروات الريعية الناضبة. كما أنّ التنويع الاقتصادي رغم كونه قد شمل مختلف الأنشطة الاقتصادية, إلاّ أنّ التنويع في الأنشطة الصناعية والصناعات التحويلية على وجه الخصوص, يُعدُّ الأوسع انتشاراً ضمن التطورات الاقتصادية العالمية، نظراً لماّ تُشكلّهُ الصناعة من أهمية ومساهمة كبيرة في تكوين الناتج المحلي الاجمالي، وتكوين رأس المال الثابت، وتراكم الثروات الحقيقية المسـتدامة, وهو ما تحقق فعلاً في الدول الصناعية المتقدمة، والدول الناهضة صناعياً، عن طريق مراحل الثورات الصناعية المتعاقبة، التي اسـتندت جميعها إلى فكرة التنويع الصناعي، وما يولّدهُ من انعكاساتٍ  ونموٍ اقتصادي على سـائر الانشطة والقطاعات الانتاجية والخدمية الأخرى، في إطار فعل مضاعف الاستثمار وعلاقات التداخل والترابط الانتاجي بين الانشطة المختلفة، بما يسهم في تحقيق المزيد من التنويع الاقتصادي المتكامل.

لقد جرت عملية التنويع الاقتصادي في الدول الصناعية عن طريق الدور الكبير الذي مارسهُ القطاع الخاص في التنمية التاريخية التي انطلقت في هذه الدول منذ الثورة الصناعية الأولى والتي توفّرت لها الظروف الملائمة والموارد والمستلزمات الداخلية والخارجية والتي أسهمت في تكوين وتراكم منجزات التنويع الاقتصادي في مراحلهِ الأولى, وبناء القدرات التنافسية والميزات النسبية لعمليات الانتاج الواسعة المتجّهة نحو الأسواق الخارجية، حتى أصبح التنويع الاقتصادي يمثّل ركيزة أساسية من ركائز التجارة الدولية، وزيادة الصادرات من السلع والمواد المتنوعة, ومن ثم فقد شـكّل التنويع الاقتصادي بالنسبة للدول الصناعية أحد المقومات المهمة في تحقيق المزيد من القدرة التنافسية في النظام الاقتصادي الدولي عن طريق زيادة الاهتمام بالمزايا النوعية وضغط الكلف والأسعار التنافسية للمنتجات.

لقد تجاوزت الدول الصناعية مرحلة التنويع الاقتصادي الذي جرى فيها بشكلٍ تراكمي عِبر سلسلةٍ من المراحل وفق ما توفر للقطاع الخاص من امكاناتٍ, سواء بمعزلٍ عن دور الدولة الاقتصادي ضمن معطيات الفكر الكلاسيكي الذي كان سائداً قبل الحرب العالمية الأولى, أو بتدخل الدولة الاقتصادي ومساهمتها في الاقتصاد، والحد من تداعيات الأزمات ضمن معطيات الفكر الاقتصادي الكنزي بعد الحرب, وأصبح ما تهتم بهِ الدول الصناعية من قضايا التنويع هو ما يتعلق بالتطبيقات العملية لما أفرزتهُ الثورات الصناعية من منجزات والذي أصبح يتركز بشكلٍ أساس في وقتنا, في سـعي هذه الدول الى تحقيق الاستفادة القصوى من تطبيقات الذكاء الصناعي وانعكاساته الكبيرة على المواصفات النوعية للسلع وتنويع المنتجات وفق تقنياتٍ متطوّرة بما يوفّر اشباعاً أفضل لحاجات المسـتهلكين في ظل مستوياتٍ مختلفة من الأسعار.   

أمّا على صعيد الدول النامية, فقد ظلَّ التنويع الاقتصادي يشـكّلُ أحد التحديات التي تواجهها عملية التنمية الاقتصادية نتيجة لضعف سياسات التنمية، وفشلها في احيان كثيرة في ادارة الموارد الاقتصادية المتاحة، وعدم تمكين القطاع الخاص من ممارسة دورٍ فاعل في الأنشطة الانتاجية وتطوير الصناعة الوطنية وتنويع الصادرات. ولعلَّ الاختلاف في الظروف ما بين التنمية التاريخية التي حدثّت في الدول الصناعية والتنمية الحديثة في عصرنا الحاضر قد شـكّل احدى عقبات التنويع الاقتصادي في بعض الدول النامية في اطار قسمة العمل الدولية التي جعلت من الدول النامية مصدراً للمواد الأولية، وجعلت من الدول الصناعية مصدراً للسلع المتنوعة, ومع ذلك فقد استطاع عددٌ غير قليل من الدول النامية التي نهضت حديثاً أن تخطو خطواتٍ مهمة في ميادين التصنيع والتنويع الاقتصادي والانفتاح على الاستثمارات العالمية وفق مبدأ القدرة التنافسية في الانتاج والمنافسة في الأسواق العالمية.

وبالرغم من أنّ تجارب الدول في مجال التنويع الاقتصادي، قد اسـتندت إلى دور القطاع الخاص ومبادراته في مختلف الأنشطة الاقتصادية, إلاّ أنّ الدور الاقتصادي للدولة ظلَّ داعماً ومكملاً لمسارات التنويع في مشاريع البنى التحتية والخدمات الاجتماعية, وحتى في مجالاتٍ من الأنشطة الانتاجية في اطار آليات وأساليب الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، من أجل الاستفادة من امكانات الدولة وامكانات القطاع الخاص في توسيع مجالات الاستثمار وتعزيز أثر الموازنة العامة والانفاق الحكومي على عملية التنمية والتنويع الاقتصادي, ممّا عُدَّ واحداً من النماذج التنموية الحديثة الذي أفرز نظاماً اقتصادياً مختلطاً، من أجل تجاوز سلبيات الرأسمالية الكلاسيكية المتشـددة، وبيروقراطية الدولة المركزية في تخصيص وإدارة الموارد الاقتصادية.  

وعلى صعيد الدول النفطية الريعية, فقد واجهت عملية التنويع الاقتصادي اشكالياتٍ عديدة, فقد اسهمت قوة موارد النفط في هذه الدول في ارتخاء السياسات الاقتصادية وعدم اهتمامها بشؤون التنويع الاقتصادي، ممّا عمّق من حالة الاقتصاد الريعي والدولة الريعية في الكثير من هذه الدول, إلاّ أنّها شعرت بمرور الزمن انّ استمرار اعتمادها على موارد النفط بات يشكّل خطورة وعدم أمان على اقتصاداتها ومستقبل أجيالها، وأنّ التنويع الاقتصادي لم يعدّ خياراً وانّما حاجة ملحّة تتطلبها الضرورات التنموية، لتكوين موارد وثروات حقيقية مستدامة في ظل احتمالات المستقبل، والتحديات التي أصبحت تواجه مستقبل النفط والتي تتمثّل باحتمالات النضوب التدريجي, كذلك تحوّل الدول المستهلكة إلى مصادر بديلة صديقة للبيئة، في ضوء التطورات التقنية الهادفة الى تطوير مصادر الطاقة المتجددة، وتخفيض تكاليف استخداماتها, ولعلَّ ما يشهدهُ قطاع السيارات الذي يستهلك ما يزيد عن (40%) من الطاقة التقليدية على الصعيد العالمي, من معدلات تحوّل نحو استخدام الطاقة النظيفة، يُعدُّ أحد الأمثلة على جديّة المساعي الدولية، لتقليل الاعتماد على النفط الأحفوري كمصدرٍ رئيس للطاقة.

إنّ ارتفاع أسعار النفط إلى ما فوق (100) دولار للبرميل، على أثر الحرب الروسية ــ الأوكرانية, لا يُعدّ مؤشراً على مستقبلٍ مزدهر لأسعار النفط, فقد جاء هذا المستوى من الارتفاع نتيجة لما شهدهُ العالم من أزمة غذاء وطاقة، بسبب هذه الحرب وما رافقها من عقوباتٍ على روسيا، ومنها محاولة الاستغناء عن النفط والغاز الروسي, إلاّ أنّ التوجّه المستقبلي يبقى قائماً نحو تسريع التحوّل لمصادر للطاقة البديلة, ومن ثم يمكّن أن تعود بنا هذه التحولات الى مستوياتٍ متدنية لأسعار النفط، كما كانت عليه في حقبة عقد الستينيات وبداية عقد السبعينيات من القرن الماضي قبل فورة أسعار النفط الأولى، عندما كان سعر النفط في حدود (5) دولارات للبرميل الواحد, فما عسىّ أن يفعل مَن عوّل على النفط من الدول الريعية التي لم تعدّ العدّة في سياساتها التنموية لتوظيف قوة النفط ومواردهِ المالية في مراحل ازدهار الأسعار، لتنويع اقتصاداتها وايجاد مصادر بديلة للدخل والثروة. 

إنّ ما حصل من صدماتٍ في الحالات التي انخفضت فيها أسعار النفط إلى ما دون المستويات الطبيعية, كما حصل عند ظهور (أزمة كورونا), قد تركت آثاراً متفاوتة على اقتصادات الدول الريعية المصدرة للنفط وفقا لدرجات التنويع الاقتصادي التي بلغتها, فهناك دولٌ نفطية عملت على حوكمة نظامها المالي وزيادة اهتمامها بمنتجاتها الوطنية، وتوفير بيئة جاذبة للاستثمارات الخاصة واصلاح نظامها الضريبي, فضلا عن تنويع استثماراتها الحكومية في صناديق للثروة السـيادية، في إطار تعزيز اسـتقلالية مؤسساتها الاقتصادية، وتطبيق المعايير المهنية في مراكز القرار الاقتصادي, فمثل هذه الدول لم تؤثر فيها صدمات سوق النفط العالمية مثلما أثرت في الدول التي غابت عن منهجها هذه الاعتبارات.

إنّ الاهتمام المتزايد لدول الريع النفطي بقضايا التنويع الاقتصادي، يعني زيادة اهتمامها بالتنمية المسـتدامة والنموّ المسـتدام, كما يعني إدراك صنّاع السياسات الاقتصادية ومراكز القرار وتفهمهم لحقيقة الاختلاف الجوهري بين الموارد الريعية والموارد التنموية, وكذلك حقيقة الاختلاف الجوهري بين الثروة النفطية الناضبة والثروات التنموية المسـتدامة، وما يتصل بهما من اقتصادٍ ريعي واقتصادٍ تنمويّ. ففي الوقت الذي تسهم فيه قطاعات الاقتصاد الحقيقية في الأنشطة الصناعية والزراعية والسـياحة والخدمات في الاقتصادات التي تعتمد التنويع, في تحقيق زيادات في القيم المضافة على الناتج المحلي الاجمالي، وعلى قيمة الصادرات من السلع المتنوّعة، وكذلك زيادة ايرادات الموازنة العامة من الضرائب والايرادات غير النفطية, فإنّ هيمنة الايرادات الناجمة عن تصدير النفط الخام في الاقتصادات غير المتنوّعة، على قيمة الصادرات وايرادات الموازنة العامة وقيمة الناتج المحلي الاجمالي, من شأنها أن تسهم في تشـويه هذه المؤشرات وتجعلها لا تعبّر عن حقيقة الواقع التنموّي في البلاد.

وعلى صعيد الاقتصاد العراقي، فقد واجهت عملية التنويع الاقتصادي تحدياتٍ عديدة منذ عقديّ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي, وكان أحد العوامل في ذلك هو الاتساع الذي حصل في حجم القطاع العام، بعد ازدياد عوائد النفط وانعكاساته على النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص، ولاسيما الشركات الصناعية الخاصة, كما شهدت عملية التنويع الاقتصادي خلال عقديّ الثمانينيات والتسعينيات تحدياتٍ أخرى تمثلت بدخول الاقتصاد العراقي مرحلة الحروب والحصار.

وكان من المنتظر بعد التغيير الذي حصل عام 2003 أن تتجه السياسات الاقتصادية نحو النهوض بالواقع الاقتصادي، وأن تعمل على توفير البيئة الاستثمارية الجاذبة لرؤوس الأموال، وتفعيل دور القطاع الخاص في عملية التنمية والتنويع الاقتصادي, إلاّ أنّ قضايا التنمية والتنويع لم تكن ضمن الأولويات بقدر ما كان لقضايا السياسة وخلافاتها من اهتمام, ومن ثَمَّ فقد ازداد الاعتماد على موارد النفط. وتشير مؤشرات التنويع الاقتصادي إلى أنّ الاقتصاد العراقي قد أصبح اقتصاداً ريعيّا بامتياز في ظل الواقع الذي بلغتهُ الأنشطة الصناعية والزراعية والقطاع السياحي، وتدنّي مساهماتها في تكوين الناتج المحلي الاجمالي والصادرات غير النفطية, في ظل قلة فرص العمل وزيادة معدلات الفقر والبطالة. ويمكن التعرف على مستوى التنويع الاقتصادي، ودرجة تركّز الريع النفطي في الاقتصاد العراقي، عن طريق استعراض بعض مؤشرات التنويع:

أولا- درجة الاختلال الهيكلي للقطاعات الاقتصادية: وهو ما يمثّل الأهمية النسبية لمساهمة القطاعات الاقتصادية في الناتج المحلي الاجمالي, إذ تشير احصاءات الحسابات القومية إلى أنّ اجمالي مساهمة النفط بلغت نحو: (50%) من قيمة الناتج المحلي الاجمالي خلال المدة 2004 ــ 2020, في حين بلغت مساهمة الصناعة التحويلية نحو: (2%) والزراعة نحو: (5%)[1] رغم الأهمية الفائقة لهذين القطاعين في التنمية والتنويع الاقتصادي. أما النشاط السياحي فانهُ لم يعامل كقطاع مستقل ضمن حسابات الدخل القومي كما أوصّت منظمة السياحة العالمية, وانّما تم تضمين مساهمتهُ ضمن قطاع تجارة الجملة والمفرد والفنادق، ممّا يُعدُّ عائقا للوصول الى القيمة الحقيقية للدخل السياحي، ومدى مساهمة النشاط السياحي في تكوين الناتج المحلي الاجمالي, كما أنّ النشاط السياحي رغم توفّر مقوماتهُ المتعددة والمتنوعة في العراق، من خلال ما يزخر بهِ من مواقع ومعالم سياحية حقيقية منتشرة في محافظات البلاد, لم يحظَّ إلاّ بالقليل من التخصيصات المالية في الموازنات السنوية, وكذلك الصناعة التحويلية والزراعة, ممّا يشير إلى ضعف دور الدولة الاقتصادي في دعم القطاعات الاقتصادية غير النفطية, فضلا عن عدم تفعيل آليات الشراكة مع القطاع الخاص، من أجل النهوض بواقع الاستثمارات في هذه القطاعات، التي تُعدّ الركيزة الأساسية في التنمية والتنويع الاقتصادي، والحد من الاختلال الهيكلي الذي يعاني منهُ هيكل الانتاج في الاقتصاد العراقي.

ثانيا- درجة الاختلال الهيكلي للموازنة العامة (الاختلال الداخلي):  يشير هذا المؤشر إلى حالة الاختلال الهيكلي في عنصريّ الموازنة الأساسيين, وهما الايرادات العامة والنفقات العامة, فعلى صعيد الاختلال في جانب الايرادات في الموازنة العراقية, فإنّ الايرادات النفطية تشكّل نحو: (92%) من اجمالي الايرادات العامة, مقابل (8%) للايرادات غير النفطية، والتي تُعدّ الضرائب المباشرة وغير المباشرة أهم مصادرها, إلاّ انّ نسبة مساهمة هذه الضرائب لا تزيد عن (5%) من اجمالي الايرادات الفعلية, وهي نسبة متدنية مقارنة بالدول الريعية النفطية الأخرى، التي تزيد نسبة مساهمة الضرائب في بعضها عن (25%) من اجمالي الايرادات رغم وفرة مواردها النفطية. ويُعدّ مؤشر حصيلة الضرائب أحد المؤشرات المهمة والذي يشير إلى مدى الدور الذي يمارسهُ القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني، ومدى التنويع الحاصل في الأنشطة الاقتصادية المولّدة للأوعية الضريبية. ومن ثمَّ فانّ الهيمنة المطلقة للايرادات النفطية على اجمالي الايرادات العامة في الموازنة العراقية، وقلة الحصيلة الضريبية ومصادر الايرادات الأخرى غير النفطية, هي تعبير عن غياب سياسات التنويع الاقتصادي، وضعف الدور الذي يمارسهُ القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية.  

وإذا ما انتقلنا إلى جانب النفقات العامة في الموازنة العراقية, نلحظ أنّ الاختلال قد أخذ طابعاً مركباً من الأداء السـيّء للموازنة، وتأثيراتها السلبية في انتاجية الانفاق الحكومي، ودور الدولة الاقتصادي في تقديم الخدمات، وتوفير البنى التحتية للاقتصاد الوطني, سواء ما يتعلق بانخفاض كفاءة وأداء النفقات التشغيلية الجارية التي استحوذت على ما يزيد عن (70%) من اجمالي النفقات، بسبب الترهل الحاصل في المؤسسات الحكومية والاسراف في المصاريف الجارية, أو النفقات الاستثمارية الحكومية التي خضعت مشاريعها للعديد من حالات الفشل والتلكؤ وممارسات الفساد، والتي أسهمت في تعميق حالة الاختلال الوظيفي للموازنة، ودورها في التنمية والتنويع الاقتصادي، رغم ضخامة الأموال المصروفة في الموازنات السنوية، والتي بلغ اجمالي نفقاتها الفعلية ما يزيد عن (1363) ترليون دينار خلال المدة 2004 ــ 2021[2] , وهو ما يعادل نحو ترليون دولار.

ثالثا- درجة الاختلال في الهيكل السلعي للصادرات (الاختلال الخارجي): إنّ من جملة ما يتميّز بهِ الاقتصاد المتنوّع، هو تنوّع صادراتهِ السلعية المسـتمدة من مساهمة قطاعاتهِ الانتاجية، التي تتمكّن من تحقيق قدرة تنافسية في الأسواق الخارجية، عن طريق ما تحرزهُ صناعاتها من كفاءة تستطيع تلبية الكثير من الاحتياجات المحلية، فضلا عن تخصيص جانبٍ من منتجاتها الصناعية والزراعية، لزيادة الصادرات والحد من الاستيرادات وتعزيز حالة الميزان التجاري في ميزان المدفوعات. وفي إطار هيكل الصادرات العراقية فانّ تفاقم الحالة الريعية في الاقتصاد العراقي، قد جعلت صادرات العراق تكاد أن تقتصر على تصدير النفط وبنسبة تزيد عن (99%) من اجمالي الصادرات, في حين تتنوّع استيرادات العراق من السلع والمواد المختلفة وبأقيامٍ تصل إلى أكثر من (50) مليار دولار سـنوياً، نتيجة الانفتاح الواسع على الاستيرادات، واستمرار حالة الاختلالات الهيكلية في قطاعات الانتاج، وضعف مساهمتها في تكوين الناتج المحلي الاجمالي.    

إنّ ما بلغهُ الاقتصاد العراقي من اعتمادٍ متزايد على النفط، وما يشكلهُ مثل هذا الاعتماد من خطورة على مستقبل التنمية وحاجات المجتمع من الخدمات وفرص العمل, يطرح قضية أساسية أمام مراكز القرار في المرحلة المقبلة مفادها: متى تكون شـؤون الاقتصاد وما يعانيه من مشكلات ضمن أولويات الاهتمامات؟ ومتى يصبح التنويع الاقتصادي الذي يمتلك العراق الكثير من مواردهِ ومقوماتهِ، منهجاً للتنمية المسـتدامة من أجل النهوض بالصناعة الوطنية والواقع الزراعي، واسـتثمار الكنوز من المواقع والمعالم السياحية المنتشرة على أرض العراق, بما يسهم في ايجاد الحلول الواقعية لمشكلات الفقر والبطالة؟   

  

  

 

 

 

[1] الجهاز المركزي للاحصاء | المجاميع الاحصائية السنوية ــ احصاءات الحسابات القومية لسنوات متعددة .

[2]وزارة المالية | دائرة المحاسبة ــ تقارير تنفيذ الموازنات السنوية لغاية كانون الأول لسنوات متعددة .