أسلوب الالتفات في النص القرآني

      التعليقات على أسلوب الالتفات في النص القرآني مغلقة

م.د. بلسم عباس حمودي/ مركز الدراسات الاستراتيجية

تشرين الأول/ 2022

الالتفات لغة:

يقول ابن فارس في مقاييس اللغة: “اللام والفاء والتاء كلمة واحدة تدل على الَّليِّ وصرف الشيء عن جهته المستقيمة. منه لفت الشيء: لويته. ولفت فلانا عن رأيه: صرفته. ومنه الالتفات، وهو أن تعدل بوجهك، وكذا التلفّت”

وذكر الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط: لفته يَلْفِتُهُ: لواه، وصرفه عن رأيه، ومنه الالتفات والتَّلفُت.

الالتفات في الاصطلاح:

يقول الزمخشري عند تفسيره قوله تعالى: ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾: فإن قلت: لم عَدَل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات في علم البيان قد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم

ويرى الزركشي أنَّ الالتفات: هو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر تطريــة واستدرارا للسامع، وتجديدا لنشاطه وصيانة لخاطره من الملال والضجر بدوام الأسلوب الواحد على سمعه

أما الالتفات عند السيوطي فـهو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، هذا هو المشهور. وقال نقلا عن السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره.

ولأجل ما تميز به هذا الأسلوب من المزايا البلاغية الدقيقة، وجمال الصنعة، ودقة الأسلوب، فقد وصف بكونه من أجل علوم البلاغة، وهو أمير جنودها، والواسطة في قلائدها وعقودها.

ويسمى (شجاعة العربية) وإنما سمِّي بذلك لأنَّ الشجاعة هي الإقدام، وذاك أنَّ الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويرد الموارد الصعبة ويقتحم الوُرَط العظيمة، حيث لا يردُها غيره ولا يقتحمها سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام. ولا شك أن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات. والشجاعة في أسلوب الالتفات “إقدام على أنماط من التعبير مخالفة لما يقتضيه الأصل، لأنها تعبير بأسلوب الخطاب في سياق الغيبة، وذكر الغيبة في سياق الخطاب، وهكذا.

والمعتمد عليه في ذلك سياق الكلام وشفافية الدلالة. وهذا إن تأملته ضرب من الشجاعة واقتحام سبيل غير السبيل المألوف.

ويرى ابن الأثير أنَّ الانتقال من الخطاب إلى الغيبة أو من الغيبة إلى الخطاب لا يكون إلا لفائدة اقتضته، وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، غير أنها لا تحد بحد ولا تضبط بضابط، وإن الناظر إنما يعرف حسن مواقع الالتفات إذا نظر في كل موضع يكون فيه الالتفات فيعرف قدر بلاغته بالإضافة إلى ذلك الموقع بعينه، فأما أن يكون مضبوطا بضابط واحد فلا وجه له. وهو ما أشار إليه الزمخشري نفسه بقوله: (وقد تختص مواقعه بفوائد).

وذكر الزركشي: أن للالتفات فوائد عامة وخاصة، فمن العامة التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر، لما في ذلك من تنشيط السامع واستجلاب إصغائه، واتساع مجاري الكلام وتسهيل للوزن والقافية شعرا ونثرا. وكذا قال البيانيون: إن الكلام إذا جاء على أسلوب واحد وطال حسن تغيير الطريقة.

أما الفوائد الخاصة فهي عند الزركشي تختلف باختلاف محاله ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم، وذكر منها: قصد تعظيم شأن المخاطب، وقصد المبالغة، وقصد الاهتمام والتتميم لمعنى مقصود للمتكلم، والتنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه.

وشواهد الالتفات كثيرة في القرآن الكريم وفوائده جمة وأسراره بديعــــة، وكل موضع من مواضع وروده في الآيات الشريفات يكشف أسرارا جديدة، وإعجازا بلاغيا جديدا، يدرك معها القارئ دقة السبك، وقوة الحبك وتناســـق العبارات وتماســكها وتلاحمها، وما ذلك إلا لكونه كتابا محكما من لدن حكيم خبير.

ومن مواطن الالتفات من التكلم إلى الغيبة، قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (الكوثر/1-2) وكان الأصل أن يقول بعد قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (فصل لنا) ولكنه (جل جلاله) التفت فقال: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)، وذكر الرازي أنَّفيها فوائد: “إحداها: أن وروده على طريق الالتفات من أمهات أبواب الفصاحة، وثانيها: أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة، وثالثها: أن قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ) ليس في صريح لفظه أن هذا القائل هو الله أو غيره، وأيضا كلمة (إنَّا) تحتمل الجمع كما تحتمل الواحد المعظم نفسه، فلو قال: (صل لنا)، لنفى ذلك الاحتمال وهو أنه ما كان يعرف أن هذه الصلاة لله وحده أم له ولغيره على سبيل التشريك، فلهذا ترك اللفظ، وقال: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) ليكون ذلك إزالة لذلك الاحتمال، وتصريحا بالتوحيد في الطاعة والعمل لله تعالى.

وذكر الدكتور فاضل السامرائي أنَّ الالتفات في قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أفاد أن الصلاة تكون للرب وحده لا للمعطي على سبيل الإطلاق فإن المتصف بالعطاء يستحق الشكر ولا يستحق الصلاة إلا الله، ولو قال (فصل لنا) لربما أوهم أنه استحق الصلاة لكونه معطيا فأزال الالتفات هذا الوهم”.

ومن الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ما جاء في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (الأنبياء/92-93). والأمَّة: الملة، وأشار بـ (هذه) إلى ملة الإسلام، أي: إن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها. وقوله تعالى: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) والأصل (وتقطعتم)، وذكر الزمخشري:أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى آخرين، ويقبِّح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله. والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يتوزع الجماعة الشيء ويتقسمونه، فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب تمثيلا لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى”.

ويرى الزركشي أن الالتفات من الخطاب في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذِهِأُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون(الأنبياء/92) إلى الغيبة فقال تعالى: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ دون (تقطعتم أمركم بينكم)، كان لقصد التوبيخ فكأنه ينعى عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين، ويقبح عندهم ما فعلوه ويوبخهم عليه قائلا: ألا ترون إلى عظم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، فجعلوا أمر دينهم به قطعا، تمثيلا لأخلاقهم في الدين. فكان في العدول من الخطاب إلى الغيبة توبيخ لهم وتفضيع لفعلهم وتوجيه لعدم السير على ما ساروا عليه من التفرقة والتقطع بل العودة إلى عبادة الواحد الأحد والتوحد على كلمة الإسلام الحنيف. ولو جاء الكلام على الأصل (تقطعتم أمركم بينكم) لفقدت العبارة ما دل عليه الالتفات من فوائد.

ومن نمط الالتفات من الغيبة إلى التكلم، قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُالَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَٰلِكَ النُّشُورُ(فاطر/9) قال الرازي: قال (أرسل) إسنادا للفعل إلى الغائب وقال (سقناه) بإسناد الفعل إلى المتكلم وكذلك في قوله (فأحيينا)، وذلك لأنّه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال، ثم لما عرف قال أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض فنفي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب، وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة فإنّ كمال نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء، وقوله: (سقناه وأحيينا) بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرناه من الفرق بين قوله (أرسل) وبين قوله (تثير)”.

وذكر الزركشي أنَّ الالتفات من الغائب إلى التكلم لقصد الدلالة على الاختصاص، فإنه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التي لا يقدر عليها غيره، عدل عن لفظ الغيبـة إلى التكلم، لأنـه أدخل في الاختصاص، وأدل عليـه: (سقنا) و (أحيينا)