م.د. بلسم عباس حمودي
جامعة كربلاء/ مركز الدراسات الاستراتيجية.
تشرين ثاني/ 2022
الوصل عطف بعض الجمل على بعض، والفصل تركه. وهو من أدق مباحث علم المعاني، يقول الخطيب القزويني في (الإيضاح) في فن التمييز بين مواضع الوصل والفصل: هو “فن عظيم الخطر، صعب المسلك، دقيق المأخذ، لا يعرفه على وجهه ولا يحيط علما بكنهه إلا من أوتي فهم كلام العرب طبعا سليما، ورُزِق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا”. ووجه دقة هذا العلم أنَّ الباحث فيه عليه أن يحيط بالجمل وأنواعها، فلا يقتصر بحثه على الجملة الواحدة بل سيكون عن الجمل بعضها مع بعض متى تصل إحداها بالأخرى، ومتى تقطعها عنها، ومن هنا أخذ هذا الموضوع مكانة رفيعة في المباحث البلاغية.
وقد تميز عبد القاهر الجرجاني في تناوله لهذا المبحث في إطار نظرية النظم وهو يرى أنَّ العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل منعطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة،تستأنف واحدة منها بعد أخرى من أسرار البلاغة، ومما لا يتأتىلتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلص، وإلا قوم طُبعُوا علىالبلاغة، وأوتوا فنا من المعرفة في ذوق الكلام هم بها أفراد. وقد بلغمن قــوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدا للبلاغــة، فقد جاء عنبعضهم أنــه سئل عنها فقال: (معرفــة الفصل من الوصل).
ويصف الدكتور إبراهيم أنيس اللغة العربية بأنها لغة الوصل، ففيها – كما يقول – من أدوات الربط ما لا نكاد نراه في غيرها، كالواو والفاء وثم… الخ. فالوصل خاصية من خصائص اللغات السامية لا نكاد نراها في اللغات الأوربية. إذ قال: قد عنى البلاغيون من علماء العرب بموضوع الوصل والفصل بين الجمل وتحدثوا عنه حديثا مسهبا... ونحن هنا لا تعنينا دواعي الوصل بقدر ما تعنينا دواعي الفصل بين الجمل العربية، ولا يصح العدول عن هذا الأصل إلا لسبب بلاغي.
إنَّ الفصل والوصل من القضايا المرتكــزة على الذوق البياني، لمالهـــا من صلة بالمعنى المراد، فليس أمرهما أمر حرف ترك تارة ووجد أخرى بل هو أمر يتعلق بالمعنى الذي لا يصلح إلا بالوصل حيناً وبالفصل آخر. وإذا تتبعنا الآيات البينات في الفصل والوصل نجد التراكيب فيها متناسقة مع المعاني، لأن الزيادة ولو كانت حرفا واحدا في غير موضعه تعد حشوا فارغا، وهذرا من القول، وإغماضا للمعاني، أو تحريفا لمقاصدها، وكتاب الله منزه عن التقصير والغموض والإشكال كيفما كان نوعه، فكل جملة فيه أو عبارة أو حرف وضع لتحقيق مقاصد دينية وخلقية وإصلاحية وتربوية لا يبليها الزمان ولا تتغير بتغير العصور، لأنه كتاب هداية وعبادة وإصلاح لجميع البشر.
ومن جمال الوصل ما جاء في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾(الغاشية/17-20)،فلما حكم الله (جل جلاله) بمجيء يوم القيامة، فقال: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾(الغاشية/1) وقسَّم أهل القيامة إلى قسمين الأشقياء والسعداء ووصف أحوال الفريقين وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة إثبات الصانع الحكيم، لا جرم أتبع ذلك بذكر هذه الدلالة فقال: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾،ووجه الاستدلال بذلك على صحة المعاد أنها تدل على وجود الصانع الحكيم، فالمطلوب في الآية التأمل فيما خلق الله، ليصلوا بهذا التأمل إلى الإيمان بالبعث الذي ينبني عليه أساس الدين، وقد يقال: ما وجه الجمع بين الابل والسماء والجبال والأرض في هذه الآية؟ والجواب: أن التناسب هنا بين الجمل واضح، فقد جمع بينها على مجرى الإلف والعادة بالنسبة إلى أهل الوبر فإن كل انتفاعهم في معايشهم من الإبل، فتكون عنايتهم مصروفة إليها ولا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب وذلك بنزول المطر وهو سبب تقلب وجوههم في السماء، ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم وحصن يتحصنون به ولا شيء في ذلك كالجبال ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها، فإذا نظر البدوي في خياله وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور. فوصلت الآيات الشريفات لما بينها من تناسب معنوي لا يمكن معه الفصل بين الآيات الشريفة، فهي صورة متكاملة لما يحمله البدوي في ذهنه وهي كلها دلائل على عظمة الخالق ودقة صنعه ودليل على وجوده وحقيقة ما وعد به من المعاد والحساب.
ومن روائع القرآن الكريم في الوصل قوله سبحانه في سورة الانفطار: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ﴾ (الانفطار/1-4) لما كانتتلك المظاهر من أمارات القيامة، وصلت الجمل بعضها ببعض لإبراز المعنى في أبهى صوره الفنية لتحقيق الفائدة المرجوة من التهويل والإرشاد، فما أقوى الصلة بين السماء تنشق والكواكبتنتثر، لا نظام يجمعها، ولا جاذبية تحفظها في مكانه، وما أقوىالصلة أيضا بين تفجر البحار فتطغى مياهها، وبعثرة القبور تخرجما دفن فيها من الموتى، فكأنها تتفجر كذلك. ومثل هذا قوله تعالىفي سورة التكوير: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْوَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾ (التكوير/1-14) فتعددت الجمل التي تظهر إمارات يوم القيامة وأهواله وشدائده وتعاطفت بعضها على بعض، وإن في إعادة كلمة (إذا) بعد واو العطف في هذه الجمل المتعاطفـة إطناب، وهذا الإطناب اقتضاه قصد التهويل. فكان للوصل ما يسوغه ويقتضيه لتؤدي العبارة في إطار السياق العام الغرض من صياغتها في إيصال المعنى إلى المخاطب في أوضح صورة وأجلاها.
إنَّ الجمل إذا ترادفت وتكرر بعضها في إثر بعض لابد فيها من ربط الواو لتكون متسقة منتظمة، كما أن الجمل إذا وقعت موقع الصلة، أو الصفة، فلابد لها من ضمير رابط يعود منها إلى صاحبها، فلهذا تقول: زيد قائم، وعمرو منطلق، فلا تجد بدا من الواو، وكما لا تجد بدا من الضمير في نحو قولك: هذا الذي قام وخرج، من أجل الربط الذي ذكرناه، إلا أن تكون الجملتان بينهما امتزاج معنوي، وتكون الثانية موضحة للأولى مبينة لها كأنهما أفرغا في قالب واحد، فإذا كانت بهذه الصفة فإنها تأتي من غير واو.
وكما كان في الأسماء ما يصِلُه معناه بالاسم قبله، فيستغنى بصلة معناه له عن واصل يصله ورابط يربطه، وذلك كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد، كذلك يكون في الجمل ما تتصل من ذات نفسها بالتي قبلها، وتستغني بربط معناها لها عن حرف عطف يربطها. وهي كل جملة كانت مؤكدة للتي قبلها ومبينة لها، وكانت إذا حصَّلتَ لم تكن شـيئا سواها، كما لا تكون الصفـة غير الموصوف، والتأكيد غير المؤكــد. فإذا قلـت: (جاءنـي زيد الظريف)، و (جاءني القوم كلهم)، لم يكن (الظريف) و(كلهم) غير زيد وغيرالقوم.
ومثال ما هو من الجمل كذلك قوله تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(البقرة/1-2)، فقد فصل جل جلاله بين هذه الجمل لكمال الاتصال، فهي جمل يؤكد بعضها بعضا، ويأخذ بعضها بعنق بعض، لتنزيه الكتاب العزيز، وتأكيد كماله، وبلوغه الغاية في الهداية. يقول الزمخشري: “والذي هو ارسخ عرفا في البلاغة أن يقال: إن قوله “O!9#” جملة برأسها، أو طائفــة من حروف المعجم مستقلـة بنفسها و﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ جملـة ثانية، و﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ ثالثــة و﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ رابعــة، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغــة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا، من غير حرف نسق، وذلك لمجيئها متآخية، آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة.بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال، فكان تقريرا لجهة التحدي، وشدا من اعضاده، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة.. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وكذلك قوله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ﴾(البقرة/8-9)، إنما قال(يخادعون) ولم يقل: (ويخادعون) لأن هذه المخادعة ليست شيئا غيرقولهم: ﴿آمَنَّا﴾، من غير أن يكونوا مؤمنين، فهو إذن كلام أكد به كلامآخر هو في معناه، وليس شيئا سواه.
ومن إيثار الفصل لكون الجملة الثانية توكيدا للأولى، قوله عز وجل في وصف المنافقين: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾(البقرة:14)، وذلك لأن معنى قولهم: ﴿إِنَّا مَعَكُمْ﴾: إنا لم نؤمن بالنبي (صلى الله عليه واله وسلم) ولم نترك اليهودية. وقولهم: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾، خبر بهذا المعنى بعينه، لأنه لا فرق بين أن يقولوا: (إنا لم نقل ما قلناه من أنا آمنا إلا استهزاءً)، وبين أن يقولوا: (إنا لم نخرج من دينكم وإنا معكم)، بل هما في حكم الشيء الواحد، فصار كأنهم قالوا: (إنا معكم لم نفارقكم) فكما لا يكون (إنا لم نفارقكم) شيئا غير (إنا معكم)، كذلك لا يكون (إنما نحن مستهزؤن) غيره. قال فخر الدين الرازي: إنَّ معنى قولهم إنا معكم إنا لم نؤمن وقولهم إنما نحن مستهزؤن متضمن له، فجاءت مفصولة عن سابقتها.
وقد يفصل بين الجملتين لما يكون بينهما من امتزاج معنوي منشؤه أن الجملة الثانية شارحة وموضحة للجملة الأولى، كما ترى ذلك في قوله سبحانه: ﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ (المؤمنون/81-82)، فالقول الثاني ورد شارحا ومبينا للقول الأول، فلم يوصل بين القولين لكي لا يلتبس المعنى ويضيع المقصود من العبارة ومثله قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾(الشعراء/132-134)، فجاء الإمداد الثاني موضحا للأول. وإذا تأملت هذه الآيات وجدت الجملة الثانية في الآية الأولى تقع من جملتها السابقة كما يقع بدل الكل من الكل، ووجدتها في الآية الثانية واقعة موقع بدل البعض من الكل.
ومن روعة الفصل ما جاء في آية الكرسي، قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَإِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚوَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾(البقرة/255)، فقد تواردت الجمل واحدة تلو الأخرى بنسق رائع وجزالة فريدة دالة على معنى واحد متكامل فلا حاجة لذكر لفظ يدل على الربط فهي كالشيء الواحد إذا دخلها حرف وصل كان شاذا غريبا عنها. يقول الزمخشري: فإن قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرســي من غير حرف عطف ؟ قلت: ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليـه والبيان متحد بالمبين، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب: بين العصا ولحائها، فالأولى: بيان لقيامـه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير سـاه عنه، والثانية: لكونه مالكا لما يدبره، والثالثة: لكبرياء شأنه، والرابعة: لإحاطته بأحوال الخلق، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة، وغير المرتضى، والخامسة: لسعـة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله وعظم قدره.
وتتجلى دقة القرآن كذلك في وصل الجمل بسائر حروف العطف غير الواو، وكما ذكرنا سابقا أن لحروف العطف التي ذكرها النحاة مع دلالتها على العطف معنى آخر فـ (الفاء) تدل على الترتيب والتعقيب و(ثم) للترتيب والتراخي و(أو) للتخيير أو الشك و(بل) للإضراب و(حتى) للغاية.. وقد استخدمها القرآن بإحكام عجيب حسبما يقتضيه السياق القرآني. تأمل قوله تعالى: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾(الشعراء/75-81). فهو قد عطف السقي على الإطعام بالواو إرادة للجمع بينهما بلا ترتيب، ثم عطف الإحياء على الإماتة بـ (ثم)، لأنه إنما يكون بمهلة وتراخ.
وترى هذه الدقة في قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ﴾(عبس/17-22) فجاء قوله من نطفــةخلقه بلا واو، لأنها مفسرة لقولــه من أي شيء خلقه، وعطف قولــه: فقدره بالفاء تنبيها على أن التقدير مرتب على الخلق وعلى عدمالتراخي بينهما، وعطف السبيل بـ (ثم)، لما بين الخلق والهداية منالتراخي والمهلة الكثيرة، ثم عطف الإماتة بـ (ثم)، إشارة إلىالتراخي بينهما بأزمنة طويلة ثم عطف الإقبار بـ (الفاء) إذ لا مهلةهناك ثم عطف الانشار بـ (ثم) لما يكون هناك من التراخي باللبثفي الأرض أزمنة متطاولة.
ومن روعة العطف ودقة القرآن الكريم في اختيار المناسب المجسدللمعنى أفضل تجسيد ما تجده في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾(الكهف/28). فقد يبدو بادئ الرأي أن الموضع للفاء هنا، فيقال: ولاتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه، لأن فعل المطاوعة لايعطف إلا بالفاء، تقول أعطيته فأخذ، وكسرته فانكسر، فلو كان المراد هو إنه تعالى جعل قلبه غافلا لوجب أن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه. لأن على هذا التقدير يكون ذلك من أفعال المطاوعة، وهي إنما تعطف بالفاء لا بالواو، ولكن التأمل يدلعلى أن الآيــة تعدد صفات الشخص الذي نهى الرسـول (صلى الله عليه واله وسلم) عن طاعته والالتفات لأقواله من المتكبرين والأغنياء فـ “المراد من قوله تعالى: ﴿أَغْفَلْنَا﴾ أي وجدناه غافلا وليس المراد تحصيل الغفلة فيه، فكأنه قال: ولا تطع مـن غفل قلبـه عن ذكرناواتبع هواه ومن هنا كانت الواو في مكانها.
فالتأمل الدقيق لآيات القرآن الكريم يوقفنا على دقة القرآن المتناهيةفي اختيار المناسب كل حسب مكانه للتعبير عن المعنى المراد بأبهىصورة وأجمل عبارة مما جعل من النص القرآني نصا محكما قويالا يمكن استبدال حرف بحرف دون أن يختل المعنى أو تنقصالدلالة.
وجرى الاستعمال القرآني على ألا يعطف بعض الصفات على بعض إلا إذا كان بينها تضاد، تجد ذلك في قولـه تعالى: ﴿عَسَىٰرَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾(التحريم/5). فقد جاء العطف في قوله تعالى: ﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾بخلاف ما تقدمه من الصفات، فإنها معدودة من غير واو، وذلك لأجلتناقض البكارة والثيوبة، فجيء بالعطف لرفع التناقض بخلاف الإسلام والإيمان والقنوت والتوبة وغيرها من الصفات. فلما تضادت الصفات عطفت كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾(الحديد/3)
أمّا قوله سبحانه: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾(غافر/2-3) فجاءت الواو في قوله تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ﴾ لنكتة جليلة كما ذكر الزمخشري وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين: بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات. وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال: جامع المغفرة والقبول.
ولم يعطف (السجود) على (الركع) في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة/125)، وقد علل أبو حيان في تفسيره البحر المحيط ذلك بقوله: لأن المقصود بهما المصلون، والركع السجود وان اختلفت هيآتهما فيشملهما فعل واحد وهو الصلاة، فالمراد بالركع السجود المصلون، فناسب أن لا يعطف لئلا يتوهم ان كل واحد منهما عبارة على حالها وليستا مجتمعتين في عبادة واحدة وليس كذلك.
يبدو لنا في ضوء هذه الشواهد القرآنية أن القرآن الكريم في استخدامه لأسلوب الفصل والوصل يراعي دائما إثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة أنفسهم بمختلف نزعاتها وميولها وكذا عواطفهم لتأمل الآيات القرآنية والنظر فيها والوقوف على المعاني الكامنة ورائها واستنباط المواعظ والحكم والإرشاد من بين ثنايا ألفاظها فلم ينتقل القرآن الكريم من فصل إلى وصل لأجل التفنن في القول والتنوع في الأساليب فحسب بلجاء ذلك على وفق المعاني المرادة حتى تؤدي العبارة في إطار السياق العام الغرض من صياغتهـا في إيصال المعنى إلى المخاطب في أوضح صــورة وأجلاها.