البـاحثة: د. م هناء جبوري محمد
مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء (11/2/2032 )
يمكن القول إنَّ المجتمع الدولي تعرض للعديد من التغييرات العميقة خلال مراحله كافة، والتي تركت بصماتها على بنيته وهيكله وشكله، وتتمثل أهم تلك التغييرات، في:
- ازدياد عدد الدول التي تشكل العمود الفقري للجماعة الدولية المعاصرة، يكفي أن نذكر أنَّ عدد أعضاء الأمم المتحدة يقترب من مائة وتسعين دولة، بعد أن كانوا واحدًا وخمسين وقت إنشائها. هذه الدول تختلف من حيث الاتساع الجغرافي، والقوة الاقتصادية، والأنظمة السياسية والاجتماعية وغيرها، وقد أدت هذه الزيادة العددية إلى تراجع دور الدول الكبرى – إلى حد ما- أمام الاغلبية العددية للدول حديثة الاستقلال.
- ازدياد أهمية الكائنات القانونية الدولية الأخرى، والتي تقوم بدور لا يمكن انكاره على الصعيد الدولي، مثال ذلك: حركات التحرير الوطنية، والمنظمات الدولية، والشركات متعددة الجنسيات …إلخ.
- وجود عدد من الدول التي تتحكم – من حيث الواقع- في مصير المجتمع الدولي، وإذا كانت ظاهرة القوة أو القوى العظمى قد وجدت منذ أقدم العصور (سواء في عصر الرومان أو الفرس أو الاسلام)، فإنَّ من الثابت أنَّ القوى العظمى الموجودة حاليا تستند- بالنظر للتقدم العلمي الرهيب خصوصا في وسائل القتال والتدمير- إلى مبدأ “توازن التأثير أو توازن القوى أو توازن الرعب” رغبة في تلافي أي تدمير ذاتي لكل منهم.
- ترابط العلاقات بين أعضاء الجماعة الدولية وتداخلها وتشابكها، سواء من الناحية الأفقية أو الرأسية، هذا الترابط تتجلى في مظاهره في عدم إمكانية استغناء الدول بعضها عن بعض في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية والاقتصادية كافة.
- اتساع الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية، والتي لا تعد فقط نتيجة للنظام الاستعماري القديم الذي انقضى، بل أيضاً انعكاسا للنظام الحالي بما صاحبه من تقدم علمي وتكنولوجي رهيب، والواقع أن الناحية الاقتصادية في القانون الدولي المعاصر تبدو كئيبة: انتشار الكساد، والتضخم، وأزمات الطاقة، والفقر، والمديونيات الخارجية، والمواد الأولية …إلخ.
- ما تقدم ليس من شأنه أن يدعو إلى الاستغراب، على أساس أنَّ كل عنصر يفرز ويفرض النظام الذي تتولد عنه العلاقات المسيطرة فيه، ومع ذلك يمكن القول إنَّ كل شيء قابل للتغيير، إذا اتجهت الإرادة نحو ذلك.
- الصورة القاتمة المعروضة سابقاً، هي في الواقع انعكاس لتطور طويل، تضرب جذوره في أعماق التاريخ وحتى وقتنا الحاضر. فالقانون الدولي (لاسيما التقليدي) جسَّد سيطرة الأقوياء على الضعفاء، لذلك حينما يصحو الضمير أو يدق ناقوس الخطر أو التمرد، أو حينما يتكلم مقتضى “العدالة” بصوت أعلى من صوت “الأمر” تبدو الحقيقة المؤلمة والحزينة، وتسقط كل فروع الخيال وأوراقه. وإذا كان القانون الدولي التقليدي في طريقه إلى الزوال بوصفه مرحلة تاريخية عفا عليها الزمان، فإنَّه للأسف ما زالت مبادئه قائمة كنهج وكوسيلة رؤيا، وإن كان ذلك تحت شكل آخر. أي إنَّه إذا كان الشكل قد تغيَّر، فإنَّ المضمون – للأسف- واحد. ويمكن التنويه ايضا بأنَّ مختلف العوامل التي تحدد العلاقات الدولية المعاصرة، ليست مجرد قنوات جامدة وفاصلة ونهائية، تحرم أطرافها من حرية التصرف والتقدير، بل هي تشكل الإطار الذي يحدد- دون أن يلغي – القدر الذي يمكن أن تمارس فيه الاختيارات، على أنَّ مظاهر تطور القانون الدولي، وهو القانون الذي يحكم تلك العلاقات، تبدو متعددة، ومنها: عدم اقتصار الشخصية القانونية على الدولة بوصفها الشخص القانوني الدولي الوحيد، وازدياد اهمية العنصرين البحري والجوي من اقليم الدولة، نتيجة للاكتشافات العلمية الهائلة وثورة التكنولوجيا، وذلك بعد أن كان العنصر البري هو صاحب الاهتمام الأكبر، إن لم يكن الوحيد، وانقضاء بعض أساليب اكتساب الاقليم (كالغزو مثلا)، وانقضاء اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل المنازعات الدولية، بعد أن كان حقًا مشروعًا تملكه كل دولة، وبزوغ فكرة التضامن الدولي في صورة أكثر من ذي قبل. وتستند المظاهر السابقة إلى بعض المبادئ الاساسية التي يؤسس عليها صرح القانون الدولي المعاصر وبنيانه، ومنها: المساواة في السيادة، وضرورة الموافقة لكي يترتب إلزام في حق أشخاص القانون الدولي (باستثناءات معينة)، وحسن النية، والدفاع عن النفس، والمسؤولية عن الأضرار، وحرية البحار العالية والفضاء الخارجي، وتحريم القوة أو التهديد باستخدامها، والسيادة على الموارد الطبيعية، وحسن الجوار، وعدم إساءة استخدام الحق….إلخ.