م.د. بلسم عباس حمودي
جامعة كربلاء/ مركز الدراسات الاستراتيجية
شباط/ 2023
الاعتراض لغة:
جاء في لسان العرب: عرض الشيء يَعْرِضُ واعترض: انتصب ومنع وصار عارضًا كالخشبة المنتصبة في النهر والطريق ونحوها تمنع السالكين سلوكها. ويقال: اعترض الشيء دون الشيء، أي حال دونه. واعترض الشيءَ: تكلَّفه.
الاعتراض اصطلاحا:
يرى ابن الأثير في كتابه المثل السائر أنَّ الاعتراض هو كل كلام أدخل فيه لفظ مفرد أو مركب لو أسقط لبقي الأول على حاله. مثال ذلك أن تقول: زيدٌ قائمٌ، فهذا كلام مفيد، وهو مبتدأ وخبر، فإذا أدخلنا فيه لفظا مفردا، قلنا: زيدٌ والله قائمٌ، ولو أزلنا القسم منه لبقي الأول على حاله، وإذا أدخلنا في هذا الكلام لفظًا مركبًا، قلنا: زيدٌ على ما به من المرض قائمٌ، فأدخلنا بين المبتدأ والخبر لفظًا مركبًا، وهو قولنا: (على ما به من المرض) فهذا هو الاعتراض، وهذا حده.
والجملة الاعتراضية من الجمل التي لا محل لها من الإعراب، ولئن كانت الجملة الاعتراضية من حيث التحليل النحوي لا تمثل عنصرًا إسناديًا، ولا تمثل عنصرًا غير إسنادي، فإنَّها لا تنفك عن الجملة الأصلية، ولا تزول عنها من حيث معناها، لأنَّها تعترض بين عنصرين متضامين متلازمين، لإفادة الكلام تقوية وتسديدا أو تحسينا.
ومن تَأمُّل الجمل الاعتراضية الواردة في الآيات القرآنية الشريفة، ندرك أن الجملة الاعتراضية ليست مجرد جملة مقحمة بين جملتين أو بين ركني جملة، أو بين وحدتين إسناديتين من مثل: الشرط وجوابه، أو القسم وجوابه، إذ إنَّ هذه الجملة الاعتراضية ليست معزولة في معناها عن معنى التركيب الإسنادي المعترضة بين أجزائه، ذلك أنه لا يكون له المعنى نفسه إذا سقطت هذه الجملة الاعتراضية. وإنَّ وجودها يثير الانتباه ويضيف إلى التركيب الإسنادي الموظفة فيه معنًى جديدًا ما كان ليكون لولا وجودها. وما كان هذا شأنه فلا يمكن الاستغناء عنه دوما، بل قد يكون هو معتمد الكلام فلا يصح حذفـه، لأنَّ الكلام لا يصح من دونه. فالاعتراض لم يأتِ في القرآن الكريم وسيلة لتحسين الكلام فحسب، وليس حشوًا يمكن الاستغناء عنه، بل إنَّه، لوقوعه موقعه المناسب، كان من مقتضيات النظم، ومن متطلبات المقام، وكانت له أغراض بلاغية دقيقة وبديعة سيق من أجلها، ولو أسقط من السياق سقط معه هذا الجزء الأصيل من المعنى. وقد بلغت شواهده في القرآن الكريم سبعة وعشرين شاهدًا، وكان لوروده في كل شاهد منها أغراض بلاغية سيق من أجلها، وسنكتفي بذكر نماذج منه لبيان بعض من هذه الأغراض البلاغية:
1- تقرير الكلام، منه قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿قَالُواْ تَٱللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَٰرِقِينَ﴾ (يوسف/73)، تجد قوله:﴿ لَقَدْ عَلِمْتُم﴾ اعتراض بين القسم وجوابـه، وفائدته تقرير إثبات البراءة من الفساد والنزاهة من تهمة السرقة: أي إنَّكم قد علمتم هذا منا، ونحن مع علمكم به نقسم بالله على صدقه. وقد أضافوا العلم إليهم مع أنهم لم يعلموه، لأنَّ المعنى أنَّكم قد ظهر لكم من حسن سيرتنا، ومعاملتنا معكم مرة بعد أخرى، ما تعلمون به أنه ليس من شأننا السرقة. وقيل: إنَّهم قالوا ذلك لأنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في رحالهم، أي: فإذا كنَّا تحرجنا عن هذا، فقد علمتم أنا لا نسرق، لأنَّ من ردَّ ما وجد لا يكون سارقًا.
2- قصد التنزيــه، كقولــه تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَٰتِ سُبْحَٰنَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ﴾ (النحل/57)، فقوله تعالى: (سبحانه) كلمة تنزيه أوردها اعتراضا بين الجملتين، مبالغة في التنزيه عما نسبوه إليه من اتخاذ البنات، ومبالغة في الانكار عليهم في هذه المقالة. ثم قال: فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه اللفظة، أعني قوله: (سبحانه) من حسن الموقع بكونها واردة على جهة الاعتراض، وما تضمنته من الفوائد الشريفة والأسرار الخفية، ومن الانكار والرد والتهكم، وإظهار التعجب من حالهم وغير ذلك من اللطائف.
3- قصد التأكيد، كقوله تعالى: ﴿فلا أُقسِمُ بمواقِعِ النجوم وإنّه لقسَمٌ لو تعْلَمون عظيم﴾(الواقعة/75)، وفيها اعتراضان: فإنَّه سبحانه اعترض بقوله: ﴿وإنّه لقسَمٌ﴾ بين القسم وجوابه، واعترض بقوله:﴿لو تعْلَمون﴾ بين الصفة والموصوف، كأنه قال: (وانه لقسم لو علمتم حاله أو تحققتم أمره، لعرفتم عظمة وفخامة شأنه)، والمراد من الاعتراض: تعظيم شأن ما اقسم به من مواقع النجوم وتأكيد إجلاله في النفوس لا سيما بقوله: ﴿لو تعْلَمون﴾. وذكر صاحب الإتقان أنَّ في هذا الاعتراض تعظيما للمقسم به وتحقيقا لإجلاله، وإعلاما لهم بأنَّ له عظمة لا يعلمونها.
4- زيادة الرد على الخصم، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾(النحل/101)، قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ اعتراض فائدتــه تقرير لمصلحة التبديل وتعريض بجهلهم بمعرفــة ذلك، وإعلام لهم بأنَّ الله تعالى هو المتولي لذلك، فهذه الجملــة الابتدائيــة الواردة اعتراضا قد قامت مقام ما ذكرناه من هذه الأسرار. ويرى صاحب البرهان أنَّ من أسباب هذا الاعتراض زيادة الرد على الخصم، فكأنَّه أراد أن يجيبهم عن دعواهم، فجعل الجواب اعتراضا.
5- لدفع الإيهام، كقوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾(المنافقون/1) قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ جملة معترضة بين قولهم: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ﴾ وبين قوله: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾ وفائدتها دفع الايهام، جاء في الكشاف: فإن قلت: أي فائدة في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾؟ قلت: لو قال: (قالوا نشهد إنَّك لرسول الله والله يشهد إنَّهم لكاذبون)، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب، فوسط بينهما قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ ليميط هذا الإيهام.
6- التحدي والتعجيز، كقوله تعالى:﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾(البقرة:24)، قولــه تعالى: ﴿وَلَن تَفْعَلُوا﴾ اعتراض بين الشــرط ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا﴾ وجوابــه ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾، وفائدته تحديهم وتأكيد عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل القرآن الكريم، وقد صدرت الجملـة الاعتراضية ﴿وَلَن تَفْعَلُوا﴾ بحرف النفي(لن) وهو حرف يفيد نفي المستقبل كـ (لا)، خلا إنَّ فيه زيادة تأكيد وتشديد، مما أعطى الجملة تأكيدًا في المعنى، تقول لصاحبك: لا أقيم غدًا، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غدا، كما تفعل في: أنا مقيمٌ، وإنّي مقيمٌ.