م. حسين باسم عبد الأمير
رئيس قسم الدراسات السياسية
حزيران/ 2023
يُعدّ الحضور الصيني الملفت في الأروقة الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية بل حتى الثقافية في عموم الشرق الأوسط، والطموح والجموح الروسي في إعادة ترسيم بنية النظام العالمي، بمنزلة النتيجة المترتبة على فشل السياسة الخارجية الأمريكية في العراق والشرق الأوسط.
لقد أبرمت الصين معظم استثماراتها مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في منطقة الشرق الأوسط، وكثير منهم أيضا زبائن حريصون على التكنولوجيا العسكرية الصينية.
تم إنشاء أول قاعدة عسكرية خارجية للصين في جيبوتي قبل ست سنوات، وقد ذكرت الصين بأنَّ المنشأة ستستخدم بصفة رئيسة لدعم الإمدادات العسكرية للقوات الصينية في خليج عدن، غير أنَّ “بكين” تستثمر أيضا بكثافة في الموانئ التجارية، التي يمكن بسهولة تعظيم فوائدها الاستراتيجية الأخرى، بما في ذلك ميناء “جوادر” الباكستاني، وميناء “الدقم” العماني على جانبي خليج عمان، وهو ما يوحي إلى امكانية تضمين موانئ دول عربية مستقبلا بهذا التوجه الصيني المتنامي، إذ تعدّ الصين مضيقي: هرمز وباب المندب نقاطًا بالغة الأهمية لبقائها الاقتصادي والعسكري، حيث يتم شحن الجزء الأكبر من وارداتها من الطاقة، عبر هذه الممرات الاستراتيجية.
ومع تدهور العلاقات الصينية الأمريكية، أصبح هدف بكين يتمثل في زيادة السيطرة على هذه الممرات المائية، وتقليل قدرة أمريكا على قطعها في أي صراع محتمل كـحاجة مُلحّة للغاية، هذا هو السبب الرئيس وراء بناء الصين للبحرية، التي أصبحت اليوم أكبر- إن لم تكن أكثر تقدما- من البحرية الأمريكية. وفي هذا الصدد ذكر “ديفيد إغناتيوس” في مقال نشرته “ذا واشنطن بوست” بتاريخ 13 أيار 2020 بعنوان مستفز لصناع القرار في الولايات المتحدة: ((هل تعتقد أنَّ لدينا أسبقية عسكرية على الصين؟ فكر مرة أخرى!!)) وأكَّد خلال المقال تراجع القوة والتكنلوجيا العسكرية الأمريكية أمام الصين، وذكر:
“على مدى العقد الماضي، في ألعاب الحرب الأمريكية ضد الصين، تمتعت الولايات المتحدة بسجل مثالي تقريبًا: لقد خسرنا كل مرة تقريبًا”.
في الواقع، حتى وقت قريب اتبعت بكين سياسة عدم التدخل في الشرق الأوسط، المتمثلة في كونها صديقة للجميع. وقد ظهر نجاح تلك السياسة في الوقت الذي ابرمت فيه اتفاقيات استثمارية وأمنية تجاوزت ما قيمته عدة مئات من المليارات مع إيران، بينما تساعد المملكة العربية السعودية -خصم إيران- في برنامجها النووي. بل تمكنت الصين مؤخرا من التوسط بينهما لحل الخلافات، والتوصل إلى إنهاء خلافهما الدبلوماسي، الذي انعكس -إلى حد ما- بصراع بالوكالة على أرض الواقع في كل من سوريا واليمن!! كما أنَّ الصين تدعم القضية الفلسطينية بشكل تاريخي من جانب، في حين تجذب الكيان الإسرائيلي للمشاركة في أحدث التقنيات، وتأجير وتطوير الموانئ الاستراتيجية الرئيسة الاسرائيلية لمصلحة مؤسسات الدولة الصينية. ومن ثم، فقد أغرت سياسة عدم التدخل الصينية بلدان الشرق الأوسط لفتح الأبواب لها.
ومن الممكن القول بأن فشل الولايات المتحدة في العراق، هو الذي فتح الباب أمام تعاظم طموح الصين وروسيا، في تعزيز طموحهم الاستراتيجي على حساب الولايات المتحدة، إذ هدفت حرب العراق إلى إضفاء الطابع الديمقراطي في ربوع الشرق الأوسط، ولكنها بدلا من ذلك أدت إلى تآكل أسطورة القوة المطلقة للولايات المتحدة، وهو ما خلق مساحة جديدة للقوى المنافسة.
في غضون ذلك، تعززت فرص الصين في التأثير الاقتصادي في الشرق الأوسط، بسبب عدم كفاءة الولايات المتحدة في تحقيق التنمية في العراق، وهو ما دفع المنطقة لتصبح جزءًا من خطط مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI)، التي تم الكشف عنها في عام 2013.
وكذلك أشار العديد من المحللين إلى أنَّ الصين، التي كانت مشغولة في السابق مع الشؤون الخارجية ضمن بيئتها الاقليمية، وتركز في القضايا الاقتصادية بالدرجة الأساس، قد انتقلت إلى مركز الصدارة في الدبلوماسية العالمية. وتعد مساعدتها في التوسط في تجديد العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران مثالًا مذهلًا، فالسعوديون كانوا في يوم من الأيام حلفاء موثوقين للولايات المتحدة. وكذلك، فإن صيغة بكين لإنهاء الحرب في أوكرانيا، عبر محادثات السلام ومساعي وقف إطلاق النار.
فشل الولايات المتحدة:
كان مخططو الحرب التابعون لـ “جورج دبليو بوش” قد وضعوا أعينهم على تنظيم شرق أوسط جديد. لم يعدّوا أنَّ قراءة حرب العراق وعدم الكفاءة العامة فيها، سوف يُنظر إليها على أنها المُحفّز لأنشطة سياسية وعسكرية أجنبية جديدة من قبل اثنين من أهم المنافسين.
كتبت “لويز فوسيت” أستاذة العلاقات الدولية بجامعة أكسفورد في العام 2009: “أنهت حرب العراق حقبة من الغطرسة الغربية حول نظرية وممارسة الترويج للديمقراطية. بالنسبة لكل من روسيا والصين، ساعدت حرب العراق على تآكل أسطورة القوة المطلقة الغربية، وفتح الشرق الأوسط كمساحة تنافسية للفرص الاقتصادية والاستراتيجية.“
لقد ساعد التركيز الضيق والتوقعات الخاطئة في تشكيل هذه الحقائق الجيوسياسية الجديدة، كما فعلت الخدع التي استخدمتها إدارة بوش للترويج للحرب، إذ كان السبب المعلن للغزو هو الحاجة إلى منع العراق من استخدام أسلحة دمار شامل أو تطويرها. على الرغم من إصرار بوش ومسؤوليته على وجود مثل هذه البرامج، إلا أنه لم يتم العثور على أي منها.
وفي هذا السياق ذكر “روبرت إي كيلي” عضو فريق الوكالة الدولية للطاقة الذرية، المكلف بالتحقيق في تأكيد امتلاك العراق أسلحة نووية: إنَّ الاتهامات كانت “مليئة بالقمامة”.
وكتب كيلي في مقال نشره معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) في 9 آذار/ مارس2023:
“السياسة والإذعان والتفكير الجمعي كانت هي السائدة، وكانت نتيجة كل هذا حربا قتلت مئات الآلاف من الناس، وغذت سنوات من عدم الاستقرار في العراق وحول المنطقة”.
أما فيما بتعلق بـروسيا، فقد ذكر بوتين خلال خطابه في منتدى فالداي السنوي السابق: أنَّ الغرب لم يعد بمقدوره الاستمرار في السيطرة، لكنه “يحاول بكل الأشكال” أن يستمر، مضيفا أن “النظام العالمي الجديد يتم تأسيسه الآن، أمام أعيننا“. كما أضاف بوتين قائلا: أنه يجب التفكير في “تغيير هيكل مجلس الأمن الدولي حتى يعكس التنوع في العالم“، وأوضح أن العالم يشهد تآكلا في مبدأ الأمن الجماعي، وبيّن ضرورة “استبدال القانون الدولي بقواعد بديلة“. وأنهى حديثه بالقول: “إنَّ العالم يدخل عقدا هو الأكثر خطورة منذ الحرب العالمية الثانية”.
صفوة الحديث، إنَّ فشل الولايات المتحدة في انتاج شرق أوسط ديمقراطي جديد، بل واخفاقها في تحقيق التنمية والاستقرار في العراق، أكد تآكل أسطورة القوة المطلقة الغربية، وهو ما فتح المجال الشرق أوسطي أمام الصين، وقزّم المجال الأوربي أمام روسيا، ووفر كلا المجالين مساحات تنافسية للفرص الاقتصادية والاستراتيجية على حساب الهيمنة الامريكية في كليهما.”