مركز الأبحاث العلمية والدراسات الاستراتيجية للشرق الأوسط/ طهران
الكاتب: د. محمود سريع القلم
11/ أيار/ 2023
المترجم: أ.م. خالد التميمي
كانت الاتجاهات المعادية للغرب في سياسة إيران الخارجية، خلال العقود الأربعة الماضية، واضحة تمامًا. حاولت بعض الحكومات القيام باستعدادات للتطبيع مع الغرب، لكنَّها فشلت، والسبب الرئيس لهذا الفشل ليس أيديولوجيا بل طبيعة الهيكل السياسي. إذا تم تطبيع علاقات إيران مع الغرب، حتى مع الحفاظ على درجة من الاستقلال السياسي، مثل الهند وإندونيسيا، فإنَّ الشكل الحالي وعلاقات القوة سوف تتلاشى تدريجيًا، لذلك من الطبيعي أن تمنع الحكومة في البلاد هذا التطبيع، نظرًا لأنَّ لعبة القوة في إيران غالبًا ما تكون بما يعرف صفر+ واحد، فإنَّ دخول مجموعة معينة أو تيار معين إلى السلطة، يؤدي إلى الخروج الكامل لمجموعة أخرى أو تيار آخر من السلطة. لم يختبر الإيرانيون أو يمارسوا منهجية بناء التحالفات لحكم المصالح الوطنية وتأمينها. إنَّ طبيعة القوة في إيران ليست منحنًى أفقيًا به تقلبات صغيرة، وقد يكون لأي تقلبات صعودًا وهبوطًا ومظهرًا فكريًا وأيديولوجيًا، ولكن في جوهرها الأعمق هي ببساطة الوصول إلى السلطة والإمكانات المستمدة من السلطة. أن تكون إيران معادية للغرب يجب أن يكون فيها حكم عقلاني. كان نموذج العلاقات مع الغرب في العقود الأربعة الماضية، هو الحد الذي يتم عن طريقه التبادل التجاري، ولكن في العلاقات السياسية، الغربيون غير يائسين من التطبيع مع إيران، إلا إنَّهم غير قريبين حتى يتمكنوا من القيام بدور في اتخاذ القرار. يتوافق هذا الأسلوب مع ثقافة المجتمع التي تميل إلى الارتباط بالآخرين بغموض. وبشكل عام في هذا المجتمع يعدّ الوضوح والشفافية نوعًا من العيب والبساطة.
على عكس روسيا والصين، فإنَّ قوة الغرب ليست فقط في إطار حكوماتهم، إذ يتمتع القطاع الخاص والمجتمع المدني والفن والجامعات ومعاهد البحوث والبنوك وحتى الفرق الرياضية، بقوة ناعمة تتجاوز الحكومات. على سبيل المثال، يمتلك المزارعون الأمريكيون القدرة على تصدير حوالي (170) مليار دولار من المنتجات الزراعية سنويًا. أمّا في روسيا عمومًا، تتلخص الشؤون العامة للبلاد في المؤسسة الحكومية. ومع ذلك، ونظرًا للتفاعلات الدولية، فإنَّ الصين لديها ظروف مختلفة مقارنة بروسيا، إذ لديها مجتمع أكثر ثراءً وقطاعًا خاصًا قوياً. ففي عام 2022 استورد القطاع الخاص الصيني (539) مليار رقاقة الكترونية، أي ما يعادل ثلث السوق العالمية، بقيمة حوالي (192) مليار دولار. إنَّ بنية الغرب هي أنه عندما يتطابق مع بلد ما، يبدأ مجتمعه أيضًا اتصالات واسعة النطاق.
مع هذه المقدمة، كانت الحكومة الإيرانية آنذاك في عام 2013، تأمل أنّه مع تحقيق خطة العمل الشاملة المشتركة، و”حل” القضية النووية مع الغرب، سيتم توفير أسس الحوار حول قضايا أخرى (تأثير غير مباشر). الخطأ النظري في هذا التحليل لا يخرج من حالتين: أمّا أن يكون هناك وعي محدود بآلية القوة في إيران، لأنَّ الهدف من الاتفاق النووي لم يكن تطبيع العلاقات مع الغرب، أو لم تكن هناك معرفة بالقواعد الاساسية لمعارضة الغرب لإيران. ولأن الغرب لم يستطع حل المشكلة الأولى ولا الثانية (أي معارضة إيران لإسرائيل، وأنشطة إيران الواسعة في المنطقة) فقد ذهب إلى المشكلة الثالثة أي البرنامج النووي.
هذه المشكلات الثلاث ليست لها الأهمية نفسها من وجهة النظر الغربية. ترجع أهمية المشكلة الثالثة من وجهة نظر الغرب إلى المشكلتين الأولى والثانية. ما لم تفهمه الحكومة في ذلك الوقت هو أن القضية النووية الغربية مع إيران، هي انعكاس لمشكلتين أخريين، وطالما بقيت المشكلة الأولى والثانية، فإنَّ الحل الدائم للمشكلة الثالثة هو وهم. من جهة أخرى فإنَّ نظرية انسحاب إدارة ترامب من خطة الاتفاق النووي، وما تبعته من مشكلات مع الحكومات الأميركية بعده هي متوقعة. أوفت إيران بالتزاماتها في الاتفاق النووي، لكن خطة الاتفاق النووي كانت اتفاقية مع إدارة أوباما (الإدارة الأمريكية)، وليست معاهدة مع حكومة الولايات المتحدة (كدولة)، والتي تشمل كلا من السلطات التنفيذية والتشريعية. ونظرًا لأنَّ الأسس النظرية لخطة الاتفاق النووي كانت ضعيفة، وكان بإمكان إدارة ترامب الانسحاب منها بالفعل، فقد اكتسبت الأجواء المناهضة للغرب في حكم إيران، مزيدًا من القوة وعدّ الجانب الغربي غير موثوق به.
كان أمل حكومة إيران وسيادتها، أن تعود علاقات إيران التجارية والنفطية والمصرفية مع العالم، إلى طبيعتها مقابل حل القضية النووية، وكان ذلك مجرد تفاؤل. مشكلات الغرب مع إيران أوسع بكثير من البرنامج النووي. يجب أن نضع في الاعتبار أن رفع العقوبات الأمريكية بعد سقوط صدام حسين، وإنشاء واستقرار القوات الأمريكية في ذلك البلد استغرق ثلاثة عشر عامًا.
بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي، وخيبة الأمل من إمكانية التفاهم مع الغرب، بدأت العديد من الاستعدادات في إيران، للحفاظ على هيكلية السلطة وتقويتها ودمجها. كان في حسابات السلطة في إيران هو الانسحاب من البرنامج النووي لمدة 10-15 سنة، ولكن دون إجراء أي تغييرات في السياسة الخارجية، وسيقوم الغرب بإزالة العقوبات الاقتصادية بالكامل مقابل الاتفاق النووي. هذا التصور قد افتقر إلى عدم الوعي بمعتقدات الأشخاص الرئيسين في السلطة في واشنطن. وبما أن إيران تعدّ الحامي الأهم للحفاظ على هيكل القوة الحالي، والعلاقات في استمرار وجودها الإقليمي، فإنها لم تكن مستعدة لمراجعة سياستها الإقليمية بأي شكل من الأشكال، لأنَّ السياسة الخارجية في إيران هي الأمن القومي. وإنَّ الأبعاد الاقتصادية والتجارية للسياسة الخارجية والأمن القومي محدودة نسبيًا وبشكل أساس بعد الثورة، إذ لم تستطع إيران أن تحدد مركز ثقل سياستها الخارجية على أنه اقتصادي.
قبل انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي، كانت علاقات إيران مع روسيا تبادلية، لكن بعد أن أصبحت الحسابات والشعوب والتيارات على دراية بالسياسات الحقيقية للغرب، انتقلت هذه العلاقات إلى أن تصبح استراتيجية. قد تشير بعض العوامل إلى أنَّ هذا التغيير في التوجه نحو التحول إلى استراتيجية يأتي بسبب: حق النقض الروسي في قرارات الغرب المناهضة لإيران في مجلس الأمن الدولي، وشراء أسلحة عسكرية، والتعاون مع القوات الجوية الروسية ونظام المخابرات في سوريا، وإعلام إيران بتحركات الغربيين في إيران وحول إيران، وتوفير برامج وأجهزة الإدارة والمراقبة للمجتمع، والتعاون في مجال الطاقة والسكك الحديدية، والتبادل المعرفي في انهاء دولرة التعامل التجاري والمالي الاقتصادي المشترك بين ايران وروسيا.
على العموم، لهذه العوامل أهمية، ولكن بالنظر إلى الوضع في المنطقة، وعدم اليقين في السياسة الخارجية ونتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني 2024، والسياسات الأكثر يمينية في إسرائيل، والتعاون الملموس وغير الملموس للصين وروسيا ضد العقوبات الأمريكية، يبدو أن مركز الثقل في قرار إيران للعلاقات الاستراتيجية مع روسيا، أكثر تركيزًا في المستقبل وإرساء أسس الحفاظ على الهيكلية وعلاقات القوة في إيران واستقرارها. نظرًا لأن روسيا لا تسعى إلى تغيير هيكل السلطة وطبيعة النظام السياسي، والدستور والثقافة والسياسة الخارجية لإيران، لهذا فإن العلاقات معها أكثر أمانًا وطمأنينة.
في الغرب تقوم (جماعات الضغط) بدور أساسي في صنع السياسة، في حين في الشرق هناك سياسة واحدة فقط وهي سياسة الحكومة. كانت لروسيا سياسة واحدة تجاه إيران، سواء في عهد القيصر أو الحقبة السوفيتية أو الآن في الاتحاد الروسي، هو ازاحة إيران من المدارات الغربية. وتتوافق هذه السياسة مع آفاق وأهداف هيكل السلطة الحالي في إيران. يتفاعل الروس بشكل عام مع الحكومات، ولا يسعون إلى تغيير الثقافة والمعتقدات وأسلوب الحياة والنظام الفكري والفلسفي ودستور البلدان، بل يكفيهم تثبيت تقارب المحاور والأهداف مع الحكومات. فروسيا تعد أكبر دولة في العالم، تملك موارد طبيعية ضخمة، واحتياطيات فريدة من النفط والغاز، والزراعة ذات الاكتفاء الذاتي، والسيطرة على القطب الشمالي وثاني أقوى جيش في العالم، لذلك هي بطبيعة الحال بلد مهم للغاية. تسعى معظم دول العالم أيضًا إلى الحفاظ على علاقاتها مع موسكو، سواء كان بوتين موجودًا أم لا.
لكن السؤال المثير للفضول، بغض النظر عن قدرات روسيا، إلى أي مدى تعدّ سياستها الداخلية والخارجية مستقرة؟ إلى أي مدى يمكن الاعتماد على دعم موسكو للنظام السياسي وهيكلية السلطة ومستقبل السلطة في إيران؟ ربما يكون افتراض الحكومة في إيران أنَّ الحرب في أوكرانيا قد أزعجت العلاقات بين روسيا والغرب لمدة طويلة، وأن أرضية التفاهم والمصالحة مع أوروبا والولايات المتحدة، لن تظهر على المدى القصير أو المتوسط، ومن ثم لن تكون إيران ضحية لذلك. ربما ليس لدى إيران خيار آخر يمكن الاعتماد عليه للحفاظ على هيكل القوة الحالي. فالخليج العربي وإسرائيل يعطون اهمية ومرتبة أكبر للصين من إيران، وبكين لا تسعى إلى المواجهة مع الغرب بسبب إيران، ولكن بالنسبة لروسيا فإنّها ليس بقدر الصين والهند، ولكن إلى حد محدود، فإنّ أساس العلاقات الاستراتيجية مع ايران في ظروف الحرب الساخنة والباردة مع الغرب تعد غنيمة.
لا يعدّ الخبراء الروس تسليح إيران النووي تهديدًا لموسكو. إذ إلى جانب روسيا، هناك أربع قوى نووية: الصين والهند وباكستان وكوريا الشمالية. وإن تحويل إيران إلى أن تكون قوة نووية لا يغير الوضع, وتتقبل روسيا مثل هذا الوضع عندما يكون للعلاقات مع إيران عمق استراتيجي. بما أنَّ مجال الأمن القومي في إيران أوسع بكثير من مجال التنمية الاقتصادية، فإنّ هذه التوجهات والتطورات مفهومة. في أقل من عام سيدخل بوتين الحملة الانتخابية الرئاسية للمرة السادسة، ولا يُعرف إلى أي مدى تريد روسيا، ويمكن أن تستمر في صراعها في أوكرانيا. أمريكا تسعى لإطالة أمد الحرب في أوكرانيا وإضعاف روسيا، ولا خيار أمام أوروبا إلا أن تكون مع أمريكا, لأن المواجهة مع روسيا، إلى هذا الحد، تكون ممكنة بأموال وتسهيلات الناتو وأمريكا.
يمكن طرح سؤال محوري أمام قرار إيران الاستراتيجي تجاه روسيا: هل تخضع سياسة إيران تجاه الفوضى الاقتصادية في الداخل لحلول مؤقتة وقصيرة المدى؟ أم أنها تفكر في تصميم استراتيجي طويل الأمد لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد الإيراني؟
إذا كانت الأولى، فإنَّ العلاقة الاستراتيجية مع روسيا منطقية. لكن إذا كان الثاني، مع استبعاد الغرب من معادلات إيران الدولية، فإنَّ العمل الأساس في حل المشكلات الاقتصادية للبلاد سيكون صعبًا للغاية. يمكنك البقاء على قيد الحياة عن طريق الاهتمام بالشرق (اسيا الوسطى)، لكن الاقتصاد الإيراني لن يكون قادرًا على الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، والاستثمارات الأجنبية الكبيرة، والميزة النسبية، والعلاقات المصرفية والمالية العالمية. ولا يتخذ الصينيون سياسات تجاه إيران دون التنسيق مع أمريكا. تحاول دول وسيطة مثل الهند والبرازيل والمكسيك وحتى السعودية مؤخرًا، إقامة توازن بين الشرق والغرب في علاقاتها الخارجية.
السؤال المركزي الثاني هو إذا كان من الممكن أن تكون هناك استراتيجية سياسية طويلة المدى بدون استراتيجية اقتصادية طويلة المدى؟ ويركز السؤال المحوري الثالث في مكانة عموم الناس وتصوراتهم, كيف يفكر غالبية المجتمع؟ أي نوع من المستقبل يتخيله لنفسه؟ هل يمكن تجاهل علم النفس الإيراني في الحكم الحالي والمستقبلي؟ على الرغم من أن عدم الاستقرار في العلاقات الدولية، أجبر البلدان على العمل على المدى القصير، إلا أنه في مجال الحكم لا يمكن تجاهل العوامل الثابتة، مثل: الجغرافيا والثقافة.
رابط المقال الاصلي: https://www.cmess.ir/Page/View/2023-05-13/6242