الكاتب: أ.م. حسين باسم
رئيس قسم الدراسات السياسية/ مركز الدراسات الاستراتيجية
تشرين أول 2023
مع اندلاع الأعمال العسكرية التي باشرتها فصائل المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني الغاصب منذ السبت الماضي، لوحظ أنَّ هذه الفصائل تمارس أعمالًا عسكرية احترافية بشكل منظم. فمن توظيف الأسلحة والمعدات العسكرية المتاحة بشكل جيد، إلى توظيف الموارد البشرية بشكل مدروس، إلى توظيف الأداة الإعلامية بإتقان في سبيل صناعة الرأي العام الساند والمحافظة عليه. غير أنَّ ما لفت انتباهنا بشكل مُركّز هو القوة الأخلاقية للفلسطيني، والتي سوف نقوم بمناقشة تفاصيلها ضمن طيات هذا المقال.
وفي مناقشتنا للقوة الأخلاقية، سنأخذ بعين الاعتبار بالترتيب: (1) القوة الأخلاقية للسكان المدنيين. (2) القوة الأخلاقية لقادة الفصائل الفلسطينية. (3) القوة الأخلاقية للقوات المسلحة. وتؤثر كل من هذه القوى في القوى الأخرى بدرجة ملحوظة، فقد اتحد السكان المدنيون مع قادة الفصائل المسلحة وقواتها، بواسطة روابط وثيقة أكسبت الأمة الفلسطينية قوة معنوية كبيرة.
سننظر أولا في القوة الأخلاقية للشعب، وتظهر القوة الأخلاقية لأي شعب في التصميم الثابت على تقديم كل التضحيات لضمان انتصار الوطن، وهذا يعني الثقة المطلقة في الصمود، وتقديم الدعم الحماسي للقادة والقوات المسلحة، والانقياد الكامل وإخضاع المصلحة الخاصة في مقابل المصلحة العامة.
لكي يمارس شعب أي أمة ما أعظم قوة أخلاقية، ويقدم دعمه الموحد لقادته وقواته المسلحة، يجب أن يتحدوا في الفكر والمشاعر، ولا يمكن الحصول على هذا الفكر الموحد إلا عندما يكون شعب الأمة جميعهم متحدين بشكل وثيق برؤيتهم وتصوراتهم العقائدية.
لقد أظهر الشعب الفلسطيني ولاسيما سكان غزة شجاعة وقوة أخلاقية مميزة، فقد جاءت ملحمة “طوفان الأقصى” تحمل في اندفاعها تجربة سلسلة حروب تعرضت لها غزة، في أعوام 2008 و2012 و2014، و2019، و2021، و2022، و2023، نتج منها نحو (5) آلاف شهيد. إنَّ هذه الشجاعة والقوة الأخلاقية المميزة التي اتسمت بها فصائل المقاومة وشعب غزة، لم تكن ممكنة بالتأكيد لو لم يكن هذا الشعب مُجتمعًا على رؤية عقائدية واحدة، تستند إلى الدين والزخم العالي الذي تزودهم به النصوص الدينية في نصرهم الموعود على أعدائهم الصهاينة اليهود.
ولكي يدعم أي شعب قادته وقواته المسلحة بكل سرور وطيب خاطر، يجب أن تكون الحرب مسوغة شعبيا لهم. فإما أن يفضلوا الحرب من تلقاء أنفسهم، أو يجب أن يكونوا مطيعين لقادتهم لدرجة أنهم سيخوضون أي حرب يدخلها قادتهم. وهنا نلاحظ بالنسبة للدولة التي تمتلك حكومة ديمقراطية، يجب أن تحظى أي حرب بمسوغات شعبية موضوعية لدى الشعب، وهذه ميزة عظيمة لهذا الشكل من الحكومة. أمّا في الحكومة الاستبدادية، لن يدخل القادة -إذا كانوا حكماء- في حرب لا تحظى بمسوغات موضوعية لدى الشعب. وفي هذا السياق، أظهر الشعب الفلسطيني، أعظم قوة أخلاقية إلى الآن، وسيحافظ عليها بسبب المسوغات الموضوعية المشروعة التي تدعوه لخوض غمار الحرب، وتحمل تكاليفها الباهظة للغاية عليه عند مواجهته للكيان المحتل الإرهابي الغاصب.
في الواقع، يمتلك تاريخ أي أمة وشعب تأثيرًا كبيرًا في القوة الأخلاقية لذلك الشعب. إنَّ التاريخ الحافل بالانتفاضات والمعارك التي سطرها الشعب الفلسطيني، مع سجلهم الطويل والمتواصل تقريبا في مواجهة الاحتلال الصهيوني الغاشم لفلسطين، يجب أن يزيد بشكل كبير من ثقة الشعب الفلسطيني اليوم بنفسه، ويلهمه الصبر والإصرار على حماية قضيته العادلة، بالرغم من قلة الناصر وخجل الصديق.
الطموح ضروري للأمة المكافحة الصامدة، كما هو ضروري للرجل المكافح الصامد. إنَّ الأهداف السامية لمستقبل دولة فلسطين المستقلة الكريمة، هي ما يزيد إلى حد كبير من القوة الأخلاقية للشعب الفلسطيني اليوم، ويسليه في مكابدة التضحيات الجسام عند مواجهة العدو الصهيوني اللئيم.
ومن الأهمية بمكان أن يتفهّم شعب أي أمة تعيش حالة حرب، بأنَّهم يقاتلون من أجل قضية عادلة. وبما أنَّ الحرب أصبحت لا تحظى بشعبية كبيرة، فمن المهم أيضا إثبات أنَّ العدو مسؤول عنها، وأنَّنا نحمل السلاح دفاعًا عن النفس. وفي هذا السياق، يعرف القاصي قبل الداني عدالة القضية التي يحارب لأجلها الفلسطيني، ويكافح في سبيل استرداد أرضه السليبة، والتي يعيش سجينا داخلها منذ عقود!!
إنَّ المآثر الباسلة للمجاهدين الفلسطينيين تاريخيًا، على الرغم من أنَّها ذات قيمة عسكرية قليلة، لكن لها تأثير هائل في القوة الأخلاقية للشعب الفلسطيني. تمتلئ صفحات التاريخ بالمآثر الشجاعة التي قامت وتقوم بها مجموعات صغيرة من رجال المقاومة، والتي يجب أن تزيد من فخر الشعب بمقاومته، وتعزز تصميمه على دعم فصائله المسلحة المجاهدة، التي لم تتبنَ الكفاح المسلح بطرًا، بل ردًا على إرهاب العدو الصهيوني الغاصب وبشاعته.
إنَّ الإبلاغ عن نتائج العمليات التي تقوم بها القوات المسلحة، هو فن بحد ذاته، وهو ما أجادت فصائل المقاومة الفلسطينية أداءه اليوم بشكل حاذق، فمن تصوير الرشقات الصاروخية الناجحة، إلى اصابتها للأهداف المرجوة، إلى كيفية توغل المقاومين وأسر عناصر العدو الصهيوني، إلى الإنزال الجوي بالمظلات المسيّرة، وكذلك التسلل بالزوارق البحرية للتوغل والنفاذ ومفاجأة العدو، إلى عودتهم إلى الأراضي الفلسطينية بعد اكتمال مهامهم، إلى إطلاق سراح بعض الأسرى، وغير ذلك الكثير تمكنت فصائل المقاومة الفلسطينية من إعداده وتوثيقه ونشره بعناية فائقة، مما زاد من القوة المعنوية والأخلاقية للشعب الفلسطيني، وأوقد في نفوس المسلمين ولاسيما الفلسطينيين بشكل كبير الشعور بوجود الفرصة في تحقيق الأهداف الكبرى ضد الكيان الصهيوني الغاصب، إذا ما تم مساندتهم بما فيه الكفاية، فقد تبين وهن بيت العدو الغاصب الذي جرى تصويره على أنَّه من حديد!!
وهكذا نلاحظ التأثير الكبير الذي تخلفه العقيدة الموحّدة، والمسوغات الموضوعية للحرب، وقضيتهم العادلة، وتاريخ الأمة الطويل الحافل بالصمود، في القوة الأخلاقية للشعب الفلسطيني.
ثانيا: القوة الأخلاقية للقادة:
عندما نتفحص شخصيات القادة العظماء عبر التاريخ، نرى أنَّ كلا منهم كان يمتلك قوة فكرية وقوة أخلاقية إلى أعلى درجة. ومن الواضح أنه لا يمكن للمرء أن يصل إلى المرتبة الأولى كقائد، إذا لم يمتلك هاتين القوتين. عندما نتفحص شخصيات القادة الصغار نرى أنَّ قدراتهم تعتمد على درجة القوة الفكرية والأخلاقية التي يمتلكونها. وبينما يبين التاريخ أهمية هاتين القوتين، فإنَّه يظهر بوضوح أنَّ القوة الأخلاقية أكثر أهمية وضرورية للقائد من القوة الفكرية. إنَّ المسؤولية الهائلة التي تقع على عاتق كبار القادة السياسيين والعسكريين في الحرب، تضمن الفشل المطلق لأي زعيم يفتقر إلى القوة الأخلاقية البارزة. وفي هذا السياق، فإنَّ العديد من قادة الفصائل الفلسطينية، يمتلكون قوة معنوية كبيرة بشكل واضح، على الرغم من أنَّهم لم يمتلكوا سوى قوة فكرية متوسطة، ومع ذلك، فإنَّ قوتهم الأخلاقية هي الضرورية لنجاحهم في الحرب ضد الكيان الغاصب.
ومن ناحية أخرى، فإنَّ حماسة السكان المدنيين قد تلهم القادة بأكبر قدر من الثقة، وهنا يمكننا أن نتخيل التأثير الذي يمتلكه قادة الفصائل الفلسطينية، وهم يشاهدون إقبال المتطوعين على الانضمام في فصائل المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني الغاصب، بالرغم من التحديات والمخاطر المرافقة لانخراطهم في هذا الطريق الوعر.
ثالثا: القوة الأخلاقية للقوات المسلحة:
المقصود بالقوة الأخلاقية للقادة قدرتهم على قيادة أجساد الرجال بمبادرة منهم، في حين المقصود بالقوة الأخلاقية للقوات المسلحة الروح المعنوية للرجال، الروح التي يتّبعون بها ويطيعون قادتهم. تظهر هذه القوة الأخلاقية عن طريق الانضباط والطاعة الأكثر كمالا في جميع الأوقات، والشجاعة المستمرة والتصميم في العمل، والاستعداد لتحمل المخاطر والمشقة، والثبات حتى في الهزيمة والكوارث، والثقة الأكثر كمالا في النجاح النهائي.
وهو ما نشاهده لدى المجاهدين في فصائل المقاومة الفلسطينية، وهم يسطرون أسمى صور الانقياد والطاعة لأوامر قياداتهم، والشجاعة في الإقدام على ركوب الأهوال والمخاطر، حتى مع توقعهم للمنيّة ومواجهتها برحابة صدر.
في الواقع، لا يتطلب الأمر أي جهد لإثبات الأهمية الكبرى لهذه القوة الأخلاقية؛ لقد تم الاعتراف بها منذ فجر التاريخ. وبالرغم من أنَّ الحرب باتت صناعية، وتنطوي على تكنولوجيات متقدمة ودقيقة للغاية، ذات تأثير حاسم في سير المعارك والحروب، إلّا إنَّ القوة الأخلاقية لا تقل أهمية عمّا كانت عليه منذ أيام الرومان، وهذه القوة الأخلاقية هي ما تتمتع به فصائل المقاومة الفلسطينية الأبية.
قد يمارس السكان المدنيون، عن طريق دعمهم المخلص والثناء على الخدمات العسكرية التي يؤديها الجنود، تأثيرًا كبيرًا. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الانتقاد القاسي وغير المعقول لأفراد القوات المسلحة من قبل المواطنين، ولاسيما أولئك الذين يعملون لصالح مختلف “رابطات وجمعيات السلام”، له تأثير ضار للغاية. ومما يلفت الأنظار بشكل مدهش، هو دعم المواطنين المدنيين الفلسطينيين لفصائلهم، سواء أثناء ظهورهم في الفيديوهات التي توثق تضررهم جرّاء القصف الإرهابي الصهيوني لهم، أو بسبب شحة المؤن والامدادات الغذائية والصحية، أو خلال ظهورهم في القنوات الإعلامية التي تغطي أحداث الحرب الجارية.
وبهذا تنتهي مناقشتنا لدور القوة الأخلاقية وأهميتها كأبرز أسلحة الفلسطيني. إنَّ ضرورة زيادة القوة المعنوية والأخلاقية للفصائل الفلسطينية المقاومة، يجب أن تدركها الأمة الإسلامية والعربية كافة، في سبيل مساعدتهم لقطف ثمار الكفاح المسلح الممتد لعقود من الزمان تجاه قضيتهم العادلة.