د. حسين أحمد السرحان
قسم الدراسات السياسية
لطالما شغلت القضية الفلسطينية حيزا مهمًا في الوجدان العربي والاسلامي، وحتى من دول من مناطق مختلفة حول العالم، وتطوراتها التي أصبحت مادة وطرفًا مهمًا في معادلة التنافس والصراع في الشرق الأوسط، بين الفاعلين الاقليميين والدوليين، وحتى في معادلة السلام مع الكيان الغاصب، وباتت محورًا أساسيًا في مفاوضات استئناف العلاقات بين المملكة العربية السعودية والكيان الغاصب.
عناصر القوة والمباغتة والمفاجأة في توغل مقاتلي حركة حماس إلى المستوطنات، ومقتل الكثير من تلك المستوطنات وجرحهم وأسرهم، وضع حكومة الكيان الغاصب في حرج كبير أمام مواطنيها، في وقت تؤكد الحكومات في الكيان الغاصب على تحقيق الاستقرار الأمني في أنحاء البلاد كافة، وإنَّها تمكنت من احتواء حركة حماس ونشاطاتها العسكرية، وإنَّها لا يمكن أن تشكل خطرًا على سكان المستوطنات. وبالرغم من أنَّ الأحزاب السياسية فشلت في تشكيل حكومة ائتلافية، إلا إنَّ رئيس الحكومة نتنياهو تمكن من تشكيل حكومة مصغرة نتيجة الظرف الأمني الخطير، وحصل على تظافر الأحزاب المعارضة ومساندتها.
للمرة الأولى التي تتمكن حركة حماس من إحداث هذا التهديد الأمني، في التوغل والقتال داخل المستوطنات لأكثر من يومين، من دون وجود جيش الدفاع للكيان، كما أنَّ التدابير والضربات الصاروخية التي شنتها حماس وكتائب القسام، اختلفت اختلافًا كبيرًا عن مثيلاتها خلال حرب 2014 التي دامت ما يقارب من (50) يومًا. وهذا يدل على أنَّ قوة حماس وكتائب القسام والفصائل الأخرى وعناصرهم تعاظمت خلال السنوات الماضية، فضلا عن أنَّ هذا الاختراق أثبت فشل الاستراتيجيات والاجراءات الأمنية المتبعة لتفادي خطورة حماس والقسام وتهديدهما.
ونتيجة لذلك، أصبحت أهداف الحرب من جانب الكيان الغاصب وحكومته وجيشه، مختلفة تماما عن مثيلاتها في الحروب السابقة، التي خاضتها ضد الفصائل الفلسطينية. وانتقلت تلك الأهداف من الاحتواء إلى القضاء على القدرات العسكرية وامكانات الحكم لحماس فضلا عن الفصائل الأخرى.
التداعيات الأمنية الخطيرة لتوغل حماس والفصائل الأخرى، وقدراتها العسكرية وهجماتها الصاروخية على المستوطنات داخل الأراضي المحتلة، أصبح يُنظر لها على أنَّها تهديد لأمن المستوطنات، وأثبت أنَّ أمن الكيان الغاصب أمن هش جدا، وأنَّ التكنولوجيا العسكرية لم تجدِ نفعًا في منع مثل هذه الانتهاكات الخطيرة. وفي ضوء الوضع السياسي الداخلي للكيان الغاصب، أصبح هدف تحقيق مكسب أمني وسياسي ضرورة لابد منها، لإعادة الثقة بالنظام السياسي الحاكم، والحكومة، والمؤسسة الأمنية، وحتى الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة والسلطة التشريعية. ولهذا نلاحظ أنَّ حكومة الكيان الغاصب تعلن أهدافًا كبيرة لا تنعكس على القضية الفلسطينية فحسب، بل على منطقة الشرق الأوسط.
لذلك لن تنتهي الحرب في غزة من جانب اسرائيل دون تحقيق مكسب أمني على الارض، وهذا سيتراوح بين إنشاء منطقة عازلة شمال غزة، أو احتلال القطاع بالكامل. وهذا يعني أنَّ تحولًا خطيرًا سيحصل في القضية الفلسطينية كما في نكبة 1967. وأنَّ الفصائل الفلسطينية وداعميها من الخارج من حكومات ومجاميع مسلحة ومؤسسات استخباراتية، ستكون أمام ضرورة تحديث أدواتها وتفاعلاتها الإقليمية والدولية.
أمّا التحرك الأمني والدعم العسكري للولايات المتحدة للكيان الغاصب، فواشنطن أمام تحديات عدة، منها: لابد من إعادة الثقة بها كحليف للكيان الغاصب وحامي لأمنه القومي، وأيضا اثبات فاعليتها في حماية أمن الحلفاء والأصدقاء حول العالم، فضلا عن الضغوط في الداخل الأمريكي من المؤسسات واللوبيات اليهودية ذات التأثير الكبير في الوضع السياسي والانتخابي داخل الولايات المتحدة، ولاسيما إنَّ الإدارة الأميركية امام استحقاق انتخابي رئاسي نهاية عام 2024.
لا ترغب الولايات المتحدة في إجراء تغييرات كبيرة وحادة في الشرق الأوسط لاعتبارات سياسية وأمنية في المنطقة، واعتبارات الأمن الطاقوي، فضلا عن ما أعلن عنه في مجموعة العشرين عن طريق التنمية، الذي يبدأ من الهند ثم الامارات العربية والسعودية وانتهاءً بالكيان الصهيوني، والذي تريد منه واشنطن أن يكون وسيلة لإعادة ثقة حلفائها المنتجين للنفط بها. فضلا عن ذلك، ولأنَّ منطقة الشرق الأوسط تعد من مناطق الأزمات في العالم، لا ترغب واشنطن بأن تقود الحرب على حماس والفصائل الفلسطينية إلى فوضى في المنطقة، من قبيل تعدد الجبهات ضد الكيان الغاصب، كما في جبهة الشمال حيث الجنوب اللبناني وحزب الله، ولا في الشمال الشرقي (مزارع شبعا والجولان)، خشية تحرك الفصائل الموالية لإيران، وامكانية شنها هجومات من داخل الأراضي السورية. كما أنَّ احتلال القطاع يمكن أن يحرك شهية تركيا للتوغل أكثر في شمال سوريا، الذي يضم في جزئه الشمالي الشرقي مصالح أمريكية وحلفاء، مثل قوات سوريا الديمقراطية.
هذه الاشكالية والتعارض بين إرادة الكيان الغاصب وإرادة واشنطن، يمكن أن تعمل عليها الدول الفاعلة والمؤثرة في المنطقة، مثل العربية السعودية والعراق ومصر وتركيا، للدفع باتجاه اقناع صانع القرار الأمريكي بعدم تأييد حكومة نتنياهو في احتلالها لقطاع غزة، إذ إنَّ دول المنطقة تتفق مع واشنطن بضرورة عدم توسيع جبهة الصراع بين حكومة نتنياهو والفصائل الفلسطينية، وعدم زج أطراف فاعلة أخرى فيها.
بذلك أصبحت منطقة الشرق الأوسط أمام متغير فاعل جديد في التفاعلات الإقليمية والدولية، وهو متغير الجماعات اللادولية وارتباطاتها بالقوى الفاعلة إقليميا ودوليا. وأصبح دورها فاعلًا كلاعب وكمؤثر في التفاعلات السياسية والأمنية والاقتصادية في المنطقة. وبهذا تتعقد وتتزايد جوانب الأزمة في المنطقة، إذ لم تعد الحكومات وحدها لاعبًا ومؤثرًا في السياسات الإقليمية.
القضية الفلسطينية بعد تشرين الأول 2023 نحو صيرورة شرق أوسطية جديدة
التعليقات على القضية الفلسطينية بعد تشرين الأول 2023 نحو صيرورة شرق أوسطية جديدة مغلقة