م.د. بلسم عباس حمودي
جامعة كربلاء/ مركز الدراسات الاستراتيجية.
تشرين ثاني/ 2023
ينقسم الفعل من حيث فاعله على قسمين: القسم الأول: ما ذكر فاعله معه، وهو المبني للمعلوم. والقسم الثاني: ما لم يذكر فاعله معه، وهو المبني للمجهول، أو المبني للمفعول، أو الفعل الذي لم يُسَمَّ فاعله، كما تذكر بعض الكتب اللغوية.
يحذف الفاعل عند بناء الفعل للمجهول، وينوب عنه في الغالب المفعول به، يقول ابن مالك:
ينوبُ مفعولٌ به عن فاعلٍ فيما لـــــــه كنيلَ خير نائلِ
وهناك أسباب ودواعٍ تقتضي حذف الفاعل، ويترتب على هذا الحذف أمران، أحدهما: تغيير يطرأ على فعله، إذ تتغير صورة الفعل الماضي عند بنائه للمجهول، فيضم أوله ويكسر ما قبل آخره، نحو: أَكَلَ– أُكِلَ، فَهِم–فُهِم. وتتغير صورة الفعل المضارع عند بنائه للمجهول، فيضم أوله ويفتح ما قبل الآخر، نحو: يَسْمَع–يُسْمَع، ويَصْنَع– يُصْنَع. والأمر الآخر إقامة نائب عنه يحل محله، ويجري عليه كثير من أحكامه.
ودواعي حذف الفاعل وأسبابه كثيرة وتختلف وتتغير بتغير السياق ودلالة النص، ومن دواعي الحذف: الرغبة في الإيجاز البلاغي والاختصار وعدم التطويل، في مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾(النحل:126)، فبدلا من التطويل الذي لا فائدة منه، بنى الفعل للمجهول كونه أكثر بلاغة وتأثيرًا، فقال: (عُوقبتم)، عوضًا عن القول المفصل الذي لا حاجة له، لأنَّ معناه واضح بيّن.
وقد يكون حذف الفاعل لكون ذكره ليس بذي أهمية، وإنما المهم هو الحدث نفسه، كقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف (عليه السلام): ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾(يوسف65)، فالمهم عندهم أنَّ البضاعة رُدَّت إليهم، ولا يهمهم من ردَّها وكيف ردَّها، ولو كان سياق الآية يتطلب معرفة الفاعل لصُرِّحَ به. وقد يكون المهم هو بيان حكم ما، قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾(النساء:86)، فالمهم هو بيان الحكم في حالة التحية، ولو عيّن الفاعل لاقتصر على شخص معين أو طائفة بعينها.
وأيضا يبنى الفعل للمجهول إذا علم فاعله، قال تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾(الأنبياء:37)، فالفاعل هو الله جلّ جلاله لا شريك له في الخلق، وليس هناك ضرورة أن يقال: (خلق اللهُ الانسانَ من عجلٍ) ببناء الفعل للمعلوم. وهي مسألة وردت بكثرة في الذكر الحكيم. ومن أمثلة حذف الفاعل لشيوعه ومعرفته: جُبلت النفوس على حب من أحسن إليها. أي: جبلها الله وخلقها.
وكثيرًا ما يبنى الفعل للمجهول في أحداث اليوم الآخر، فنرى القرآن الكريم يصرف الحدث عمدًا من محدثه، فلا يسنده إليه، وإنما يأتي به مبنيا للمجهول، أو مسندا إلى غير فاعله على المطاوعة أو المجاز، قال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾، وقال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾، وقال تعالى: ﴿إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا﴾ وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا﴾ وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾. تقول الدكتورة عائشة بنت الشاطئ: إنَّ تدبر هذه الظاهرة الاسلوبية هدى إلى أنَّ البناء للمجهول تركيز للاهتمام بالحدث، بصرف النظر عن محدثه. وفي الإسناد المجازي أو المطاوعة، تقرير لوقوع الأحداث في طواعية تلقائية، إذ الكون كله مهيأ للقيامة على وجه التسخير، والأحداث تقع تلقائيا لا تحتاج إلى أمر أو فاعل.
ويبنى الفعل للمجهول أيضا لتعظيم الفاعل، كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾(البقرة:4)، فالحديث عن القرآن الكريم والكتب السماوية، لذلك بني الفعل للمجهول لتعظيم الفاعل (المنزِل) فضلا عن أنَّه معروف، قال الزمخشري: “كأنَّ طيَّ ذكر الفاعل كالواجب لأمرين أحدهما: أنَّه إن تعيَّن الفاعل وعُلِم أنَّ الفعل ممّا لا يتولاه إلا هو وحده كان ذكره فضلا ولغوا. والثاني: الإيذان بأنّه منه غير مشارِك ولا مدافِع عن الاستئثار به والتفرد بإيجاده وأيضا فما في ذلك من مصير أنَّ اسمه جدير بأن يصان ويُرتفع به عن الابتذال والامتهان”.
وقد يحذف الفاعل لتحقيره بإهماله، كقوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾(المائدة:109) أي بأي شيء أجابت أممكم وأقوامكم لما أمرتموهم بعبادة الله وحده، إلا أنَّ فاعل (أَجَبتُم) حُذِف وبُنِي الفعل للمفعول، لأنه لا يستحق الذكر تحقيرًا لشأنه وفيه توبيخ لأقوام الرسل. قال الألوسي في تفسيره: “وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الإنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيط عليهم، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضاً وإلا فهو سبحانه علام الغيوب”.
وذكر ابن الأثير في بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه، في قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ بعد ﴿أَنْعَمْتَ﴾, ولم يقل: (غير الذين غضبت عليهم)؛ لأنَّ اسم المفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول، فاعتبر ذلك عطفًا على الأول؛ لأنَّ الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه, فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب, فأسند النعمة إليه لفظا, وزَوَى عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا.
كما يبنى الفعل للمجهول لأجل مناسبة الفواصل في الآيات القرآنية، كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17( وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾(الغاشية:17-20)، فبنى الأفعال (خلقت) و(رفعت) و(نصبت) و(سطحت) للمجهول وكلها فواصل متتابعة. وأيضا للمماثلة بين حركات الحروف الأخيرة في السجع، نحو: من حسُن عملُهُ عُرِف فضلُهُ. فلو قيل: عرَفَ الناسُ فضلَهُ، لتغيرت حركة اللام الثانية، ولم تكن مماثلة للأولى.