الكاتب: م.م. مضر فارس عبد الاله
باحث في قسم الدراسات السياسية
كانون الأول/ 2023
يبدو أنَّ الولايات المتحدة الأميركية تضع في حساباتها، أنَّ مستقبل اقتصاد القرن الحادي والعشرين، ستكون نقطة ارتكازه منطلقة من منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فضلاً عن ادراك الولايات المتحدة أنَّ هذه المنطقة (المحيطين الهندي والهادئ)، تقع تحت تأثير الطموح الاستراتيجي والأمن القومي الصينيين على نحو بالغ في الاهمية، لذا لم تقف الولايات المتحدة الأميركية مكتوفة الأيدي، أمام تمدد طموح التنين الصيني وأحلامه، فكانت الوسائل والأساليب التي اتخذتها الإدارات الأميركية المتعاقبة للحد من الطموح الصيني، متعددة ومتنوعة اشتملت على عقوبات ومضايقات سياسية واقتصادية، علَّها تساعد في كبح جماح الرغبة الصينية، في منافسة القوة العظمى المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية، على موقع الصدارة في قيادة العالم، لذلك كانت إحدى هذه الوسائل المفترض أنَّها كابحة للجماح الصيني، هي عزم الرئيس الأميركي جو بايدن خلال جولته الآسيوية، على تنظيم قمة اقتصادية في العاصمة اليابانية طوكيو في 23 مايو 2022، نتج عنها “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”، إذ ضمَّ هذا الإطار ثلاث عشرة دولة، وهي كلٌ من: (أستراليا وبروناي والهند وإندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا ونيوزيلندا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام) فضلا عن الولايات المتحدة الأميركية. وما يجعل من هذا الإطار الاقتصادي مهمًا، هو إنَّ هذه الدول المذكورة تمثل اقتصاداتها (40%) من الاقتصاد العالمي، ولا يخفى على القارئ أنَّ قمة “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”، جاءت بعد خمسة أشهر من توقيع خمس عشرة دولة في المنطقة على اتفاقية “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”، وهي اتفاقية تجارة حرة، تضم كلاً من الصين وأستراليا وبروناي وكمبوديا واندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية ولاوس وماليزيا وميانمار ونيوزيلندا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام، أي إنَّ إحدى عشرة دولة منضوية في آن واحد في اتفاقيتي “الإطار الاقتصادي” الأمريكية، و”الشراكة الاقتصادية”، التي تنظر إليها الولايات المتحدة الأميركية على أنَّها تحت سيطرة الصين، وتمثل الدول الأعضاء في “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة” حوالي (30%) من سكان العالم (2.2) مليار شخص، و(30%) من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (29.7) تريليون دولار، ما يجعلها أكبر كتلة تجارية في تاريخ العلاقات الدولية.
لم تقتصر مساعي الولايات المتحدة الأمريكية لتطويق الصين على المنظور الاقتصادي فحسب، بل تعداها إلى المنظور الأمني والعسكري، ويمكن معاينة ذلك في الاتفاق الأمني الثلاثي الذي أسسته الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2021، بالشراكة مع بريطانيا وأستراليا، والمعروف اختصاراً باسم “أوكوس”، وهي إشارة إلى الأحرف الأولى للدول الثلاث، ويتوقع أنَّ هذا الاتفاق سيساعد كلًا من الولايات المتحدة وبريطانيا أستراليا في تطوير غواصات تعمل بالطاقة النووية ونشرها، كما تغطي الاتفاقية مجالات رئيسة، مثل: الذكاء الاصطناعي والحرب الإلكترونية والأنظمة تحت الماء وقدرات الضربة بعيدة المدى. ويتضمن أيضًا مكونًا نوويًا، ربما يقتصر على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشأن البنية التحتية للدفاع النووي.
فضلا عن تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ، وعلى الرغم من أنَّ الإعلان المشترك لرئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والرئيس الأمريكي جو بايدن لم يذكر أي دولة أخرى بالاسم، فقد ذكرت بعض وسائل الإعلام التي بنت معلوماتها على مصادر في البيت الأبيض، أنَّه مصمم لمواجهة نفوذ جمهورية الصين الشعبية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهو توصيف يتفق معه الكثيرون، فقد وُصفت الاتفاقية بأنَّها خليفة لاتفاق أنزوس الحالي بين أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة، مع «تهميش» نيوزيلندا بسبب حظرها للطاقة النووية.
وتندرج هذه الاتفاقية في سياق الجهود الأمريكية المتكررة لتحقيق توازن ضد القوة والطموح الصينيين، اللذين بدءا في تحدي هيمنة الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ولأنَّ بحر الصين الجنوبي “يمثل شريانًا بحريًا حيويًا للتجارة العالمية، فإنَّ واشنطن لن تسمح لبكين بالسيطرة عليه، ومن ثم تعزيز موقفها في المنافسة جيوسياسيًا معها.
ايضاً لا نغفل “الحوار الأمني الرباعي”، أو ما يسمى بـ “الرباعية”، تجمعًا إقليمياً لثلاث دول رابعها الولايات المتحدة الاميركية، وهي تطل على المحيطين الهادئ والهندي، توحدها مخاوف الصعود الصيني ومحاولات بكين فرض هيمنتها على الفضاء الجيوستراتيجي للمنطقة، وتضم الرباعية الهند واليابان والولايات المتحدة وأستراليا. وقد أنشئت هذه المجموعة عام 2004 بهدف ضمان بقاء منطقة المحيطين الهادئ والهندي “مفتوحة وحرة”، بمعنى عدم خضوعها لهيمنة الصين. وفي عام 2017، أحيت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هذا الإطار، محولة إياه من تجمع يقوم بحوارات سياسية واقتصادية منخفضة المستوى، إلى لاعب مهم جدًا في منطقة آسيا والمحيطين الهادئ والهندي، في 24 سبتمبر 2021، وقد مثلت قمة الرباعية فرصة لواشنطن لتقدم نفسها بوصفها جزءًا من منظومة واسعة ومتماسكة في آسيا، وتكمن أهمية هذا التجمع بالنسبة إلى الولايات المتحدة في أنَّه يضم دولًا تتصاعد مخاوفها من الصين وطموحاتها الإقليمية.
إنَّ الجهود التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل احتواء الصين، أثارت قلق بعض الدول الأوروبية، والتي أعلنت عن أنَّ واشنطن تتخلى عن التزاماتها بأمن قارتهم ومصالحهم في سبيل التركيز في احتواء الصين في أقصى الشرق.
إلا أنَّ الولايات المتحدة لا يغيب عنها أنَّ المبالغة في تشديد الخناق على الصين، قد يؤدي للانفجار الذي لا يمكن السيطرة عليه، وهذا ما يفسره عدم شمول تايوان في “الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”، بهدف عدم استفزاز الصين إلى حد بعيد، وهذا ما يفسر سياسات الولايات المتحدة الأميركية باتباعها سياسة الباب المفتوح.