د. حسين أحمد السرحان
قسم الدراسات السياسية
آذار / 2024
ما زالت الاختلالات الهيكلية كامنة في الاقتصاد العراقي، وما يُلاحظ على المؤشرات الاقتصادية الكلية من تراجع أو تذبذب، يعود بشكل أساس إلى تلك الاختلالات الهيكلية المتمثلة في أحادية الريع (الريع النفطي)، والمساهمة الكبيرة للإيرادات النفطية في الناتج المحلي الاجمالي، وضعف مساهمة القطاعات الأخرى فيه، وضعف دور القطاع الخاص، فضلا عن انعدام قدرة مؤسسات الدولة على فرض القانون على كامل إقليم الدولة. كل تلك المؤشرات لم يتم مواجهتها خلال الحكومات العراقية بعد 2003.
خلال المدة من 20 إلى 29 شباط الماضي، التقت بعثة من صندوق النقد الدولي السلطات العراقية في العاصمة الأردنية عمان، لإجراء مشاورات المادة الرابعة للعام 2024. ومشاورات المادة الرابعة هي اجتماعات ثنائية تجرى سنويًا بين صندوق النقد الدولي والدول الأعضاء، ويقوم على إثرها فريق من خبراء الصندوق بلقاء البلد العضو، وإجراء مشاورات رسمية مع المسؤولين فيه.
يُتوقّع خبراء الصندوق أن يستمرّ النمو الاقتصادي، نظرا للتَّوسُّع في المالية العامة، مع زيادة كبيرة في مواطن التعرض لتقلبات أسعار النفط على المدى المتوسط. إنّ خفض مستوى الاعتماد على النفط، وضمان الاستدامة المالية، مع العمل في الوقت ذاته على حماية الإنفاق الاجتماعي والاستثماري بالغ الأهمية، سوف يتطلّب إجراءَ ضبط كبير لأوضاع المالية العامة، يرتكَّزُ على التَّحكُّم في فاتورة أُجور القطاع العام، وزيادة الإيرادات غير النفطية. وبالتوازي مع ذلك، سوف يتطلّب الوضع تحقيق نموٍ اقتصادي مرتفع، لاستيعاب القوى العاملة المتزايدة بشكل سريع، وتعزيز الصادرات غير النفطية، وتوسيع نطاق الوعاء الضريبي. وبناءً عليه، يتعيَّن على السلطات العراقية السّعي إلى تمكين القطاع الخاص من التطوّر والنماء، بما في ذلك إجراء عمليات إصلاح لسوق العمل، وتحديث القطاع المالي، وإعادة هيكلة المصارف المملوكة للدولة، وإصلاح قطاعي التقاعد والكهرباء، والاستمرار في بذل الجهود اللازمة لتحسين الحوكمة والحدّ من الفساد.
أمّا على صعيد القطاع غير النفطي، فقد أكَّد خبراء الصندوق “أنَّ النمو في القطاع غير النفطي، قد عاد بشكل قوي في العام 2023، مع انحسار التَّضخُّم. ويُقدَّر النمو في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي غير النفطي، بنسبة (6%) في العام 2023، بعد انحساره في العام 2022. وقد تراجع التضخم الكلي من المستوى المرتفع الذي بلغه، بنسبة (7.5%) في كانون الثاني 2023، إلى (4%) بحلول نهاية العام نفسه، ليعكسَ بذلك انخفاضَ أسعار الأغذية والطاقة على المستوى الدولي، والأثر الذي أحدثته عملية إعادة تقييم سعر العملة العراقية في شباط 2023. ويُتوقَّع للحساب الجاري أن يكون قد سجَّل فائضًا بنسبة (2.6%) من الناتج المحلي الإجمالي، وأن تكون الاحتياطيات الدولية قد ارتفعت إلى (112) مليار دولار أمريكي”.
“وقد أتت هذه التطَّوُّرات الإيجابية بدعم من عودة عمليات تمويل التجارة إلى مسارها الطبيعي، واستقرار سوق صرف العملات الأجنبية. فبعد حدوث بعض الانقطاعات في أعقاب تنفيذ الضوابط الجديدة، لمكافحة غسيل الأموال، ومكافحة تمويل الإرهاب (AML/CFT) على المدفوعات العابرة للحدود في تشرين الثاني 2022، أدّى تحسينُ الامتثال للنظام الجديد، ومبادراتُ البنك المركزي العراقي لخفض مدة معالجة المعاملات، إلى حدوث تعافٍ في تمويل التجارة في النصف الثاني من العام 2023. وقد ضَمِن ذلك إمكانية القطاع الخاص في الحصول على العملة الأجنبية بالأسعار الرسمية، لأغراض الاستيراد والسفر”.
وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ المالية العامة قد شهدت تراجعًا كبيرًا، بسبب زيادة الانفاق، وتذبذب الايرادات النفطية. وقد أكَّد الخبراء بأنَّ “مركز المالية العامة قد شهد تراجعًا حادًا. فعلى الرَّغم من عدم تنفيذ الموازنة التَّوسُّعية، بسبب تأخر مصادقة البرلمان على الموازنة، إلا أنَّ رصيد المالية العامة قد تراجع، من فائضٍ مقداره (10.8%) من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2022، إلى عجزٍ مقداره (1.3%) في العام 2023، وذلك بسبب انخفاض الإيرادات النفطية، وزيادة الإنفاق بنسبة (8) نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب زيادة الرواتب والمعاشات التعاقدية بنسبة (5) نقاط مئوية، نظرًا إلى أنَّ السُّلطات العراقية، قد باشرت بالتعيينات على نحوٍ يتماشى مع قانون الموازنة”. ويذكر أنَّ اللجنة المالية في مجلس النواب، أكَّدت يوم الاربعاء 6/ آذار الجاري، أنَّ موازنة العام 2024 ما زالت معطلة، وأنَّ الانفاق مختصر فقط على رواتب الموظفين.
وعلى صعيد النمو الاقتصادي، فقد ربط الخبراء ذلك بمتغيرات ترتبط بأسعار النفط وتخفيضات الانتاج. إذ يتوقع خبراء الصندوق “بأن يعاود النمو الإجمالي الارتفاع في العام 2024، وتميل المخاطر نحو الزيادة وسط تزايد حالة عدم اليقين. سيستمر زخم النمو غير النفطي في العام 2024. ويُمكن لحدوث تراجعاتٍ أكبر في أسعار النفط، أو لتمديد التخفيضات التي يتوافق عليها أعضاء منظمة أوبك+ OPEC)+)، أن تثقل على حسابات المالية العامة والحسابات الخارجية”.
ولا يستبعد تأثير متغير الاستقرار الاقليمي، فالأوضاع الاقتصادية تتأثر بحدة التوترات الاقليمية. وتطورات مسارات الشحن، أو إلحاق الضرر بالبنية التحتية النفطية، فضلا عن الأمن الداخلي. ويرى الخبراء أنَّ تلك المتغيرات “قد تؤدي إلى وقوع خسائر في الإنتاج النفطي، من الممكن أن تفوق الأثر الإيجابي المحتمل، لحدوث ارتفاع في أسعار النفط. وكذلك، في حال حدوث تدهور في ظروف الأمن الداخلي، يُمكن أن يقود إلى تراجع في مستوى ممارسة أنشطة الأعمال، وتعليق تنفيذ المشاريع الاستثمارية”.
أمّا عن تأثير محدودية دور القطاع الخاص، وتزايد الانفاق التشغيلي، فسيكون له انعكاساته على المؤشرات الاقتصادية ولاسيما المالية منها. إذ يرى خبراء الصندوق “أنَّه على المدى المتوسط، من المتوقع أن يستقر النمو غير النفطي في حدود (2.5%)، نظرا للعقبات التي تحد من تنمية القطاع الخاص. وعلاوة على ذلك، ازداد التعرض لانخفاض أسعار النفط، إذ من المتوقع أن يؤدي ارتفاع الانفاق، إلى دفع سعر برميل النفط المطلوب، لتحقيق التعادل المالي، إلى ما فوق (90) دولارا في عام 2024. وفي ظل غياب تدابير جديدة على مستوى السياسات، من المتوقع أن يصل عجز المالية العامة إلى (7.6%) في عام 2024، وأن يتسع أكثر بعد ذلك، مع الانخفاض التدريجي المتوقع في أسعار النفط على المدى المتوسط. وكنتيجة لذلك، سيتضاعف الدين العام تقريبا من (44%) في عام 2023، إلى (86%) بحلول عام 2029”.
ولمواجهة هذه التحديات، يرى خبراء الصندوق ضرورة اتباع السياسات الآتية:
– تنفيذ إجراء ضبط طموح لأوضاع المالية العامة، وذلك للمساعدة في استقرار الدين على المدى المتوسط، وإعادة بناء هوامش أمان وقائية للمالية العامة، مع الحفاظ على الإنفاق الرأسمالي الضروري. وستأتي معظم جوانب ضبط أوضاع المالية العامة من خفض الإنفاق الجاري، وبخاصة السيطرة على فاتورة الأُجور، عن طريق الحدّ من التعيينات الإلزامية، ومن العمل على التطبيق التدريجي لقاعدة التناقص الطبيعي للعاملين في القطاع العام.
– يتعيَّن على السلطات العراقية أيضًا، السَّعي إلى زيادة الإيرادات غير النفطية، عن طريق توسيع قاعدة ضريبة الدخل على الأفراد، وجعلها أكثر تصاعدية، ومراجعة هيكل التعرفة الجمركية، والنظر في فرض ضرائب جديدة على البنود الكمالية.
– بالتوازي مع ذلك، يجب الاستمرار في بذل الجهود الرامية، إلى جعل عملية إدارة الإيرادات والرسوم الجمركية أكثر كفاءةً. ومن الممكن تحقيق المزيد من التوفير، عن طريق تحسين الاستهداف في الدعم الاجتماعي، وزيادة مستوى استرداد تكلفة تزويد التيار الكهربائي في قطاع الكهرباء. إذ من الممكن أن تتيح هذه التدابير مجالًا لتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي المستهدفة.
– كذلك يتعيّن على السلطات العراقية تعزيز إدارة الأموال العامة، والحد من المخاطر المالية.
– رحب خبراء الصندوق بالخطوات الأولية التي اتُّخذت نحو تأسيس حساب الخزانة الموحّد (TSA)، والذي يعدّ أداةً حاسمةً لتحسين إدارة السيولة النقدية. وتقتضي الحاجة أيضًا تحقيق المزيد من التقدم على هذا الصعيد، فضلا عن أهمية التعاون الوثيق، فيما بين البنك المركزي العراقي ووزارة المالية. وتتمثّل الخطوات التالية في تحديد خيارات تصميم حساب الخزينة الموحّد، وإنجاز عملية تعداد الحسابات المصرفية.
– كما يتعين وضع سقف إجمالي لإصدارات الضمانات، وتضمينها في قوانين الموازنات في السنوات اللاحقة، مع ضمان الالتزام بها. وينبغي الابتعاد عن اللجوء لاستخدام الصناديق خارج الموازنة، لاسيما على ضوء المخاطر المالية المحتملة المرتبطة بها.
– يتحتم ضمان أن يتوافر لدى الصندوق العراقي للتنمية، ترتيبات ملائمة تتعلَّق بالحوكمة، وتشمل استقلالية مجلس الإدارة، مع ضمان شفافية أنشطة الصندوق في الوقت ذاته، بما في ذلك، عن طريق نشر الخطط الاستثمارية للصندوق في وثائق الموازنة السنوية، وضبط قدرته على الاقتراض.
– لا بدَّ من دعم الجهود القائمة من قبل البنك المركزي، عن طريق توحيد الودائع الحكومية غير المُستَغلّة في حساب الخزينة المُوحّد، والامتناع عن السياسة المالية المُسايِرة للاتجاهات الدوريّة، والحدّ من الاعتماد على التمويل النّقدي، وتحسين إدارة الدّين العام. وبالتوازي، ينبغي مواصلة الجهود الرامية إلى إنشاء سوق ما بين المصارف، بدعم من المساعدة الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدولي. وينبغي تسريع الخطوات التي اتخذتها السلطات، من أجل تسريع وتيرة رقمنة الاقتصاد، وخفض الاعتماد على النقد وتعزيز الشمول المالي.
– هنالك حاجة إلى إجراء إصلاحات هيكليّة واسعة، لتعزيز تنمية القطاع الخاص والتنوّع الاقتصادي. يحتاج العراق إلى رفع معدّلات النمو في القطاع غير النفطي، وبشكل مستدام لاستيعاب القوى العاملة التي تتزايد أعدادها بشكل سريع، وإلى زيادة الصادرات غير النّفطيّة والإيرادات الحكوميّة، فضلا عن الحدّ من تعرّض الاقتصاد لصدمات أسعار النفط. وتشمل أهم أولويات الإصلاح اعتماد استراتيجية شاملة للتوظيف، تهدف إلى إلغاء التعيينات الإلزامية في القطاع العام بصورة تدريجية، والمواءمة بين وظائف القطاع العام والخاص، ومعالجة الفجوة بين المناهج التعليمية والمهارات المطلوبة في القطاع الخاص، وتعزيز مؤسسات سوق العمل. كذلك يتعيَّن أن تهدف الاستراتيجيّة إلى التقليل من أنشطة القطاع غير الرسمي، ومعالجة المُعوقات القانونيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، التي تحول دون مشاركة المرأة في القوى العاملة.
– تسريع وتيرة الإصلاحات في القطاع المالي، لتحسين فرص الوصول إلى التمويل: إنَّ السلطات العراقية ملتزمة بتحديث القطاع المصرفي، ودعم قدرة المصارف على إقامة علاقات مصرفية مع البنوك المُراسِلة؛ وقد اتّخذت خطوات تهدف إلى دمج المصارف الخاصة صغيرة الحجم.
– لا بدَّ من تكثيف الجهود الرّامية إلى إعادة هيكلة أكبر مصرفَين حكوميين، وتشمل هذه الجهودُ التّعجيلَ في المصادقة على القوائم المالية السابقة، وتطبيق الأنظمة المصرفيّة الشاملة، وتعزيز الحوكمة المؤسّسيّة بما يتوافق مع أفضل المُمارسات.
– تنفيذ إصلاحات شاملة في نظام التقاعُد: هنالك حاجّة مُلّحة إلى هذه الإصلاحات، للتقليل من التكاليف الماليّة الإجمالية المُتوقّعة لنظام تقاعد موظّفي القطاع العام، وتحسين مواءمة المنافع والقواعد بين أنظمة التقاعد في القطاعين العام والخاص، وضمان كفاية المعاشات التقاعُدية والإنصاف عبر الأجيال، وزيادة نسب العاملين المُشتركين في نظام تقاعُد القطاع الخاص.
– مكافحة الفساد وتعزيز الحوكَمة: لاسيّما عن طريق تقوية الأطر المؤسّسيّة والقانونية اللازمة، لضمان استقلاليّة هيئة النزاهة وديوان الرّقابة الماليّة الاتحادي، وتعزيز نشر الإفصاحات عن الأصول المالية، والإفصاحات عن تضارُب مصالح كبار المسؤولين، واعتماد استراتيجيّة مُحدّثة لمكافحة الفساد.
– ينبغي العمل على تعزيز القواعد المُنظّمة للمُشتريات العامّة والأعمال. كما يتعيّن على السلطات مواصلة تعزيز إطار مكافحة غسل الأموال/تمويل الإرهاب وفعاليته، وذلك يشمل القطاع المصرفي، مُسترشِدةً في ذلك بالإجراءات ذات الأولويّة، التي حدّدها التقييم المُشترك لفرقة العمل للإجراءات المالية المعنيّة بغسل الأموال، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي سيتم إنجازه في ايار/ 2024.
– إزالة العقبات الأخرى التي تعترض سبيل تنمية القطاع الخاص، عن طريق تنفيذ إصلاحات في قطاع الكهرباء لتحسين كفاءته، واسترداد تكاليفه، وضمان إمكانية الحصول على الكهرباء بطريقة موثوقة؛ وتبسيط الإجراءات الخاصة بتسجيل الأعمال؛ وتحديث البنى التحتيّة الحيويّة.