م. د. شهد علي غالب/ الجامعة المستنصرية – كلية العلوم السياسية / باحث مشارك في قسم ادارة
الازمات / مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء
يعتبر النشر العلمي من الأسس والأعمدة الأساسية لتقدم المجتمعات، من هنا نجد أن الدول الغربية المتقدمة
عملت على تهيئة المناخ المناسب والملائم للباحثين والناشرين، وشجعتهم من خلال التحفيز المادي
والمعنوي للعمل على الإنتاجية العلمية للبحوث ذات الصلة بواقعهم المعاش، مما أدى إلى إحداث ثورة
شاملة في المعارف والعلوم المتنوعة قادت إلى الوقوف على العديد من الإشكاليات التي تواجههم أثناء عملية
النشر العلمي، ومعالجتها علمياً بناءً على التجارب والخبرات البحثية لدى باحثيها ومفكريها من رواد
النهضة العلمية الأوروبية. وعلى الرغم من بعض الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي شهدتها العديد من
الدول النامية، إلا أنها لم تتمكن من النهوض بالبحث العلمي ونشره في مختلف المجالات الحياتية فلا تزال
معظم جامعاتنا العربية حتى يومنا هذا تعمل على إظهار الكم الهائل من الأبحاث دون إعارة الإهتمام
للوصول إلى منتج علمي مؤهل وقادر على إحداث التغيير المعرفي الشامل المبني على رؤية تجارب بحثية
علمية ومعرفية تسهم في إعادة الاعتبار للمجتمع العربي المعرفي الذي عانى سنوات شتى من غياب
البحوث العلمية الرصينة التي تحاكي اهتماماته وتعالج مشاكلة وعلى الرغم من انتشار التكنولوجيا والمعرفة
بشكل متسارع نسبياً، إلا أن البحث العلمي في مجتمعنا العربي ضعيف نسبياً إلى حدٍ ما إذا ما قورن
بالجامعات الغربية المتقدمة رغم حيازته من قبل العلماء والكوادر والباحثين المتميزين في شتى التخصصات
العلمية والأدبية، إلا أن معظم هذه العقول لم تستطيع أن تحقق أدنى درجات التقدم والإبداع، فقد غادرت
أوطانها واتجهت صوب الدول الغربية نظراً للبيئة العلمية الحاضنة للخبراء والباحثين العرب والعمل على
تكريمهم والاهتمام بهم مقارنة بالواقع العربي وحجم التحديات الواقعة علهم والتي شغلت أذهان العديد من
المفكرين العرب، وإلزامتهم بتقبل الواقع كما هو، أو التخلي عنه مما أدى إلى ترهل بيئة البحث العلمي
وفسادها.
و لا يختلف اثنان حول أهمية التمويل للبحث العلمي، أذ يعد بمثابة العمود الفقري للبحث في جميع المجالات
العلمية، وخاصة تلك التي تحتاج إلى مختبرات مجهزة بأحدث وأدق المعدات العلمية التي يمكن أن تصل
أسعار اقتنائها ملايين الدراهم وعقود صيانتها تكلف مئات الآلاف سنويا. بالإضافة إلى المعدات الدقيقة،
يتطلب إجراء التجارب العلمية في ميدان العلوم الطبية والكيمياء مثلا عددًا كبيرًا من المواد الكيميائية
والبيولوجية، والمحاليل البيولوجية، والمواد الاستهلاكية مثل الأنابيب البلاستيكية، والأواني الزجاجية،
وكذلك حيوانات التجارب مثل الفئران، والأرانب، وغيرها التي تتطلب تربيتها والاعتناء بها أموالا باهظة،
وان هذا التمويل للبحث العلمي يأتي من عدة مصادر أهمها:
1- التمويل الحكومي:
جزء كبير من الأموال التي تصرف على الأبحاث تأتي من ميزانيات الدول. لذلك، فإن جميع الدول التي
تؤمن بأهمية البحث العلمي لتطوير اقتصاداتها تخصص نسبة لا يستهان بها من ميزانياتها السنوية للبحث
العلمي والتطوير. وكمثال على ذلك فإن دولا مثل كوريا الجنوبية 4.8%، وتايوان3.6%، والسويد3.5%،
والولايات المتحدة الأمريكية 3.4%، وبلجيكا3.2%، واليابان3.2% والنمسا3.2%، وألمانيا3.1%،
والدنمارك، وسويسرا3.2%، والصين3.2%، وفرنسا2.4% خصصت للبحث العلمي والتطوير من الناتج
المحلي الإجمالي في عام 2020، على التوالي.
وذكر أحد الباحثين أن العالم ينفق حوالي 2,1% من مجمل دخله الوطني على مجالات البحث العلمي،
أي ما يساوي حوالي 536 بليون دولار، ويعمل في مؤسسات البحث العلمي في العالم ما يقارب 3,4
مليون باحث، أي بمعدل 1,3 باحث لكل ألف من القوى العاملة، وقد قدر إنفاق الولايات المتحدة الأمريكية
واليابان والاتحاد الأوروبي على البحث والتطوير بما يقارب 417 بليون دولار، وهو ما يتجاوز ثلاثة
أرباع إجمالي الإنفاق العالمي بأسره على البحث العلمي. والولايات المتحدة وحدها تنفق سنوياً على البحث
العلمي أكثر من 168 بليون دولار، أي حوالي 32% من مجمل ما ينفق العالم كله. وتأتي اليابان بعد
الولايات المتحدة: 130 بليون دولار، أي ما يوازي أكثر من 24% من إنفاق دول العالم. ثم يتوالى بعد
ذلك ترتيب دول العالم المتقدم: ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، كندا، ليكون مجموع ما تنفقه الدول السبع
أكثر من 420 بليون دولار. ففي هذه الدول السبع مليونان و265 ألف باحث، يمثلون أكثر من 66% من
مجموع الباحثين في العالم، ويكلف كل باحث منهم حوالي 185 ألف دولار في السنة.
وكما تصدرت الدول الاسكندينافية قائمة الدول الأوروبية الداعمة للبحث والابتكارات، وذلك بالنسبة إلى
نواتجها القومية، فجاءت النسب التي خصصتها تلك الدول للبحث والتطوير على هذا النحو: السويد
4.27%، فنلندا 3.51%، الدانمرك 2.6%. وتأتي بولندا بنسبة 0.59% في المرتبة الأخيرة بين الدول
الأوروبية.
أما باقي دول العالم لاسيما الدول العربية، فلا يتجاوز إنفاقهم على البحث العلمي أكثر من 116 بليون
دولار. وهذا المبلغ ليس لأمة العرب فيه سوى 535 مليون دولار ليس غير، أي ما يساوي 11 في الألف
من الدخل القومي لتلك البقية من العالم، ومعظم الدول العربية لا تظهر أرقامًا وإحصاءات عن الباحثين
والبحث العلمي، فإذا ظهر شيء من ذلك فيكون غير مطمئن: الإمارات 1.50% لسنة 2021، والكويت
0.19% لسنة 2020، والأردن 0.70%، وتونس 0.3%، وسوريا 0.2%، ومصر 0.2%. العراق
0.04% لعام 2021 -1% في موازنة 2023 والجزائر 0.53% كما أن جملة الباحثين في الوطن
العربي هم أقل من 16 ألف باحث، وتكلفة الباحث الواحد في السنة لا تتعدى 36 ألف دولار. وفي
إحصائيات صادرة عن الجامعة العربية في العام 2006م أنه يقابل كل مليون عربي 318 باحث، في
الوقت الذي تصل فيه النسبة في الغرب إلى 4500 باحث لكل مليون شخص.
2-القطاع الخاص: المصدر الثاني لتمويل البحث والتطوير يأتي من القطاع الخاص. ففي أمريكا
مثلا، ساهم هذا القطاع بما يقارب 6٪ (5.1 مليار دولار) من تمويل البحث والتطوير الأكاديمي
في عام 2019. في ألمانيا، تقدم الشركات الألمانية أموالا باهظة لتمويل البحث والتطوير في
ألمانيا. فعلى سبيل المثال ، استثمرت الشركات التجارية في عام 2018 أكثر من 72 مليار يورو
في البحث والتطوير. وكما في الدول المتقدمة الأخرى، فتستثمر الشركات الخاصة مبالغ كبيرة من
الأموال في تطوير المواهب الأكاديمية، لا سيما من خلال تمويل برامج الدراسة المزدوجة
والتدريب الداخلي. وهذا المصدر ضعيف في اغلب بلدان العالم العربي، للأسف، فمازال القطاع
الخاص يحجم عن الاستثمار في البحث العلمي لأن أصحاب رؤوس الأموال ليسوا مستعدين
للمجازفة والاستثمار في هذا القطاع على المدى البعيد ويسعون وراء الربح السريع وبأقل التكاليف.
على الحكومة أن تجد آليات تشجع الشركات على المساهمة في تمويل البحث العلمي من خلال
امتيازات ضريبية، أو التمويل المشترك للمشاريع أو تشجيعها بتخصيص جزء من أربحاها كمنح
لطلبة الدكتوراه، أو بناء أقسام بحثية وإطلاق أسماء الشركات الممولة أو أسماء أصحابها عليها..
إلخ
3- المؤسسات والمنظمات غير الربحية: هناك مصدر ثالث لتمويل البحث والتطوير يكمن في دور
المؤسسات والمنظمات غير الربحية، فقد ساهمت هذه المنظمات غير الربحية مثلا بما يقارب 7٪ (5.7
مليار دولار) من تمويل البحث والتطوير الأكاديمي في عام 2019 في أمريكا. وفي المانيا، ساهمت جمعية
Stifterverband، التي تنضوي تحتها مؤسسات غير ربحية كثيرة، بما يقاب 17.2 مليون يورو لتمويل
التعليم والعلوم في 2019، بالإضافة إلى 15.5 مليون يورو هبات لتمويل كراس استاذية. أما في بريطانيا،
فإن المؤسسات الخيرية في مجال أبحاث الخرف أو أبحاث السكري أو أبحاث السرطان تمول العشرات من
المشاريع البحثية سنويا. وتعتبر مؤسسة هينري ويلكام الخيرية (Welcome trust) أكبر ممول غير
حكومي للبحوث العلمية في ميدان الصحة في بريطانيا ومن بين أكبر الممولين في العالم. في سنة 2019
مثلا، استثمرت هذه المؤسسة 29.1 مليار جنيه إسترليني وأنفقت مداخيل هذا الاستثمار البالغ 12.3٪، أي
ما يقارب 3.57 مليار جنيه، على نشاطاتها الخيرية بما فيها تمويل المشاريع البحثية. تمول العشرات من
المؤسسات الخيرية الأبحاث العلمية في أمريكا كذلك مثل مؤسسة مايكل فوكس لأبحاث شلل الرعاش
(maladie de Parkinson) أو مؤسسة بيل و مليندا كايت ( Bill & Melinda gates
foundation). في سنة 2021 أنفقت هذه الأخيرة 6.7 مليارات دولار أمريكي في العمل الخيري بما فيه
تمويل البحوث العلمية في ميادين مختلفة. مع كامل الأسف، مثل هذا النوع من التمويل يمكن ان يقال انه
مغيب تماما في بلدان العالم العربي ويحتاج إلى تغليب المصالح العليا للوطن وإلى نوع من الثقة بين
المتبرعين ومسيري الجمعيات الخيرية، وتفعيل الرقابة من طرف الدولة لحماية أموال المتبرعين. .