م.د شهد غالب علي / الجامعة المستنصرية – كلية العلوم السياسية / باحث مشارك في قسم
ادارة الازمات / مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء
يمثل الفساد شكل من أشكال الانحلال الاخلاقي ومظهر من مظاهر التراجع في القيم وغياب الضمير، وهو
ظاهرة قديمة وحديثة في آن واحد، فهي حديثة من حيث التنوع في أساليبها ونتائجها، وقديمة في نشأته
والفساد هو ظاهرة متعددة الجوانب منها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويعرف الفساد وفقا لموسوعة
العلوم الاجتماعية بأنه : سوء استخدام النفوذ العام لتحقيق أرباح خاصة ، وهو خروج عن القانون وعن
النظام العام وعدم الالتزام بهما من أجل تحقيق مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية للفرد أو لجماعة
معينة. كما أن الفساد الإداري أو السياسي وغيره من الأنواع هو شكل للانحراف . وهو صورة من صور
سوء تكيف الإنسان مع الأنظمة الاجتماعية التي يعيش في إطارها ويترتب عليها سلوكيات مخالفة غير
معتادة بعيدة عن عادات وتقاليد وأعراف المجتمع مثل الكذب والرشوة والسرقة.
ينتشر الفساد في جميع أنواع النظم السياسية وبدرجات متفاوتة وإن كان البعض يقلل من حجم الفساد في
الدولة الديمقراطية، ويعظم من شأنه في الدول ذات الأنظمة الشمولية، ولابد من الإشارة أولاً إلى أن
الديمقراطية لا تعني حل كل المشكلات المتفاقمة الموروثة من النظام الدكتاتوري، فمشكلة مثل الفساد تتفاقم
في المراحل الأولى من التحول الديمقراطي، ففي السنوات الأولى من التحول نحو الديمقراطية غالبا ما
تشهد إحباطا اجتماعيًا واسعًا، وتوجها لدى بعضاً من أفراد المجتمع نحو إظهار حنينهم للدكتاتورية بسبب ما
يعتقدوه خيبة الأمل المسبوقة ، وهو جزء من التعبير عن نقمة تجاه واقع فوضوي غير واضح، فنهاية حكم
الدكتاتور لا تعني نهاية الفساد، بل هناك مرحلة من العمل الصعب والشاق، اذ ان النظام الدكتاتوري هو
نظام قائم على إقصاء الأغلبية، وقد يحارب الفساد ليس لإرضاء الشعب بقدر ما يهدف لحصر الفساد
بالدائرة الموالية له التي تدخل مع السلطة بعلاقة تخادم ، فخلال عملية التحول قد يتفشى الفساد ويُسبب
ضعف السلطة، وصعود نخب سياسية جديدة تحاول تحسين وضعها الاقتصادي وتعزيز أرصدتها للبقاء
على الساحة السياسية، فضلا أن الديمقراطية تقوم على توزيع السلطة بدلًا من تركيزها في يد واحدة،
فيرافق هذا التوزيع للسلطة توزيعا أيضا للموارد، وفتح لقنوات إضافية للإثراء غير المشروع، وتوظيف
المال العام لخدمة المصلحة الخاصة والمريدين، والأخطر من ذلك كله هو أنه لو مارس الجميع الفساد
وتساهل معه للتغطية على كل الأطراف الفاسدة، فهنا ينتهي دور المساءلة والمحاسبة ودور البرلمان
والهيئات الرقابية، لنصل إلى مرحلة وجود مفوضية للنزاهة هي الاخرى قد لا تؤدي دورها وتصبح عاجزة
عن ذلك ، لهذا فلا يمكن الحديث عن تطهير النظام السياسي وتطويره من أجل التقدم باتجاه الديمقراطية،
دون أن تكون مكافحة الفساد أحد العناصر المهمة لهذا العمل.
إن الديمقراطية لا تقدم حلولا للمشاكل الاقتصادية كافة، فهي آلية حكم تعتمد على كفاءة استخدام المدخلات
ونوعيتها، كالخطط المدروسة والبرامج الجديدة والقرارات الصائبة، إضافة إلى أن الفساد ليس من
المشكلات السياسية والاقتصادية فحسب بل يعد في جوهره مشكلة أخلاقية، لذلك عجزت جميع
الديمقراطيات عن اجتثاثه تلك الديمقراطيات العريقة في الغرب، ففضائح الفساد السياسي والمالي والإداري
زعزعت إيطاليا وإسبانيا، وظهرت في ألمانيا وفرنسا مؤخرا، وفي المملكة المتحدة بسبب فضائح أعضاء
كانوا يسائلون عن توزيع السلطة وتوزيع الموارد ، وفتح قنوات إضافية للإثراء غير المشروع، وتوظيف
المال العام لخدمة المصلحة الخاصة، فالديمقراطية لوحدها لا تقضي على الفساد ولا تكفي لاجتثاثه من
جذوره، بل تضيق الخناق عليه من خلال آلياتها في الكشف عنه، والتي هي أسهل منها في النظام الشمولي،
والمنظومة الديمقراطية إذا لم يطلها الفساد السياسي، ستوفر نظاما فعالا وشفافًا للرقابة على أجهزة الدولة
التنفيذية كافة وأعمال الحكومة، وسيكون للإعلام الحر ومؤسسات المجتمع المدني دوراً في فضح مظاهر
الفساد، وإيجاد رأي عام ضاغط، فضلا عن الدور الكبير للقضاء النزيه في معاقبة المفسدين وردعهم ،
والنظام السياسي الديمقراطي يمنع استفراد طرف سياسي بالقوة على الأطراف الأخرى من خلال التعددية،
فالأغلبية تحكم والأقلية تراقب الأخطاء، فتداول السلطة يعقد العمل على الفاسدين بالتستر خلف النفوذ، فضلا
عن أن العملية الانتخابية تعد هاجسًا يقض مضاجع الأحزاب السياسية، فتحاول دائما درء تهم الفساد عن
سجلها وتاريخيهـا السياسي، فالحكومات في الأنظمة الديمقراطية دائما تحت ضغط المراقبة ودائرة الرصد
المستمر من خلال مشاركة فعالة للإعلام.
فضلا عن أن العملية الانتخابية تعد هاجسًا يقض مضاجع الأحزاب السياسية، فتحاول دائما درء تهم الفساد
عن سجلها وتاريخيها السياسي، فالحكومات في الأنظمة الديمقراطية دائما تحت ضغط المراقبة ودائرة
الرصد المستمر من خلال مشاركة فعالة للإعلام.
لكن الفساد لا يدع آليات الديمقراطية تعمل وفق كامل كفاءتها، بل يسعى . جاهداً لتفريغ تلك الآليات من
محتواها، فالسلطة الرقابية للبرلمان يتجاوزها بضربة استباقية من خلال التحكم بأفراد هذه السلطة، إذ يتم
تقسيم الدوائر الانتخابية بطريقة تخدم مصالح تلك الاحزاب ، ومحاولة تفتيت أصوات الاخرين والمنافسين ،
أو حصر الانتخابات بالأحزاب الكبيرة وفق قانون للانتخابات يتم تشريعه وفق مقاسات تلك الأحزاب، مما
يسهل عملية التفاهمات بينها والتنازلات والتوافقات، وهنا يكون للمال دورا كبيرا في شراء الأصوات أو
التلاعب بصناديق الاقتراع .
وليس دقيقا القول بأن الفساد أقل في الدول الديمقراطية منه في الدول الدكتاتورية أو العكس، فقد عرف
النظام الفاشي لموسوليني والنظام الشمولي في الاتحاد السوفيتي أبشع صور الفساد، وكذلك النظم
الديمقراطية في الولايات المتحدة والهند التي يكاد يكون فيها الفساد مقننا وشرط من شروط استقرار النظام
الديمقراطي واستمراره، وخاصة في تمويل الحركات الانتخابية، فضلا عن الفساد في الأنظمة السياسية
الأخرى القبلية والفردية والعائلية، فكلها تعتمد الفساد لضمان استمرار الحكم، ولكن يمكن القول أن الفساد
يقل عند الحكام والسلطة العادلة ، لكنه يزداد في الحكم المستبد، ففي الحكومات المستبدة يستشري الفساد
لكنه يقل في ظل الحكومات العادلة.
فانتشار الفساد بشكل محدود يجعل من السهولة اكتشافه وتحييده ومعالجة أسبابه وتجفيف منابعه، أما في
حال تفشيه واستشرائه فستتعقد سبل مكافحته ومواجهته وتطول مدة علاجه، خاصة في ظل وجود
السلوكيات والقواعد والمؤسسات التي تكرس الظاهرة على المستوى الإداري والسياسي، ولخطورة الظاهرة
تعددت الدراسات التي تناولتها بحثـا وتحليلا، وتوصل معظمها إلى نتيجة ذات أهمية تفيد بأن استشراء
الفساد يعود في أحد جوانبه إلى احتكار السلطة من قبل البعض سواء كانوا أفرادا أو مجموعات، فضلا عن
تراجع مستوى الرقابة وتدني قيم الشفافية، وغياب المساءلة.