م.م سندس عمران الطريحي
قسم الدراسات القانونية
مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء
كانون الأول/ 2024
استكشاف العلاقة بين مكافحة الفساد، وحقوق الإنسان، من منظور إسلامي ودولي، مع إبراز دور الشريعة الإسلامية، والأنماط الدولية في التصدي لهذه الآفة، من أولى أولويات المهتمين الإسلاميين. فالفساد هو إساءة استخدام السلطة، لتحقيق مكاسب شخصية، يشمل ذلك الرشوة، والاختلاس، والمحسوبية، واستغلال النفوذ. أمَّا من حيث تأثيره في المجتمع، فآثاره الاجتماعية، والاقتصادية، تؤثر سلبًا في التنمية الاقتصادية، والثقة بين المواطنين والحكومة، والعدالة الاجتماعية. أمَّا البعد الأخلاقي والديني، فيُعد الفساد في الإسلام من الكبائر التي تفسد المجتمعات، وتُعرّضها للعقاب الإلهي، لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾(الأعراف:56). فالإسلام يكرّم الإنسان بحقوق أساسية، تشمل: الحق في الحياة، والكرامة، والعدالة، والحرية، ووضعت الشريعة الإسلامية أحكامًا، ففي إطار النزاهة، والشفافية، كانت الشريعة تأمر بمحاسبة المسؤولين، وتطبيق العدالة بدون تمييز، وفي إطار العقوبات الشرعية للفساد، وضع الإسلام عقوبات صارمة لجرائم الفساد، مثل: الرشوة، والاختلاس، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: “لعن الله الراشي والمرتشي كلاهما في النار”. أمَّا في إطار التوازن بين الحقوق والواجبات، يركز الإسلام في المسؤولية الفردية، والجماعية، في الحفاظ على المال العام، ومنع التجاوزات. فعند مقارنة الأنماط الدولية بالشريعة الإسلامية، إذ تتفق الشريعة مع الأنماط الدولية، في ضرورة محاربة الفساد من أجل تحقيق العدالة، لكنها تُضيف بُعدًا روحانيًا يرتبط بالإيمان. ويعتمد الانسجام بين القيم الإسلامية، والمواثيق الدولية، على التوافق في أهمية العدل، ودور القيم الأخلاقية في تعزيز المساءلة.
تظهر التحديات في التطبيق في ضعف الإرادة السياسية، وتأثير المصالح الشخصية، والحاجة إلى التوعية، وبناء القدرات، وهناك أمثلة ناجحة، ونماذج لدول إسلامية استطاعت دمج القيم الإسلامية مع السياسات الدولية، لمكافحة الفساد، وهناك عدد من الدول الإسلامية، التي نجحت في دمج القيم الإسلامية مع السياسات الدولية، لمكافحة الفساد، عن طريق الاستفادة من المبادئ الإسلامية القائمة على العدل، والشفافية، والمساءلة، مع تطبيق الاتفاقيات، والمعايير الدولية، مثل: اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وأبرز النماذج هي تلك الدول، مثل: إندونيسيا، وماليزيا، وإيران، والعراق. فمثلاً إيران في مكافحة الفساد، وحقوق الإنسان الإسلامية، ضمن الإطار النظري، والقانوني، اعتمدت على مبادئ الشريعة الإسلامية وفقًا للدستور الإيراني، الذي ينص على محاربة الفساد بجميع أشكاله. فأنشئت هيئات رقابية، مثل: منظمة التفتيش العامة، والسلطة القضائية، لتطبيق العدالة، ومراقبة مؤسسات الدولة. وتُعد مكافحة الفساد الإداري، والمالي، جزءًا من الالتزام بالقيم الإسلامية، لاسيَّما أنَّ النظام الإيراني يرتكز على ولاية الفقيه، التي تؤكد مسؤولية الدولة تجاه العدالة الاجتماعية. أمَّا من ناحية التطبيق العملي، فقد تمَّ إنشاء مؤسسات رقابية، فأنشئت مؤسسات، مثل: “هيئة مكافحة الفساد”، لمتابعة التجاوزات المالية، والإدارية، داخل أجهزة الدولة. أمَّا دور القضاء فيقوم القضاء الإيراني بدور أساسي في محاكمة المتهمين بالفساد، وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، مع فرض عقوبات صارمة، فكان للتحديات التأثير على الرغم من جهود مكافحة الفساد. تشير التقارير الدولية إلى وجود تحديات كبيرة، مثل: ضعف الشفافية في بعض القطاعات، وتداخل السلطات التنفيذية، والدينية. أمَّا الحقوق المدنية فتتأثر بجهود مكافحة الفساد، أحيانًا بالقيود المفروضة على الحريات المدنية، وحقوق الإنسان، مما يحد من الرقابة المجتمعية على قضايا الفساد. والنمط الآخر هو العراق، فمكافحة الفساد وحقوق الإنسان الإسلامية، ضمن الإطار النظري، والقانوني، ينص الدستور العراقي لعام 2005 على مبادئ الشفافية، والمساءلة، ومحاربة الفساد، بوصفها واجبات وطنية مرتبطة بالقيم الإسلامية، وحقوق الإنسان، وتأسست هيئات مستقلة لمكافحة الفساد، مثل: هيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية، بهدف مراقبة الأداء الحكومي، وتحقيق النزاهة في إدارة المال العام. وكان للتطبيق العملي الدور الأهم، تمَّ تأسيس مؤسسات مكافحة الفساد، مثل: هيئة النزاهة، فتُعد الهيئة الرئيسة المسؤولة عن مكافحة الفساد، وفق المعايير المحلية، والدولية، وكذلك مجلس القضاء الأعلى، إذ يقوم بدور قضائي في محاكمة المتورطين في قضايا الفساد، أمَّا من ناحية الالتزامات الدولية، فالتزم العراق باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، مما يُعزز دمج المعايير الإسلامية مع القوانين الدولية. أمّا من ناحية التحديات، فانتشار الفساد بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية، وعدم الاستقرار الأمني، وضعف تطبيق القوانين، وتداخل الصلاحيات بين السلطات التنفيذية والتشريعية، مما يعيق الجهود الرقابية. وعلى الرغم من المبادئ الإسلامية الراسخة، يواجه العراق تحديات كبيرة في تطبيقها بشكل فعّال، لضمان الشفافية، وحقوق الإنسان. وخلاصة القول: تعكس كل من إيران والعراق محاولات لمكافحة الفساد، عن طريق دمج القيم الإسلامية مع السياسات الدولية، إلا أنَّ التحديات السياسية، والأمنية، تعوق تحقيق نتائج ملموسة في إيران. يُركز النظام على المبادئ الإسلامية ضمن إطار ولاية الفقيه، مع دور قوي للسلطة القضائية. أمَّا في العراق، فعلى الرغم من وجود إطار قانوني، مستند إلى القيم الإسلامية، والتزامات دولية، إلا أنَّ الفساد يظل معضلة رئيسة بسبب الأزمات المتتالية، يشير هذا إلى ضرورة تعزيز الشفافية، عن طريق تطبيق نظام الإدارة الرشيدة، وتطبيق القوانين بصرامة، وضمان تفعيل حقوق الإنسان الإسلامية، جنبًا إلى جنب مع الالتزامات الدولية. أمَّا في إندونيسيا فدمجت القيم الإسلامية، بعدَّها أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان. حرصت إندونيسيا على استخدام التعاليم الإسلامية، في مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية، ومبادرات بارزة في تأسيس لجنة القضاء على الفساد (KPK)، والتي تعد من أقوى المؤسسات الرقابية في البلاد، وتعزيز برامج التوعية التي تعتمد على نشر التعاليم الإسلامية المرتبطة بالأمانة، ومحاربة الفساد، عبر المساجد، والمؤسسات التعليمية، ودمجت تعاليم القيم الإسلامية في السياسات الحكومية، لتحقيق العدالة، والنزاهة. أمَّا في المغرب العربي، فقد دمجت القيم الإسلامية مستندة إلى مبادئ الإسلام كمرجعية أخلاقية، مع اعتماد سياسات الحوكمة الرشيدة، وهناك مبادرات بارزة، مثل: تأسيس الهيئة الوطنية للنزاهة، والوقاية من الرشوة ومحاربتها، ودمج برامج التوعية بأخلاقيات العمل المستمدة من تعاليم الإسلام، وتعزيز القيم المرتبطة بالشفافية، والصدق في المؤسسات العامة، والمشاركة في الجهود الدولية لمكافحة الفساد، والتزامها باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وملخص هذه الدول نجحت في دمج القيم الإسلامية المرتبطة بالنزاهة، والأمانة، مع السياسات الدولية الحديثة، عن طريق إنشاء هيئات متخصصة، وتعزيز الحوكمة، والالتزام بالمعايير العالمية، إذ يعكس هذا التوجه قدرة الدول الإسلامية، على المزاوجة بين التراث القيمي الإسلامي، ومتطلبات العصر الحديث، في مكافحة الفساد. تستند حقوق الإنسان الإسلامية في الفكر الشيعي، إلى مرتكزات أساسية، هي: العدالة الإلهية، فتُعدّ العدالة مبدأً أساسيًا يوجه الحكم، وإدارة شؤون الأمة. فالفساد يُعد خيانة للأمانة، ومخالفة للشرع الإسلامي، وولاية الفقيه في الفكر الشيعي. تُعدّ ولاية الفقيه إطارًا لضمان قيادة عادلة. ووفق هذا المبدأ، يكون الفقيه مسؤولًا عن محاربة الفساد، وفرض القوانين التي تعزز النزاهة، والمساءلة، إذ يشدد الفكر الشيعي على “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وهو ما يرتبط بضرورة مكافحة الفساد، والالتزام بالشفافية، وحماية الحقوق. يؤكد الإسلام الشيعي على حقوق الأفراد الأساسية، كجزء من الأمانة الشرعية، بما في ذلك المساواة، والعدالة الاجتماعية، والاقتصادية.
أمَّا الأدلة الشرعية من منظور الشيعة:
1. القرآن الكريم: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ (البقرة: 188).
2. الأحاديث النبوية: “لعن الله الراشي والمرتشي كلاهما في النار” – تأكيد شرعي لرفض الفساد.
3. الأقوال المأثورة للإمام علي (عليه السلام): “قبحُ الخيانات خيانةُ الأمة، وأفظعُ الغش غشُ الأئمة” – نهج البلاغة.
أمَّا مكافحة الفساد وفق الأنماط الدولية، فتستند إلى اتفاقيات، ومعايير عالمية، أبرزها:
• اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC).
• المعايير الدولية لحقوق الإنسان: تنص على ضمان العدالة، والمساءلة، والحق في الوصول إلى المعلومات.
آليات النزاهة والشفافية: مثل: تشكيل هيئات مستقلة، وإجراء رقابة برلمانية ومجتمعية، وتطوير أنظمة تشريعية شفافة. فيمكن القول: إنَّها تتفق مع المبادئ الإسلامية الشيعية في مكافحة الفساد، من حيث الغايات، ولكن تختلف في الآليات التنفيذية. فالمرجعية الشيعية تضيف البعد الفقهي، والديني، كمصدر إلزامي لضمان محاربة الفساد، وحماية حقوق الأفراد. تُظهر مكافحة الفساد في إطار حقوق الإنسان الإسلامية الشيعية، تقاطعًا واضحًا مع الأنماط الدولية، إذ ترتكز على مبادئ العدالة، والمساءلة، والشفافية، لكن يبقى التطبيق محكومًا بخصوصيات الدول، فتعتمد إيران بشكل رئيس على المرجعية الشيعية، وولاية الفقيه، لتوجيه مكافحة الفساد، في حين تواجه تحديات مرتبطة بالشفافية، وحقوق الإنسان. ويحاول العراق الموازنة بين القيم الإسلامية، والالتزامات الدولية، إلا أنَّ التحديات السياسية، والأمنية، تعرقل تحقيق نتائج ملموسة.
في كلا النموذجين، تُعد محاربة الفساد التزامًا دينيًا، وأخلاقيًا، يستهدف حماية حقوق الإنسان، وضمان العدالة الاجتماعية، وفق القيم الإسلامية الشيعية، وهو ما يتلاقى مع الأطر القانونية الدولية، على الرغم من التفاوت في التطبيق، والآليات. ختاماً لا بدَّ من تعزيز التوعية المجتمعية، ونشر القيم الإسلامية، والمبادئ الأخلاقية التي تحث على مكافحة الفساد، وإنشاء آليات رقابة قوية، ومزج الشفافية الإسلامية مع الأنظمة الحديثة، لضمان المحاسبة، وتعاون دولي أكبر، وتبادل الخبرات بين الدول الإسلامية، وغير الإسلامية، لمكافحة الفساد بفعالية، وتشجيع البحث العلمي، ودراسة تأثير الشريعة الإسلامية في مكافحة الفساد، وتعزيز حقوق الإنسان.
مكافحة الفساد في إطار حقوق الإنسان الإسلامية من منظور إسلامي ودولي
التعليقات على مكافحة الفساد في إطار حقوق الإنسان الإسلامية من منظور إسلامي ودولي مغلقة