جيوبولتيكية مدينة تلعفر

      التعليقات على جيوبولتيكية مدينة تلعفر مغلقة

باحث مشارك/ م.م زينب محمد ياسين البرزنجي
جامعة كربلاء/ كلية التربية للعلوم الإنسانية/ قسم الجغرافية التطبيقية
بالنظر إلى أهمية الخصائص الجغرافية التي تتمتع بها مدينة تلعفر، الواقعة في شمال غرب محافظة نينوى، كونها من أكبر الأقضية في العراق بمساحة (4596) كم2، ويشكل التركمان، الذين هم ثالث أكبر قومية في الدولة، غالبية سكانها، وتعدادهم السكاني (552107) نسمة، أي ما يشكل (13.69%) من سكان محافظة نينوى، بحسب إحصائية عام (2021)، بغض النظر عن النازحين في داخل العراق، فضلًا عن موقعها الاستراتيجي على الحدود، مع كل من سوريا التي تبعد عنها حوالي (60) كم تقريبًا، والحدود الجنوبية لتركيا التي تبعد حوالي (40) كم. فإنَّ هذه السمات الجغرافية المهمة، تجعل المدينة مؤهلة لأن تتحول إلى محافظة، على غرار محافظات دهوك، وتكريت سابقًا، وحلبجة حديثًا.
إنَّ مطالبات بتحويل قضاء تلعفر إلى محافظة، قديمة، وجديدة، فقد كانت هناك إشارات لتحويل مدينة تلعفر إلى محافظة منذ عام (1941)، تحت مسمى “محافظة الجزيرة”، واستمرت في السنوات: 1977، 2002، 2008، و2013، وفي الأخيرة تمَّ استحصال موافقة مجلس الوزراء، على مشروع قانون استحداث محافظة تلعفر، وأُحيل إلى مجلس النواب استنادًا إلى أحكام المادتين (61/ البند أولًا) و(80/ البند ثانيًا) من الدستور. وقد نصَّ القرار على أن تكون نواحي (العياضية، وربيعة، وزمار)، أقضية تابعة للمحافظة الجديدة، في حين تصبح قرى (أبو ماريا، وعوينات، وتل موسى، وبرغلية، وقصر سيريج) نواحي تابعة للأقضية المستحدثة.
تستمر هذه المطالبات في ظل التحديات، والمعوقات، التي واجهها، ولا يزال يواجهها سكان المدينة، بسبب ارتباطها الإداري بمحافظة نينوى، الذي حدّ من دور المدينة، وتسبب في عدم توفير احتياجاتها من الخدمات. واليوم، يعدُّ استحداث محافظة تلعفر، مطلبًا جديًا لأبنائها في سعيهم إلى نيل حقوقهم بشكل كامل، وايجاد الظروف الملائمة لبناء مدينتهم، بعيدًا عن التحكم بمقدراتها خارج مصالحها. بهذا الصدد نشير إلى أنَّ الآلاف من أبناء تلعفر، استهدفوا على يد الجماعات الإرهابية، التي نشأت برعاية قوى عالمية، وبدأت اجتياح العراق منذ عام (2004م)، وتعرضوا للقتل، والخطف، والملاحقة، في أثناء مراجعتهم لمركز مدينة الموصل، لإنجاز معاملاتهم الإدارية، كما طال الاستهداف الطلبة الدارسين في الجامعات داخل مدينة الموصل.
ومع التحولات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، وتغيّر استراتيجيات بعض القوى الإقليمية، والدولية، التي استخدمت أساليب مثل خلق الأزمات العابرة للجغرافيا، والحدود، بهدف زعزعة الاستقرار بمختلف أشكاله، تحقيقًا لمخططات رسم الخريطة السياسية الجديدة، وفق مسميات مستحدثة مثل “الفوضى الخلّاقة” و “الشرق الأوسط الجديد” …الخ. تعدُّ استراتيجية “إسقاط المدن” وسيلة تلك القوى في تحقيق أهدافها، كما حدث في دولتي سوريا والعراق، فقد كانت محافظة نينوى نقطة الشروع في تنفيذ هذه الاستراتيجيات، إذ سقطت هذه المحافظة بالكامل مطلع عام (2014م)، لتتوالى بعدها سيطرة تنظيم ما يُعرف بـ (الدولة الإسلامية في العراق والشام) (داعش) على المدن، والأقضية التابعة لها، واحدة تلو الأخرى.
وكان لقضاء تلعفر نصيب كبير من هذا الاستهداف، إذ لم يكتفِ التنظيم بالسيطرة عليه، بل عمد إلى تدمير رموزه الحضارية، والثقافية، وفي مقدمتها قلعة تلعفر الأثرية، التي يعود تاريخ بنائها إلى العهد الآشوري، كما استهدف المراقد الدينية، والحسينيات، في محاولة لطمس الهوية التاريخية، والدينية، والثقافية للمدينة. هنا يتضح مدى أهمية تحويل مدينة تلعفر إلى محافظة، تدير شؤونها الإدارية، ومصالحها الأمنية، وفق وضعها الخاص، بعيدة عن التجاذبات في محافظة نينوى، التي تؤثر في أغلب الأحيان تأثيرًا سلبيًا في استقرار المدينة إداريًا، وسياسيًا، واقتصاديًا، ثمَّ أمنيًا، الأمر الذي يجعل من هذه المدينة الكبيرة، ذات الثقل السكاني، والاقتصادي، رقمًا هامشيًا في المعادلات داخل أروقة صنع القرار في محافظة نينوى، وإنَّ طريق معظم المشاريع التي تخدم مدينة تلعفر، لا يمر أو يتوقف في رفوف دوائر مركز محافظة نينوى، ومؤسساتها الإدارية، مما يضعف هذه المدينة، ويجعل أبناءها يسعون بشكل مستمر إلى الاستعانة بالحكومة المركزية، والمطالبة بنيل استحقاقهم، عن طريق سنّ قانون من قبل مجلس الوزراء، والنواب، يسمح لهم بنيل حقهم الدستوري (وفق المادة / 122 سادسا). علمًا أنَّ أبناء هذه المدينة، كان لهم الدور الأبرز في إقرار الدستور العراقي، عن طريق التصويت بـ (نعم) في الاستفتاء، إذ حسم أبناؤها النتيجة عن طريق رفع نسبة المصوتين بـ (نعم) للدستور في محافظة نينوى، إلى أكثر من ثلث النسبة والتي بلغت (44.92%) بـ (نعم)، مما جعل نسبة الرافضين نسبة لا تتخطى عتبة الثلثين فكانت (55.08%)، وبفضل هذه الأصوات نجحت مسودة الدستور، التي طرحت على الاستفتاء للدستور عام (2005م)، وعلى إثره تمَّ تشكيل أول مجلس نواب دائم في العراق (2005م)، وتشكيل حكومة وحدة وطنية (2006م)، والتشريع للدستور العراقي، في ظروف أمنية صعبة، إذ كانت مراكز الاستفتاء تستهدف من قبل المجاميع الإرهابية، مما أدى إلى استشهاد عدد من المصوتين، في مراكز متفرقة من المدينة.
في السياق ذاته، وفي ظل النظام الديمقراطي الذي ساد العراق، وإن كان نظامًا ديمقراطيًا فتيًا، تشوبه بعض الثغرات، إلا أنَّ الدستور يبقى مرجعًا لأبناء الشعب، والسلطات كافة، في تنظيم إدارة شؤون الدولة. وعلى الرغم من ذلك، لم تستجب السلطات الحاكمة، وأصحاب القرار، بشكل كامل للمطالب الدستورية لأبناء العراق من سكان مدينة تلعفر، بتحويل مدينتهم من قضاء إلى محافظة، مع إصرار ابنائها على تنفيذ مطالبهم، لاعتبارات تنظيمية إدارية بحتة، وليست سياسية كما يزعم، وإنَّ تحويل تلعفر إلى محافظة، من شأنه أن يتيح الحصول على تخصيصات مالية من الحكومة الاتحادية، مما يسهم في تطوير البنية التحتية، واستعادة الخدمات، وتشجيع الاستثمار، وما شابه ذلك. فالمدينة تتمتع بمناخ ملائم، ومناظر طبيعية جذابة، فضلًا عن الأراضي المتموجة الصالحة للزراعة، والبساتين المناسبة لإقامة منتجعات سياحية، وترفيهية، كما تتميز تلعفر بإرثها العمراني العريق، إذ تعود جذورها التاريخية إلى العصر الحجري، أي إلى أكثر من (6000) عام قبل الميلاد؛ ومع ذلك لا تزال تعاني من نقص حاد في الخدمات الأساسية، فهناك مستشفى حكومي واحد (مستشفى تلعفر العام)، وجامعة لا توازي حاجة المدينة، ولا تستوعب عدد الطلبة المؤهلين للدراسة الجامعية كمًا ونوعًا، وهذا لا يتناسب مع حجم السكان، وكثافتهم. وأيضًا، على الرغم من مرور ما يقارب عقدًا من الزمن على تحرير الأراضي، وحجم الدمار الذي لحق بالمدينة جرّاء الحرب، والتي صُنِّفت على إثرها ضمن المدن المنكوبة، حسب تصنيف البرلمان العراقي عام (2017م)، لا تزال عجلة الإعمار فيها بطيئة جدا، ومتعثرة.
اليوم بات واضحًا وبشكل جلي، حرمان المدينة من استحقاقها من المشاريع، والخدمات، والاستثمارات، وما يؤكد ذلك إشارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في زيارته للقضاء بتاريخ 4 آذار/ مارس 2024، إلى أنَّ مدينة تلعفر بحاجة إلى الكثير من الخدمات، والمشاريع.
من الغريب أن تُواجَه هذه المطالب بالرفض، بل ويتم تحويل مطلب استحداث محافظة تلعفر، من حقوق طبيعية إلى قضية اشكالية، على الرغم من توحّد السكان في المركز، والأطراف، خلف هذه المطالب، فقد وضعت معوقات أمام هذا المشروع، من بينها طرح مطالب مماثلة لتحويل أقضية أخرى في العراق، إلى محافظات أسوةً بتلعفر، كنوع من ردة فعل الغرض منها منع تنفيذها، كما أنَّ هناك معارضة من إقليم كردستان، الذي لا يزال يعدُّ مدينة تلعفر، جزءًا من المناطق المتنازع عليها في العراق.
في الواقع، هناك أيضا مخاوف من إنشاء محافظة جديدة لأسباب جيوسياسية، إذ تتوجس الحكومات المتعاقبة في محافظة نينوى، من فقدان سيطرتها المركزية على الأقضية ذات الأهمية الاستراتيجية، وكذلك من احتمالية تمدد النفوذ الإقليمي، لاسيَّما الإيراني منها، من وسط جنوب العراق ليصل إلى شماله الغربي المتاخم للمثلث العراقي – السوري – التركي ، ويُعزى هذا التخوف إلى البعد الأثني، إذ إنَّ غالبية سكان مركز المدينة، ينتمون إلى مذهب متناغم مع المحور الذي تتصدره الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولا يمكن إغفال البعد الجيوسياسي التركي، الذي يبرز بدوافع عرقية، وقومية، نظرًا لأنَّ غالبية سكان تلعفر من التركمان، كما أنَّ الجانب التركي يُولي اهتمامًا بالغًا بمعظم الأحزاب، والجبهات التركمانية في المدينة.
وعلى الرغم من كل هذه التحديات، لا يزال سكان تلعفر متمسكين بمطلب تحويل قضاء تلعفر إلى محافظة حتى يومنا هذا، وإنَّ تحويل قضاء حلبجة إلى محافظة، كان حافزًا إضافيًا يزيد من إصرار سكان مدينة تلعفر، وإن كانت تسبقها بعقود من الزمن، في المطالبة بحقهم في نيل هذا الحق الدستوري، والاستحقاق الإداري، نظرًا للفرص التنموية، والاقتصادية، التي قد تتاح بهذا التحول.
المصادر:
1. جعفر التلعفري، تلعفر ما بعد داعش مركز رواق بغداد للسياسات العامة، ص6. يتوفر على الرابط: https://rewaqbaghdad.
2. جمهورية العراق، وزارة التخطيط والجهاز المركزي للإحصاء، المجموعة الإحصائية السنوية، دائرة إحصاء نينوى، تقديرات سكانية غير منشورة لسنة 2021.
3. حسين حزام بدر، إمكانية تحول المحافظات إلى أقاليم، دراسة حول المادة (119) من الدستور العراقي لعام 2005، مجلة اكليل للدراسات الإنسانية، العدد 8، 2021، ص732.
4. زاهية النجفي، تركمان البلدان العربية تاريخهم ومناطقهم وثقافتهم، ط1، مركز دراسات الامة العراقية – ميزوبوتاميا/ بغداد – جنيف، دار الكلمة الحرة بيروت، 2014، ص54.
5. شاكر خصباك، العراق الشمالي دراسة لنواحيه الطبيعية والبشرية، مطبعة شفيق، جامعة بغداد، 1973، ص35.
6. فاروق عبد الله عبد الرحمن، التركمان في العراق والتاريخ، ط1، المختار للطباعة والترجمة والنشر، بغداد، 2010، ص165.
7. منير عواد نمر، تحليل الأهمية الجيوستراتيجية لمحافظة نينوى، رسالة ماجستير، غير منشورة، الجامعة المستنصرية، 2022، ص146.
8. نظير احمد هلال العبيدي، نصيف جاسم اسود الأحبابي، المستقبل الجيوبولتيكي لمحافظة نينوى في شمال العراق، مجلة جامعة تكريت للعلوم الإنسانية، مج 31، العدد 8، 2024، ص248.