
أ.م. حسين باسم
قسم الدراسات السياسية
مركز الدراسات الاستراتيجية
جامعة كربلاء
تنقسم هذه الورقة البحثية على مطلبين، يتضمن المطلب الأول تسليط الضوء على الإطار النظري لمفهوم المعضلة الأمنية، ويركز المطلب الثاني في التطبيقات المحلية لهذا المفهوم.
المطلب الأول: الإطار النظري لمفهوم “المعضلة الأمنية”
يرتبط مفهوم المعضلة الأمنية بالإجابة عن التساؤل الذي تطرحه المدرسة الواقعية، وتناقشه، والمتمثل بـ (لماذا تريد الدول القوة؟) وعند الإجابة عن هذا التساؤل، يتضح وجود اختلافات جوهرية بين الواقعيين:
معظم الواقعيين الكلاسيكيين متشائمون جدا حول الطبيعة البشرية، وينعكس هذا التشاؤم عن طريق آراء فلاسفة أمثال توماس هوبز، إذ ينظر إلى طبيعة الأشخاص، ويصفها بأنَّها “مدمرة، أنانية، تنافسية وعدوانية”. نعم، ممكن أن يتقبل هوبز أنَّ البشر قادرون على الكرم، والعطف، والتعاون، بيد أنَّ الكبرياء، والأنانية، هي متأصلة في الطبيعة الإنسانية، وهو ما يعني أنَّ البشرية هي أيضا عرضة للصراع، والعنف، والشر الكبير. بالنسبة للكتَّاب الواقعيين، فإنَّ إحدى المآسي الكبرى في حالة الإنسان، هو أنَّ هذه الصفات التدميرية، لا يمكن استئصالها أبدًا. إنَّ القوى العظمى يقودها أفراد عازمون على هيمنة دولتهم على منافسيها، ولا يمكن فعل أي شيء لتغيير هذا الدافع لصالح القبول، بأن يكون الجميع أقوياء.
أمَّا بالنسبة للواقعيين البنيويين، فلا علاقة للطبيعة البشرية بالسبب الذي يجعل الدول تريد القوة، بدلاً من ذلك، فإنَّ هيكل أو بنية النظام الدولي، هو الذي يجبر الدول على السعي وراء القوة. ففي نظام لا توجد فيه سلطة عليا فوق القوى العظمى، وأعلى من سلطة الدول، وحيث لا يوجد ما يضمن عدم مهاجمة أحدهم للآخر، فمن المنطقي أن تكون كل دولة قوية بما يكفي، لحماية نفسها في حالة تعرضها للهجوم. من حيث الجوهر، فإنَّ الدول، والقوى العظمى، محاصرة في قفص حديدي، إذ ليس لديهم خيار سوى التنافس مع بعضهم البعض على القوة، إذا كانوا يأملون في البقاء على قيد الحياة.
وفي هذا الصدد، قدم البروفيسور (جون ميرشايمر)، أحد أعمدة المدرسة الواقعية البارزين، تفسيرًا بسيطًا حول السبب خلف تنافس الدول فيما بينها، من أجل الحصول على القوة، ومن ثم الانزلاق في دوامة المعضلة الأمنية. ويقوم التفسير حول خمس افتراضات، تعطي الصورة الحقيقية لسير السياسات الدولية. ولا يحتم أياً من هذه الافتراضات بمفرده على الدول، أن تكثف مساعيها من أجل الحصول على القوة، ولكن عند مزاوجة الافتراضات معًا، فإنَّها تصور عالمًا لا يتوقف فيه التنافس الأمني، مما يحتم على الدول السعي إلى امتلاك القوة من أجل البقاء:
1. الافتراض الأول، هو أنَّ الدول ولاسيَّما القوى العظمى، هي الجهات الفاعلة الرئيسة في السياسة الدولية، وهي تعمل في نظام دولي فوضوي.
ولا تعني الفوضى هنا إباحة القتل، والجرائم، في حروب مستمرة بين الدول، بل تعني ببساطة أنَّه لا توجد سلطة مركزية أو حكومة عالمية ذات سلطة أعلى من سلطة الدول، تلزمهم باعتماد قواعد، ومبادئ موحدة. فعلى العكس من الفوضى، هو التسلسل الهرمي.
2. الافتراض الثاني، هو أنَّ جميع الدول التي تمتلك بعض القدرات العسكرية الهجومية. وبعبارة أخرى، فإنَّ كل دولة لديها القدرة على إلحاق بعض الضرر بـجيرانها. وبطبيعة الحال، فإنَّ هذه القدرة تتفاوت فيما بين الدول، ومن الممكن لكل دولة أن تغير، وتعظم، من قدراتها العسكرية بمرور الوقت.
3. الافتراض الثالث، هو أنَّ الدول لا يمكنها أبدا أن تكون على يقين حول نوايا الدول الأخرى. ففي نهاية المطاف، تريد الدول معرفة ما إذا كانت الدول الأخرى تميل لاستخدام أو تعظيم قوتها، من أجل تغيير ميزان القوى، أو ما إذا كانت الدول الأخرى راضية بما فيه الكفاية، وليس لديها مصلحة في تعظيم القوة لتغيير ميزان القوى.
غير أنَّه من المستحيل أن يتم استشراف نوايا دولة أخرى، مع وجود درجة عالية من اليقين. فعلى عكس القدرات العسكرية، فإنَّ النوايا لا يمكن التحقق منها إلا بالتجربة، إذ إنَّ النوايا تقبع في أذهان صناع القرار، وأنَّها صعبة الاستشراف. فضلًا عن ذلك، فلو تمكنا من تحديد نوايا دولة ما اليوم، لا توجد وسيلة لتحديد نواياها المستقبلية.
4. والافتراض الرابع يتمثل بأنَّ الهدف الرئيس للدول هو البقاء، فتسعى الدول إلى المحافظة على وحدتها الإقليمية، واستقلالية نظامها السياسي الداخلي. ويمكنهم تحقيق أهداف أخرى مثل الرخاء، وحماية حقوق الإنسان، ولكن يجب أن تجلس تلك الأهداف دائما، في المقعد الخلفي للهدف الجوهري المتمثل بالبقاء، فيما لو اخفقت دولة ما بصيانة ذلك الهدف الجوهري، فلن يمكنها تحقيق أي من الأهداف الأخرى.
5. والافتراض الخامس، هو أنَّ الدولة فاعل رشيد يتخذ قرارات محسوبة، وأنَّ عملية صنع القرار تمرُّ بمراحل، وضمن استراتيجيات تضاعف حظوظها بالبقاء. وهذا لا ينفي أنَّها تخطئ الحساب من وقت لآخر، لأنَّ الدول تعمل مع معلومات ناقصة في عالم معقد، وأنَّها في بعض الأحيان ترتكب أخطاءً خطيرة.
إنَّ أيًا من هذه الافتراضات السابقة بمفرده، لا يفرض على الدول أن تنزلق في معضلة، ومأزق أمني، بسبب التنافس من أجل تعظيم قوتها، ولكن عند مزاوجة الافتراضات السابقة معًا، سوف نحصل على ثلاث سمات أساسية لسلوك الدول:
– السمة الأولى هي “الخوف”، كل دولة داخل النظام الدولي “تخاف” من الدول الأخرى، ومستوى الخوف يختلف من دولة إلى أخرى، والخوف هنا لسببين، أولهما قد تكون الدولة بجانب دولة أخرى، تمتلك قدرة عسكرية أكبر منها، ونوايا سيئة تجاهها. والسبب الثاني للخوف، هو أنَّه إذا تورطت الدولة في مشكلات مع دولة ما، فلا توجد سلطة عليا تلجأ إليها، بسبب فوضوية النظام.
– السمة الثانية لسلوك الدول هي “الاعتماد على الذات”، استوعبت الدول بسرعة غياب سلطة عليا، يمكنها النجدة، أو واجبها ذلك، في حال تعرضت دولة ما لأي عمل عدواني من قبل دولة أخرى. إذًا بسبب غياب سلطة عليا، وبسبب الخوف من الدول الأخرى، على الدولة الاعتماد على الذات.
– السمة الثالثة لسلوك الدول، هي أن تكون قوية بالفعل أو من الدول العظمى، فقد وجدت الدول بأنَّ الوسيلة الأفضل للبقاء في هذا النظام “الفوضوي”، الذي قد يضعها بجانب دولة تسعى إلى المشكلات، هي أن تكون قوية بالفعل أو من الدول العظمى…! فيجب على الدولة أن تعظّم من قوتها النسبية، ثم عليها أن تحقق الهيمنة على بقية الدول.
وهكذا، تتجلى المقتضيات البنيوية المذكورة آنفًا، في المفهوم الشهير والذي يدعى “المعضلة الأمنية”. إنَّ جوهر هذه المعضلة هو أنَّ معظم الإجراءات التي تتخذها الدول، بغية تعزيز أمنها، ستخفض بالضرورة من أمن الدول الأخرى. فعلى سبيل المثال، إنَّ أي دولة تقوم بتحسين مركزها، ضمن ميزان القوى العالمي أو الإقليمي، سيجري على حساب الدول الأخرى، والتي ستخسر جزءًا من قوتها النسبية، بسبب تعظيم الدولة الأخرى لقوتها النسبية. وفي هذه اللعبة التي محصلتها صفر، من الصعب على الدولة التي تقوم بتحسين آفاق بقائها، وأمنها، من دون أن تهدد أمن الدول الأخرى. وبطبيعة الحال، فإنَّ الدول التي هُددت، وفقدت نسبيًا من قوتها، عبر تعظيم دول أخرى لقوتها، ستقوم بكل ما هو ضروري من إجراءات، لضمان بقائها، وأمنها، وهو ما سيُهدد بدوره الدول الأخرى، وكل هذه الاجراءات تؤدي إلى تنافس أمني دائم، ومستمر، وهو ما يعرف بالمعضلة الأمنية.
المطلب الثاني: التطبيقات المحلية لمفهوم المعضلة الأمنية
في الواقع، توجد تطبيقات محلية أخرى لمفهوم “المعضلة الأمنية”. إذ أسقط العديد من المتخصصين هذا المفهوم على الصراعات المحلية، كالتي تحدث فيما بين الفئات العرقية، والدينية، والقبلية، المحلية على تنوعها داخل الدولة. وهكذا أصبحت مسألة المعضلة الأمنية اليوم، تتعلق بالهويات الفرعية ضمن الدول الضعيفة، وتنطبق عليها، بشكل يزيد على تعلق المفهوم بالنظام الدولي وانطباقه عليه.
فمثلًا، لو ضعُفت الدولة، وشهدت عدم الاستقرار، عندئذٍ تشعر الجماعات الفرعية -العرقية والدينية والقبلية- داخل البلد، بالقلق تجاه المستقبل، وتتساءل بشكل ذاتي: ماذا إذا نشب صراع فئوي -عرقي أو ديني أو قبلي- وكانت الدولة عاجزة عن اخماده أو ردع نشوبه؟ قد يتسبب ذلك في اتخاذ مجموعة فئوية -عرقية أو دينية أو قبلية- لإجراءات معينة، بغية الاستعداد لمخاطر محتملة، مثل امتلاك الأسلحة، أو تنظيم تشكيلات مسلحة فئوية خاصة، لتوفير الحماية لجماعتهم ضد أي اعتداء محتمل، وربما نشر مفارز مسلحة، لتقييد الوصول إلى المناطق الحيوية الأساسية، والسكانية، للمجموعة الفئوية تلك. بيد أنَّ هذه التدابير، والعقلية السياسية، التي يتبناها قادة الجماعات الفئوية الفرعية -العرقية أو الدينية أو القبلية- قد تحُثّ الجماعات الفئوية الفرعية الأخرى، وتُحرضها، على تنبي تخوفات، وهواجس، مشابهة، واتخاذ تدابير مشابهة، وإثارة استجابات، وردود أفعال، مشابهة.
في الواقع، تعكس التطبيقات المحلية لمفهوم المعضلة الأمنية، الطبيعة المأساوية الأساسية للحالة المحلية داخل الدولة الضعيفة، إذ تحاول المجموعات الفئوية -العرقية أو الدينية أو القبلية- حماية نفسها، وتقوية هوياتها الفرعية، لكنَّها في النهاية تنزلق في النزاع المسلح. ومن ثَمَّ، حتى إن كانت جميع المجموعات الفئوية -العرقية أو الدينية أو القبلية- هي قوى مسلحة محلية (داخل الدولة)، والتي لا تبغي سوى حماية أمن جماعتها الفرعية، وتعزيزها، من دون نية إصابة الجماعات الأخرى بالأذى، ومع ذلك، قد تنشب الحروب، والنزاعات المسلحة المحلية بينها، جرّاء القلق، والخوف، وضعف أو غياب الأمن الناجم عن الجو العام، والبيئة المحلية، التي تسببت في إيجادها الدولة الضعيفة، إذ إنَّ هذا الجو، والبيئة المحلية، سيكونان متشابهين مع النظام الفوضوي الدولي الذي لا يخضع للحكومة العالمية. فلو تسلّحت مجموعة من المجموعات الفئوية -العرقية أو الدينية أو القبلية- ستحذو حذوها المجموعات الفرعية المحلية الأخرى. وهذا بسبب عدم قدرة باقي المجموعات المحلية على تنوعها، من التأكد مما إذا كانت المجموعة الفرعية الأولى التي تسلّحت، سوف تستفيد من قوتها المسلحة المتعاظمة، وتستخدمها في مهاجمة الآخرين مستقبلًا أم خلاف ذلك؟ يفترض هذا القلق بشأن تأثير الجو، والبيئة الفوضوية، أنَّ الدول الضعيفة تكون متسامحة، مع وجود نظام محلي يقوي شعور الحاجة للـ “اعتمادية أو المساعدة الذاتية”، وذلك للفئات، والجماعات الفرعية المحلية المختلفة كافة، إذ يتحتم عندئذٍ أن تعتمد المجموعات الفئوية -العرقية أو الدينية أو القبلية- على ذاتها، للتركيز في المصالح الخاصة، وذلك في سبيل تعزيز فرص أمنهم، وسلامتهم، وبقائهم، وحماية هويتهم الفرعية الخاصة.
فبينما كانت الصراعات المسلحة، والحروب، والتنافس، حول تعزيز القوة الذاتية، والأمن القومي “بين الدول” تمثل التطبيقات التقليدية لمفهوم المعضلة الأمنية، فقد قدمت الصراعات القائمة على أساس الهوية “داخل الدولة” تطبيقات محلية لمفهوم المعضلة الأمنية.
يتمثل لُبّ المعضلة الأمنية، وجوهرها “محليا”، في أنَّ غالبية الإجراءات التي تتبناها مجموعة فئوية ما -عرقية أو دينية أو قبلية- من أجل رفع مكانة هويتها، وتعظيم أمنها الخاص، ستؤدي بالضرورة إلى انخفاض في أمن المجموعات الفرعية -العرقية أو الدينية أو القبلية- الأخرى، وتراجع مكانة هوياتها. فمثلا، إنَّ أي مجموعة فئوية -عرقية أو دينية أو قبلية- تسعى لـِتُحسِّن وضعها في ميزان القوى المحلي، أو تعزز مكانة هويتها الفئوية، سيجري ذلك ويتم على حساب أمن المجموعات الفرعية -العرقية أو الدينية أو القبلية- الأخرى، ومكانة هوياتها، التي ستخسر جزءًا من قوتها النسبية، جرّاء تقلّص حجم حصتها في كفة ميزان القوى المحلي. وفي مثل اللعبة الصفرية هذه، يصعب على أي مجموعة فرعية، سواء كانت -عرقية أو دينية أو قبلية- أن تتمكن من تعزيز أمنها، ورفع مكانة هويتها الفرعية الخاصة، أو زيادة حظوظها في البقاء، من غير أن يهدد ذلك أمن باقي الفئات، والمجموعات الفرعية -العرقية أو الدينية أو القبلية- الأخرى، ومكانة هويتهم، وبقائهم. ومن ثم، وبشكل مؤكد لا يحتاج للمزيد من التفكير، والاستدلال، فإنَّ المجموعات الفرعية -العرقية أو الدينية أو القبلية- الأخرى، التي تشعر بالتهديد بسبب خسارتها لجزءٍ من قوتها النسبية، جرّاء تقلّص حجم حصتها في كفة ميزان القوى المحلي، ستبذل قصارى جهدها، وتعمل كل ما هو واجب ومفروض من إجراءات، وتدابير، تضمن لها البقاء، وتعزز أمنها، ومكانتها، وتُعيد حصتها السابقة في ميزان القوى المحلي، وهذه الإجراءات، والتدابير، بدورها سوف تُقلق المجموعة الفرعية -العرقية أو الدينية أو القبلية- الأولى، وتُخيفها، وتُشعرها بالتهديد من جديد. إنَّ كل هذه الأفعال، وردود الأفعال، سوف تقود إلى منافسة أمنية مستمرة، ودائمة، بين المجموعات الفرعية، تُجسّد مفهوم المعضلة الأمنية، وتعكسه، على المستوى المحلي داخل الدول الضعيفة.