ترامب يُدمّر الابتكار الأمريكي والصين ستجني ثماره

      التعليقات على ترامب يُدمّر الابتكار الأمريكي والصين ستجني ثماره مغلقة

ديفيد جي فيكتور (David G. Victor)
مجلة (Foreign Affairs)/ واشنطن
28 أيار 2025
ترجمة: د. حسين أحمد السرحان

في الأشهر القليلة الماضية، تبلورت خطة مُحكمة لضمان هيمنة الصين على المنافسة الاقتصادية العالمية، إلا أنَّ مهندسي الخطة الرئيسين ليسوا قادة الصين، بل سياسيون أمريكيون، إذ إنَّ تحديد إدارة ترامب للوكالات الفيدرالية، تقوض قدرة الولايات المتحدة على الابتكار، وهو المحرك الرئيس لنموها الاقتصادي. وتُصعّب سياسات الهجرة المُعادية، على الشركات، والصناعات، والجامعات الأمريكية، جذب أفضل الأفكار، والمواهب من جميع أنحاء العالم، والاستفادة منها لتعزيز ازدهار أمريكا. وتُثير التهديدات الجامحة بفرض رسوم جمركية، وقيود على سلاسل التوريد الأجنبية، مخاوف المستثمرين، الذين بدأوا يُجمّدون رؤوس أموالهم، ويبحثون عن فرص جديدة بعيدًا عن الفوضى. في غضون ذلك، تزداد الصين تنافسية في المجالات التي تُعيقها الولايات المتحدة.
تحتاج واشنطن إلى إعادة اكتشاف قيمة الابتكار، فكل مجال من مجالات النمو الاقتصادي المستقبلي، الذي تستعد الولايات المتحدة للريادة فيه، مثل: البرمجيات، والذكاء الاصطناعي، وحفر آبار النفط والغاز، والروبوتات، وإنتاج المركبات الكهربائية – يعتمد على ابتكارات يستحيل رعايتها، من دون دعم موثوق، وطويل الأمد، من الحكومة الفيدرالية. كان كلا الحزبين السياسيين الأمريكيين، يعدَّان الاستثمار العام في التعليم، والتدريب، والابتكار، أساسيًا لازدهار البلاد في المستقبل. أمَّا اليوم، فلا يفهم أيٌّ من الحزبين هذه الرؤية، أو يدعمها بشكل موثوق، بل يتبنون سياسات ثنائية الحزب، تهدف إلى تقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين، ويتحدون لمهاجمة بكين، مما يدفع بقية العالم نحو اعتماد أكبر عليها.
إنَّ عزل الاقتصاد الصيني عن الغرب سيفشل، وليس أمام واشنطن خيار سوى المشاركة في اقتصاد معولم، لم يعد بإمكانها السيطرة عليه منفردةً. لقد أنفقت الولايات المتحدة عقودًا، وتريليونات الدولارات، لبناء أفضل نظام ابتكار في العالم، وقد أصبح هذا النظام بدوره، المصدر الرئيس لقوتها الاقتصادية، والعسكرية. وإنَّ تجريدها من بعض امتيازاتها، سيكون بمنزلة انتحار، في وقت تسعى فيه الصين إلى بناء جهاز ابتكار ينافس الولايات المتحدة.
خدعة بسيطة واحدة
عندما تكون الاقتصادات في متوسط عمرها، سيكون لديها العديد من الطرق للنمو. بعض الاقتصادات فيها جمهور واسع من العاملين ذوي الأجور المنخفضة في الحقول، والمصانع، في حين تستغل اقتصادات أخرى الموارد الطبيعية. ومع ذلك، بمجرد أن يكون الاقتصاد تام النمو، لا توجد سوى وصفة واحدة يمكن الاعتماد عليها، لتحقيق استدامة في النمو، وهي الابتكار. وبعد أن تصبح الموارد الطبيعية، والعمالة، قليلة، وأكثر كلفة، يؤدي الابتكار إلى تحقيق المزيد بموارد أقل. منذ الحرب العالمية الثانية، كان ربع النمو الاقتصادي الأميركي، في الأقل، بفعل الابتكار، الذي جعل من الممكن للاقتصاد أن يعتمد على رأس المال، والعمالة، بفعالية.
الاقتصاد الأميركي هو مثال أساسي لوصفات تغيّر النمو طوال الوقت. في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، نمت الدولة بفعل قطع الأشجار، وتوسعت لتحتل الأراضي الغربية، وحشد أعداد هائلة من العمال (بما في ذلك المهاجرين والناس العبيد) في الزراعة، ثم في المصانع. وعندما تراجعت مساحات الأراضي، والعمالة الرخيصة، في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ الابتكار يملأ الفراغ. وبعد أن تحرك الاقتصاد الأميركي نحو التصنيع، ساعدت الابتكارات مثل شبكات الطاقة الكهربائية – التي تم تطويرها على مدى عقود من الاستثمارات، والتطوير والبحث، والتي غالبًا ما كانت مدعومة بتمويل حكومي– في توسع الناتج الصناعي للولايات المتحدة. ومع تحول الاقتصاد إلى التركيز في الخدمات، والتي تشكّل اليوم حوالي (80%) من الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة، ساعدت الابتكارات الكبيرة، في مجال الكومبيوتر مثلًا، على المحافظة على القدرة التنافسية للبلاد.
القصة الكاملة لكيفية تشكيل الابتكار للاقتصادات معقدة، لكن نظام الابتكار الناجح دائما يتضمن ثلاثة عناصر رئيسة: الأول، الابتكار ينشئ قنوات للأفكار الجديدة، ويغذيها. الولايات المتحدة قادت الابتكار على مدى عقود، بسبب دعمها الفيدرالي الكبير للبحث، الذي بدأ خلال الحرب العالمية الثانية. الأموال من واشنطن، ويتم انفاقها من قبل الجامعات البحثية، والمختبرات الوطنية، والمؤسسات، ويتم دمج الأفكار، وتحويلها إلى شركات تعمل على تعزيز النمو، والقدرة التنافسية. ويدخل القطاع الخاص لتكملة التمويل الفيدرالي للبحث والتطوير، ولاسيَّما في الصناعات، مثل: التكنولوجيا الحيوية، والحوسبة. مع ذلك في كل صناعة تقريبا، اعتمدت الابتكارات الأكثر تأثيرًا في الولايات المتحدة خلال العقود الثمانية الماضية، على التمويل الحكومي، وذلك لأنَّ الحكومة الفاعل الأكثر صبرًا، وموثوقية، ومستعد لتحمل المخاطر في سبيل المصلحة العامة.
هذا النظام التمويلي الفيدرالي عمل بشكل جيد، كونه دمج الموارد الحكومية الهائلة بالرؤية المستقرة نسبيا. فضلًا عن ذلك، لقد اثبتت الحكومة قدرتها في تحديد الطريقة الأفضل لتخصيص تلك الموارد. حتى مع الحزبين السياسيين الرئيسين في الولايات المتحدة، المختلفين حول الحجم المثالي، ودور الحكومة، اتفقا على الاهمية الكبيرة في دعم الابتكار. عندما حاولت إدارة ريغان خفض الانفاق الحكومي، على سبيل المثال، بقي الدعم الفيدرالي للبحث والتطوير كبيرًا ولم يتغير. وحتى خلال فترة رئاسته الأولى، عندما اقترح دونالد ترامب ميزانيات تتضمن خفض تمويل البحث والتطوير، فإنَّ المشرعين الديموقراطيين، والجمهوريين، أعادوا الأموال والتمويل، للحفاظ على نظام ابتكار وطني سليم.
يبدو أنَّ الاستمرارية في هذا التوجه نفسه، أقل بكثير في فترة رئاسته الثانية. فاختار الجمهوريون التحالف مع الرئيس لخفض دور الحكومة، وتقليص الميزانيات، ومن ضمنها الابتكار. والديمقراطيون، متأثرون بخسارتهم في الانتخابات، يبدو أنَّهم أكثر اهتمامًا بتمويل الأولويات الأخرى غير العلوم. فقط في الاشهر القليلة الماضية، مع اشراف محدود جدا من الكونغرس، انخفض التمويل الفيدرالي للابتكار بشكل حاد. ألغت الإدارة الأميركية حوالي ألف منحة مقدمة من قبل المعاهد الوطنية للصحة، الممول الوطني الاكبر للأبحاث الطبية، ومن المقرر أن يتم إلغاء المزيد من المنح في المستقبل. وبلغت التخفيضات مستويات خطيرة، حتى أنَّ مختبرات الأبحاث البيولوجية الممولة فيدراليا، بدأت تقتل الحيوانات المستخدمة في أبحاث موضوعات مهمة، مثل: سلامة الأدوية الجديدة، وتأثير التلوث على العمال. وقد شهدت الجامعات البحثية الرائدة في البلاد، تمويلًا فيدراليًا مخصصًا لأمور لا علاقة لها بالبحث العلمي.
كيفية تفجير خط الأنابيب؟
لقد أدت هذه الفوضى التمويلية، إلى تعريض العنصر الرئيس الثاني لنظام الابتكار الفعَّال، للخطر ولاسيَّما الأشخاص. العلم هو مشروع مليء بالأمل، ويتميز بالتأخير في تحقيق النتائج. العالم النموذجي، بعد الحصول على درجة البكالوريوس، يقضي أربع إلى ست سنوات في تدريب الدكتوراه، يتبعها سنوات قليلة ما بعد الدكتوراه، والعمل بأجر زهيد.
عندما تنضب المنح، ينضب أيضًا حماس الأشخاص الموهوبين الذين يسعون إلى الابتكار. منذ آخر شباط الماضي، اضطرت المختبرات الجامعية، والحكومية، غير المتأكدة من تمويلها المستقبلي، إلى تسريح العاملين. ويقع العبء الأكبر من هذا الغموض، على عاتق العلماء الشباب، ويلوح الآن احتمال كارثي لضياع جيل من العلماء في الأفق، مهددًا نظام الابتكار في البلاد.
ما يزيد من حجم الخسارة، هو عداء الحكومة الأميركية للأجانب، ولاسيَّما الصينيين. إنَّ نجاح نظام الابتكار الأميركي، جعله يتعمد بقوة على المواهب المستوردة، لتولي العمل الميداني في الأبحاث، والعلوم. لم تنتج المدارس العليا، والجامعات الأميركية، ما يكفي من العلماء الناشئين، والمهندسين، لرفد نظام الابتكار بالكامل، وللحفاظ على التفوق البحثي للولايات المتحدة، يتعين على البلاد استقطاب المواهب الأجنبية. في جامعة كاليفورنيا، سان دييغو، حيث يعمل الكاتب، حوالي (5%) من خريجي البكالوريوس، و(25%) من طلبة الماجستير في الهندسة، و(45%) من طلبة برنامج الدكتوراه في الهندسة، هم ليسوا من مواطني الولايات المتحدة. وفي جميع أنحاء الولايات المتحدة، يأتي حوالي نصف طلاب الدراسات العليا، في مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، من بلدان أخرى؛ وفي الهندسة، يوجد ضعف عدد طلاب الدراسات العليا الأجانب، مقارنة بالمواطنين الأمريكيين، والمقيمين الدائمين.
يحتاج نظام الابتكار الأميركي إلى أفضل المواهب الأجنبية، وحتى وقت قريب، كان يحصل ذلك. في عام (2023)، صنفت دراسة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنميةOECD الولايات المتحدة، كأكثر مكان جاذب لطلبة الجامعات الأجنبية للدراسة، ومن بين جميع الطلاب الدوليين في العالم، يأتي (15%) منهم إلى الولايات المتحدة، وهي النسبة الأكبر بين جميع دول العالم. والصين كانت الموّرد الأهم للمواهب العلمية للولايات المتحدة، وطوال العقد الأول من القرن الحالي، وخلال أي عام، درس تقريبا (400.000) من الطلبة الصينيين في الولايات المتحدة، وأغلبهم في مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات، بالمقابل درس (12.000) من العلماء الشباب الأميركيين، والمهندسين، في الصين. وخلال جائحة كوفيد-19، انخفض عدد الصينيين الذين استمروا بالدراسة في الجامعات الأميركية، إلى (300.000) ألف طالب. مع ذلك، ثمة دلائل تشير إلى أنَّ هذا التبادل الحيوي آخذ في التلاشي. فعلى سبيل المثال، يشهد التأليف المشترك للأبحاث في العلوم، والهندسة، بين العلماء الأمريكيين، والصينيين، تراجعًا بطيئًا منذ عام (٢٠٢٠).
تحتاج الولايات المتحدة إلى تقليل اعتمادها على المواهب الصينية في أي سوق، فإنَّ الاعتماد المفرط على أي مصدر واحد للمواهب، هو في أغلب الأحيان صفة لانعدام الأمن. لكن هذا الأمر سيستغرق بضعة أجيال، حتى يتم إعادة التوازن إلى مساهمة الطلبة الصينيين في الأبحاث الأميركية. وفي الوقت نفسه، أصبح مضايقة المواطنين الصينيين، بما في ذلك العلماء، على الحدود الأميركية، وفي المؤسسات، أكثر انتشارًا، وهي الظاهرة التي دفعت الأسر الصينية، إلى أن تكون أكثر حذرًا بشأن إرسال أبنائها إلى الولايات المتحدة. إنَّ مثل هذا الأمر، سيكون بمنزلة كارثة بالنسبة لجامعات الأبحاث الأمريكية، وهدية للجامعات المنافسة عالية الجودة، التي تدرس باللغة الإنجليزية في أستراليا، وكندا، وهولندا، والمملكة المتحدة. ويتبنى منافسو الولايات المتحدة، وحلفاؤهم، سياسات جديدة لجذب العلماء الأجانب، مثل: تعزيز فرص العمل، وتأشيرات الدخول. في غضون ذلك، تُكثّف إدارة ترامب جهودها للحدّ من التحاق الطلاب الدوليين بالجامعات الأمريكية، في الوقت الذي تعمل فيه إدارة ترامب على تكثيف الجهود، للحد من تسجيل الطلاب الدوليين في الجامعات الأمريكية.
هدم الجدار
العنصر الرئيس الثالث لنجاح نظام الابتكار الأميركي، هو قدرته على الوصول للأسواق الكبيرة. لأنَّ الابتكار يسعى إلى تعزيز الإنتاج مع مدخلات أقل، وأنَّه يستفيد بشكل دائمي تقريبًا من الحجم. توفر الأسواق الكبيرة فرصًا كبيرة وبشكل تراكمي للابتكار، الذي يجعل المنتجات أفضل عن طريق التجربة. في مجال تكنولوجيا الطاقة النظيفة، على سبيل المثال، كانت عولمة الأسواق بمنزلة حافز للتقدم. والابتكارات المبكرة في مجال الطاقة الشمسية، المدعومة من قبل الولايات المتحدة، واليابان، في مجال الطاقة الشمسية في سبعينيات القرن الماضي، في محاولة لتقليل الاعتماد على النفط المستورد، ساعد في جعل الطاقة الشمسية قابلة للتطبيق، في عدد قليل من التطبيقات المتخصصة, في العقد الأول من هذا القرن، دعم من الحكومة الالمانية (التي كانت حريصة على خفض الاعتماد على الطاقة النووية، والطاقة المستوردة، وبناء الصناعات المحلية مع خفض الانبعاثات أيضًا)، اوجدت سوقًا كبيرة أخرى للطاقة الشمسية. ومع نمو الأسواق الألمانية، والعالمية، قاد الابتكار لتوفير أداء أفضل للألواح الشمسية، وبعدها وصلت حدود صناعة الطاقة الشمسية إلى الصين، حيث الابتكار الهائل في التصنيع، قاد إلى انخفاض التكاليف بشكل أكبر، وأسهم في جعل الطاقة الشمسية أكثر تنافسيةً مع الفحم، والغاز. على مدى عقود، سمح هذا النهج العالمي للألواح الشمسية، التي كانت في السابق تقنيةً هامشية، بأن تصبح أرخص وسيلة لتوليد الكهرباء في أماكن كثيرة. ولكن كما جسّدت صناعة الطاقة الشمسية فوائد الأسواق العالمية، فإنَّها تُظهر الضرر الذي يمكن أن يُلحقه الانكفاء، والانعزال، بالابتكار التكنولوجي. فارتفاع الرسوم الجمركية، واختناقات سلاسل التوريد، الناتجة جزئيًا عن سياسات التجارة الفوضوية، تُؤدي إلى ارتفاع تكاليف الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أنَّ سياسات نقل الطاقة إلى الداخل، قد تُسهم في نهاية المطاف، في زيادة إنتاج الطاقة الشمسية في الولايات المتحدة، إلا أنَّه حتى عام (٢٠٢٣)، كان حوالي (٨٠٪) من المعدات المستخدمة في مشاريع الطاقة الشمسية الأمريكية، مستوردة من الصين.
الآن يخشى المستثمرون الإلغاء التعسفي لمشاريعهم، ففي نيسان الماضي، على سبيل المثال، أوقفت إدارة ترامب مشروع طاقة الرياح البحرية، لشركة إكوينور العملاقة للطاقة في نيويورك، والذي كان قد تمت الموافقة عليه سابقًا. وبعد شهر، تراجعت عن القرار بعد أن ضغطت على ولاية نيويورك، لمنح الضوء الأخضر لمشروع خط أنابيب غاز طبيعي غير ذي صلة؛ وبحلول ذلك الوقت، كان الضرر الذي لحق بمصداقية العقود الأمريكية، قد وقع بالفعل. تعتمد الطاقة النظيفة على الاستثمار، مما يفسر أنَّ هذه المخاطر التي يتعرض لها المستثمرون، وفقًا لخدمة بلومبرغ للتتبع، هي سبب تأجيل أو تجميد نصف المشاريع المخطط لها، لبناء مصانع لتكنولوجيا الطاقة النظيفة في الولايات المتحدة.
خسارة الأرض
قد تكون المعارضة السياسية، والقانونية، المتصاعدة، قادرة على التراجع عن العديد من سياسات الإدارة الأميركية الأكثر ضررًا، لكن الإشارة إلى بقية العالم واضحة، ففي جميع المجالات، ولاسيما تلك الداعمة للابتكار، أصبحت الحكومة الأميركية بصورة مفاجئة أقل موثوقية. تحاول الحكومات الأوروبية الأخذ بهذا الواقع، ليكون حافزًا على الاصلاحات السياسية، والاقتصادية، من ضمنها زيادة الانفاق الدفاعي، وسياسة طاقة نظيفة أكثر تنسيقًا، وأقل تكاليف، واتفاقيات تجارية قادرة على الوصول إلى أسواق جديدة، و كل هذا من شأنه أن يجعل القارة الأوروبية أكثر قدرة على المنافسة.
في حين تعمل الولايات المتحدة على تقويض نظام الابتكار الخاص بها، تمضي الصين قدمًا في مسارها. في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، تبنت بكين استراتيجية للابتكار، هدفت إلى تحويل اقتصادها، ومنذ عام (2000)، زادت من انفاقها الكلي على البحث، والتطوير. وأغلب التدفقات الاستثمارية كانت عبر المؤسسات المرتبطة بالدولة، لكن دور القطاع الخاص ايضا ازداد كذلك. وعند جمع مصدر التمويل الحكومي، والخاص، في الصين، بقيت الولايات المتحدة صاحبة الانفاق الأكبر في العالم على البحث، والتطوير، لكن الصين استمرت تمضي قدمًا في زيادة تمويلها. في عام (2025)، كاد أن يكون الانفاق الصيني على البحث والتطوير، أن يفاجئ الولايات المتحدة للوهلة الأولى. في بداية عقد التسعينيات، لم تحتل برامج الجامعات الصينية، أي مستوى في التصنيفات العالمية في مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات. اليوم، وفقًا لتقارير التصنيف الأميركية، والعالمية، فإنَّ ثمانية من أصل أعلى عشرة برامج هندسية هي في الصين.
يكشف العلماء الصينيون بالفعل، عن المكان الذي يرون فيه مستقبلهم في الدراسات العليا في وطنهم. على مدى عقدين مضيا، وحوالي (95%) من طلاب الدراسات العليا الصينيين، الذين درسوا في الولايات المتحدة، مكثوا فيها للحصول على أول وظيفة لهم بعد التخرج. أمَّا اليوم، فقد انخفضت هذه النسبة إلى حوالي (80%)، ومن المرجح أن تنخفض أكثر، ربما بسرعة.
بدأ الصينيون بالعودة إلى البلد، الذي تمكن اقتصاده من تحويل الابتكار إلى انتاج. وانتقد الكثير من المحللين الذين يدرسون الابتكار، الصين بسبب تركيزها على تحسين العمليات- على سبيل المثال، إيجاد طرق أكثر كفاءة لاستخدام الروبوتات على خطوط الإنتاج – بدلاً من اختراع مفاهيم جديدة تمامًا. لكن الابتكارات العملية ساعدت في تحويل مصانع السيارات، والبطاريات، الصينية، إلى شركات رائدة عالميًا في هذه الصناعات، تمامًا كما حدث عندما بدأت صناعة الطاقة الشمسية في الصين في الازدهار. وهذه النجاحات الأقل شهرة، تقوم بدور رئيس في جعل الاقتصاد أكثر إنتاجية، وهو أمر بالغ الأهمية في ظل ندرة العمالة الماهرة، وارتفاع تكلفتها في الصين. فضلًا عن ذلك، تُعدّ هذه المفاعلات بمنزلة حجر الأساس لتقنيات أكثر ثورية. على سبيل المثال، يُعدّ مُصنّعو المحطات النووية الصينيون، روادًا عالميين في تحسين العمليات، التي تُمكّن من بناء مفاعلات نووية بتكلفة منخفضة، على الرغم من أنَّ الابتكارات الأصلية لمعظم المفاعلات التجارية الصينية، تعود إلى الولايات المتحدة. تبني الصين الآن مفاعلاتٍ أكثر من بقية دول العالم مجتمعة، عن طريق تطبيق هذه الابتكارات على نطاق واسع. واتضح أنَّ الاقتصاد لا يهتم بمن كان أولًا، بل يهتم أكثر بمكان بناء التقنيات.
من المؤكد أنَّ طفرة البحث والتطوير في الصين، تواجه رياحًا معاكسة، ولكي يُحدث الابتكار تحولًا حقيقيًا في البلاد، يجب أن يكون الاقتصاد الأوسع في حالة جيدة. تسعى بكين إلى اعتماد إصلاحات لخفض ديون الاقتصاد الصيني الهائلة، وفائض طاقته الإنتاجية، عن طريق تحقيق استقرار سوق العقارات الوطني، الذي أدت تعثراته إلى تآكل ثقة المستهلك. ومع ذلك، فإنَّ المسارات المتباينة للصين، والولايات المتحدة، واضحة.
الفوضى هي السرطان
لم يتأخر الوقت لإنقاذ نظام الابتكار الأمريكي، لكن ذلك يتطلب جهودًا متضافرة من القطاعين العام، والخاص. والجامعات تواجه هجمة التخفيضات، والتدخل الفيدرالي في برامجها البحثية. مع أنَّ الثقة بالعلم لا تزال عالية بين المتعلمين تعليمًا عاليًا، إلا أنَّها أقل بكثير لدى بقية الجمهور الأمريكي، ولا يمكن للعلماء أن يكونوا المدافعين الوحيدين عن بعضهم البعض.
المشرعون الأميركيون لم يأخذوا الابتكار جديًا على أنَّه أولوية وطنية، فقط (7%) من المشرعين داخل الكونغرس، ينضمون إلى مؤيدي التكنولوجيا المتقدمة، وهي الجماعة الوحيدة في الكونغرس التي ترسخ الابتكار. ومع ذلك، فإنَّ إحياء الدعم الحكومي للعلوم والتكنولوجيا، يتطلب أكثر بكثير من مجرد زيادة عدد الأعضاء المؤيدين للابتكار، والتكنولوجيا. وفي ظل غياب أي استراتيجية موثوقة، لتقليل اعتماد الولايات المتحدة على الصين، فإنَّ الإجماع السائد المناهض للصين، سيستمر في مكافأة السياسيين المعادين للاتصالات الأجنبية، بدلاً من المديرين القادرين على تحقيق أقصى استفادة من تلك الاتصالات.
يجب على كلا الحزبين إثبات أنَّ التمويل الفيدرالي للأبحاث، ليس مجرد هواية حزبية، بل هو مصدر قوة اقتصادية، وسياسية، طويلة الأمد. وكان لعزوف قادة الحزب الجمهوري عن الانفصال عن ترامب، للدفاع عن جهاز الابتكار الأمريكي، أثرٌ بالغ، ولكن لا يزال أمامهم وقتٌ لتغيير مسارهم، عن طريق الاستماع أكثر إلى قادة الأعمال – الذين يجب عليهم أنفسهم تنظيم صفوفهم للدفاع عن قوة الاقتصاد على المدى الطويل، وليس فقط الدفاع عن أولويات قصيرة الأجل، مثل التخفيضات الضريبية.
يجب على الراغبين في إنقاذ أجندة الابتكار الأمريكية، ألّا يرتكبوا الخطأ نفسه الذي ارتكبه مهندسو العولمة. فالابتكار الناجح غالبًا ما يُسبب اختلالات في كيفية توزيع الغنائم، وعندما تشعر قطاعات مهمة من البلاد بالتخلف عن الركب، فقد تنقلب على الابتكار نفسه. وبينما يعمل قادة الولايات المتحدة على تعزيز الابتكار، يجب عليهم الاستجابة لهذه الاختلالات، بإجراء تعديلات للحد من الدور الهائل للصين كمورد عالمي. في بعض الحالات، سيكون من الضروري فرض قيود طوعية منسقة بعناية على الصادرات، مثل البطاريات من الصين إلى الولايات المتحدة، والسيارات من الصين إلى أوروبا. في الوقت نفسه، يجب على القادة الأميركيين أيضًا، إيجاد سبل للحفاظ على الترابط الوثيق، بين محركي الابتكار في الولايات المتحدة، والصين، عن طريق تشجيع التعاون العلمي في مجالات آمنة، من غير المرجح أن تثير مخاوف تتعلق بالأمن القومي- وهو أمر يُفضله بالفعل كبار العلماء الصينيين، والأمريكيين.
تُحرز الصين تقدمًا كبيرًا في مجال الابتكار. في الوقت الحالي، لا تزال الولايات المتحدة رائدة العالم، بفضل جهاز الابتكار الاستثنائي الذي بنته بشق الأنفس منذ الحرب العالمية الثانية، ولن يكون الدفاع عنه سهلاً، وإنَّ إعادة بنائه من الأنقاض سوف يكون أصعب.
رابط المقال الأصلي:
https://www.foreignaffairs.com/united-states/trump-killing-american-innovation