
أ.م.د. فراس حسين علي الصفار
جامعة كربلاء/ مركز الدراسات الاستراتيجية
تموز/ 2025
يعدُّ تجمع الناس، والحشود، في أوقات المناسبات، والزيارات الدينية، من أهم عمليات إدارة الحشود، وأصعبها، نظرًا لصعوبة عملية السيطرة على تلك الحشود، لاسيَّما أنَّها تكون في أوقات محددة، وأعداد الزائرين يكون كبيرًا جدًا، يصعب معها السيطرة، والتنظيم. ومن أجل ذلك، لا بدَّ من وجود التخطيط، والتنظيم، والتنفيذ، والتحكم، في هذه المجموعات من الأشخاص، عن طريق تطبيقات إدارة الحشود، لتقليل الزحام، والحوادث، والأمراض، التي قد تصاحب تلك التجمعات البشرية.
إذ يمكن عن طريق استراتيجية إدارة الحشود، إيجاد بيئة آمنة، وملائمة، لإدارة الحشود، مما يسهل عملية أداء الزيارة، والمناسك العبادية، ومن ثم يصبح مكان تجمع الحشود مكانًا فعَّالًا، قادرًا على تقديم أفضل التسهيلات الممكنة، وتلافي أي حدث طارئ في الوقت المناسب.
من أجل تحقيق كل هذا، يجب على كل مدينة دينية، تطوير استراتيجية شاملة لإدارة الحشود، بما يلائم طبيعة الزيارة، وأعداد الوافدين لها، لخلق بيئة مناسبة تستوعب أعداد الوافدين. وتشتمل هذه الاستراتيجية على مجموعة من الخطط العملية، التي تستند إلى معلومات سابقة عن أعداد الزائرين، بما يتعلق بالحشود، وتحاكي توقعات أعدادها للسنة الحالية، مع مرونة في حال كانت الأعداد أكبر من المتوقع، مع وضع خطط منظمة، ومفصلة، عن الحالات الطارئة المتوقعة، في الجانب الطبي، والأمني، والخدمي، ولاسيَّما نقل الوافدين إلى داخل المدينة الدينية، والخروج منها بعد إتمام الزيارة، لغرض السيطرة على الوافدين، وتقديم أفضل الخدمات لهم. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، يجب تنفيذ تقنيات إدارة الحشود، بناءً على تعليمات، وخطوات مدروسة.
لنتأمل الوضع الذي تواجهه مدينة كربلاء المقدسة، في المناسبات الدينية المتعددة، كزيارة عرفة، وزيارة العاشر من محرم الحرام، وأربعينية الامام الحسين (عليه السلام)، إذ تشهد المدينة توافد ملايين الزائرين من مختلف دول العالم، فضلًا عن الزائرين من محافظات القطر الأخرى، لأداء مراسيم الزيارة للإمام الحسين (عليه السلام)، وأخيه أبي الفضل العباس (عليه السلام)، والحال مشابه في المدن الدينية الأخرى. إذ تعاني المدينة من نقص واضح في الخدمات العامة، على الرغم من الجهود الكبيرة التي تقوم بها الحكومة المركزية، والحكومة المحلية، والعتبات المقدسة، في مختلف جوانب القطاعات المختلفة. وعلى الرغم من أعداد المتطوعين من أبناء المحافظة، والمحافظات الأخرى، التي تسعى إلى تقديم أفضل الخدمات للزائرين الوافدين، فضلًا عن فتح أغلب دور المواطنين في المحافظة، لإسكان الوافدين، وإطعامهم، إلا أنَّ زيادة أعداد الوافدين، وقلة التنظيم نتيجة عدم التنسيق العالي بين الجهات الحكومية، والشعبية، ينعكس على جودة الخدمات المقدمة. مثلًا خلال الزيارة الأخيرة، عانت المحافظة بشكل كبير من انقطاع مستمر في التيار الكهربائي، في مجموعة من المناطق في المحافظة، نتيجة الضغط العالي على الشبكة المحلية، والتي تفوق قدراتها، على الرغم من أنَّ أغلب المناطق تشتمل على محولات جديدة، وذات قدرات مناسبة، إلا أنَّ زيادة الوافدين بأكثر من المتوقع، لاسيَّما في مركز المدينة القديمة، كان له الأثر الشديد في تقديم الخدمات المتعلقة بالكهرباء، كما أنَّ هناك مشكلة سوء تنظيم توزيع الطعام، بسبب عدم التنسيق بين الجهات الشعبية، والمواكب الخدمية، ما يولد فائضًا كبيرًا أو نقصًا شديدًا بين المناطق. فتلاحظ هناك هدرًا شديدًا في الطعام، في أماكن خارج المدينة القديمة، والعكس في داخل المدينة القديمة (عدم وجود وفرة بالطعام)، على الرغم من أنَّ أعداد الوجبات الغذائية التي تقدمها العتبات المقدسة، والمواكب الخدمية داخل المدينة القديمة كبيرة، إلا أنَّها لا تتمكن من سد النقص الحاصل في الطعام. كما أنَّ الوضع الصحي للوافدين يحتاج إلى عناية خاصة، إذ إنَّ النقص واضح في الخدمات الصحية، على الرغم من جهود وزارة الصحة، والحكومة المحلية، والعتبات المقدسة، عن طريق المفارز المنتشرة في عموم المحافظة، وعلى طول الطرق المؤدية إلى المحافظة، إلا أنَّها لا تستطيع تلبية الاحتياجات الصحية، لاسيَّما الحالات الطارئة، مع وجود العديد من المستشفيات المتنقلة، والاسعافات الفورية، التي تتوفر بأعداد جيدة نوعًا ما. وتعدُّ مشكلة النقل هي المشكل الأساسية للزائرين، والتي تعدُّ الأعقد على الرغم من جهود الحكومة المحلية، في توفير كراجات كبيرة وعلى مختلف محاور المحافظة، إلا أنَّ أعداد الزائرين دائمًا بارتفاع مستمر، وأنَّ أغلب الوافدين من خارج العراق، يستقرون في كربلاء لأكثر من أسبوع، مع التوجه لزيارة المراقد المقدسة، لاسيَّما في النجف الأشرف، والكاظمية المقدسة، وسامراء، في أيام وجودهم في كربلاء المقدسة، أي إنَّ الزائر الواحد يتنقل من كربلاء، وإليها، لأكثر من مرة واحدة، ما يولد زخمًا، وزحامًا شديدًا. وعلى الرغم من جهود العتبات في توفير السيارات، ووسائط النقل، وجهود جميع الوزارات في العراق، إلا أنَّها تبقى المشكلة الأصعب. وعلى الرغم من أنَّها في تحسن كل سنة، لكن ما زالت مشكلة معقدة نوعًا ما.
ويمكن ايجاز أهم ما يمكن تحسينه، في مجال إدارة الحشود خلال المناسبات الدينية في محافظة كربلاء المقدسة، بما يأتي:
1- تتطلب إدارة الحشود جهود المسؤولين، لتحديد التخطيط، والتنظيم، والتوجيه، والتنسيق، والإشراف، والتتبع، والتقييم، فيما بينهم، لإدارة الحشود، وتطبيقه، لاسيَّما في المناسبات الدينية.
2- أهم شيء يفعله المخططون في إدارة الحشود، هو تحديد المخاطر المحتملة، وتقييمها، ووضع الخطط لكل حدث محتمل، وتأثيره، ومحاولة منع حدوثه.
3- يتيح العمل الجماعي للأفراد، اكتساب المزيد من الخبرة، والقوة، للتنسيق بينهم، وتحديد المسؤوليات، والوظائف، عند تنفيذ هذا النشاط. ومن ثم يسهل على الحكومة المحلية، التنسيق، والسيطرة، في عملية إدارة الحشود، كما يختلف السلوك الفردي من شخص لآخر، لذا فإنَّ دراسة السلوك الفردي، يمكن أن تمنع السلوك العدواني الجماعي، والسيطرة عليه، والحد من آثاره السلبية.
4- الالتزام باستخدام التكنولوجيا الحديثة، المتمثلة بكاميرات المراقبة، وأجهزة الاستشعار عن بعد، وغيرها من أنظمة المراقبة، والمراقبة الحديثة، لمراقبة الأفراد، وتحقيق أفضل نتائج في إدارة الحشود.
5- توفير دورات تطويرية حول إدارة الحشود، تسهم في رفع الوعي العام لأبناء المحافظة، والوافدين من داخل العراق، وخارجه، للتعريف بأهمية الموضوع، وتسليط الضوء حول الاستراتيجية المحلية للمحافظة، للتعامل مع الحشود في الوضع الطبيعي، والوضع الطارئ.
6- إنَّ إدارة الحشود في المناسبات الدينية، لاسيَّما في محافظة كربلاء المقدسة، تحتاج إلى تحقيق التنظيم، وتحديد الشروط، والأمان، والعوامل السياسية، والاجتماعية، واستخدام التطبيقات الحديثة، أو الوسائل التقنية، عن طريق استخدام أحدث الطرق التكنولوجيا، لتوضيح أفضل استراتيجية يمكن استخدامها في الواقع العملي، نظرًا لأنَّ الوضع الحالي في مدينة كربلاء المقدسة، يحتاج لاستراتيجية أكثر شمولية، لإدارة الحشود في المدن المقدسة، قبل الزيارة، وأثناءها، وبعدها، بما يخلق بيئة ملائمة من حيث الخدمات، والأمن، والانسيابية، للوافدين من داخل العراق، وخارجه، فضلاً عن أبناء المحافظة.
7- مدى توفر التقنيات الحديثة، ووسائل التكنلوجيا المتقدمة لإدارة الحشود، بما يخدم السيطرة، والتنظيم، والمرونة، في التعامل مع الحشود، فضلًا عن وجود تطبيقات الموبايل، التي تحدد أماكن السكن، والطعام، في المدينة القديمة، والمحاور الثلاثة (بغداد، والنجف، وبابل)، فإنَّ أهمية تقديم الخدمات للزائرين الكرام، تتجلى عن طريق توفير الراحة، والانسيابية في الحركة، وسهولة الوصول للأماكن المقدسة، وتحديد المواعيد للمواكب الحسينية في دخول الحرم الشريف، وتحديد مواقع الخدمات الصحية، وغيرها.
8- يعدُّ موضوع الخدمات من الموضوعات المهمة لإدارة الحشود، لاسيَّما توافر الماء الصالح للشرب، وخدمات الصرف الصحي، وخدمات البلدية، وغيرها من الأمور المهمة جداً، والتي تمَّ السيطرة عليها خلال السنوات الأخيرة، وإنَّ النقص فيها يكون وقتيًا، وأنَّ الخطط الموضوعة لها كانت تعالج أي خلل في هذه الخدمات، لاسيَّما نقل النفايات إلى أماكن محددة في المدينة القديمة، ومن ثم نقلها للأماكن المخصصة لها. فيما عدا موضوع الكهرباء، والذي يعدُّ من الموضوعات المهمة، وعلى الرغم من استثناء المحافظة من القطع المبرمج للكهرباء، إلا أنَّ الضغط على المحولات الكهربائية في بعض مناطق المدينة القديمة، كان له الأثر خلال السنة الأخيرة، على تلك المناطق المحدودة، مقارنة بتوفرها، وعدم انقطاعها، في أغلب المناطق، وتحتاج إدارة الكهرباء في المحافظة، تحديد تلك المناطق، ومعالجتها، بناءً على بيانات السنة السابقة، مع إضافة محولات إضافية، أو توسعة حجم المحولات الحالية، مع ضبط عملية التجاوز على الشبكة الوطنية اثناء فترة الزيارة، عن طريق الربط دون موافقات الجهات المختصة، إذ يؤدي هذا الأمر إلى ضرر بالوافدين، فضلاَ عن ضرر لأبناء المناطق تلك، لانقطاع التيار الكهربائي نتيجة تلك التجاوزات، وهو من الأمور المهم التي يجب مراعاتها في المناسبات الدينية.
9- يعدُّ موضوع توفير الطعام، والسكن للزائرين، من الموضوعات المهمة، ولا يعاني من نقص شديد، بل بالعكس هناك وفرة في أغلب مناطق المحافظة، وقد يفوق أعداد الزائرين في بعض الأحيان. وإنَّ النقص فيه يكون محدودًا وفي مناطق قليلة جدًا، ولوقت قصير جدًا، إذ إنَّ مرونة استجابة أبناء المدينة تكون سريعة، وتغطي أي نقص في أقرب وقت، وهو ما يدل على الدور المهم، والمفصلي، لأبناء المحافظة، وأبناء المحافظات الأخرى، في توفير السكن، والطعام. ونقترح تنظيم هذا الموضوع، عن طريق توفير استراحات كبيرة على طول الطريق إلى محافظة كربلاء المقدسة، وفي المحاور المختلفة، تحتوي على أماكن لتقديم الطعام، تشترك بها مجموعة من المواكب، يتم التنسيق بينها لتلافي التبذير، والنقص في الطعام، وتحتوي ايضاً أماكن للاستراحة، ومجمعات صحية، وخدمية، فضلاً عن قاعات لنوم الزائرين ذات طابقين معزولين للنساء والرجال، فضلاً عن مفرزة طبية. هذه المحطات ستكون محددة مسبقاً عن مواقع الGPS، فضلاً عن إمكانية استخدام تطبيقات الهواتف، لتحديد نوع الطعام، وأعداد الداخلين في محطة الزائرين، ومقدار الزخم في المحطة، ليتسنى للزائر الدخول أو التوجه إلى محطة أخرى، ويفضل أن تبعد كل محطة عن الأخرى بمقدار (2) كم، قابلة للتعديل بتقريب المسافة أو بعدها بحسب الحاجة.
10- إنَّ توفير كراجات كبيرة في محاور المحافظة الثلاثة (بغداد، والنجف، وبابل)، من قبل الحكومة المحلي، كان له الأثر المهم في تقليل الزحام، إلا أنَّه لم يستطع حلَّ المشكلة المعقدة للنقل، على الرغم من عدد الشوارع الجديدة، و(طريق يا حسين) على مختلف المحاور، إلا أنَّ مطلب انجاز الدوارات الحلقية الثلاثة في المحافظة، يمثل الحل القريب للمشكلة، والاعتماد على القطارات، والمترو، وافتتاح مطار كربلاء الدولي، واستخدام التقنيات الحديثة بالنقل، لاسيَّما توافر المحطات في مختلف أرجاء المحافظة، وتفعيل النقل الجماعي، وتحديد أوقات الوصول، والمغادرة في المحطات، يعدُّ الحل الأمثل لمشكلة النقل، واستيعاب أي زيادة مفاجئة في الوافدين، أو الازدحام الناتج عن تأخر وصول وسائل النقل المختلفة، في محور من محاور نقل الزائرين.