
م.م واثق علي جابر
قسم الدراسات السياسية
أرمينيا، وأذربيجان، دولتان جارتان من دول جنوب القوقاز، وهما من دول الاتحاد السوفيتي السابق, تأسست هاتان الجمهوريتان بعد تفكك الاتحاد السوفيتي, وقد حصلت جمهورية أرمينيا على الاستقلال في 21 /9/1991, أمَّا جمهورية أذربيجان فقد حصلت على استقلالها في 30/8/1991. ويعدُّ الصراع بين أرمينيا، وأذربيجان، حول إقليم “ناغورني قره باغ”، الأطول في منطقة القوقاز، إذ تعود جذور هذا الصراع إلى أوائل القرن العشرين, وكان آخر نزاع مسلح حدث في 19/9/2023, إذ شنَّت أذربيجان هجومًا عسكريًا واسعًا على إقليم ناغورني قره باغ، واستطاعت السيطرة عليه. وكان لروسيا دور متعدد الأوجه في هذا الصراع، فتمثل روسيا حليفًا عسكريًا مهمًا لأرمينيا، وتتمتع بالوقت نفسه بعلاقات جيدة مع أذربيجان، لذلك تسعى روسيا إلى تحقيق التوازن في مصالحها بين الدولتين. يمثل الصراع بين أرمينيا، وأذربيجان، نقطة تقاطع مصالح بين مجموعة دول روسيا، وتركيا، وإيران , وتمثّل روسيا الوسيط الضامن للاستقرار، ومنع النزاع، ولكنْ تراجع دورها لاسيَّما بعد سيطرة أذربيجان على إقليم (ناغورني قره باغ)، وانشغالها بالحرب مع أوكرانيا. وتمثل تركيا الحليف العسكري، والسياسي، المباشر لأذربيجان، وتسعى إلى زيادة نفوذها، إذ تعدّها شريكًا جيوسياسيًا، واقتصاديًا. أمَّا إيران فترفض أي مساس بحدودها مع أرمينيا، إذ ترى أنَّ أي ممر خارج سيادة أرمينيا، يمنح باكو _أنقرة أفضلية جيوسياسية، ويقطع حدودها مع يريفان نافذتها على القوقاز.
اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان
وقَّعت أرمينيا، وأذربيجان، في 8/آب/2025, اتفاقية سلام شاملة برعاية الولايات المتحدة الأمريكية في البيت الأبيض, تمثل هذه الاتفاقية نقطة تحول حاسمة في العلاقات بين البلدين، والتي تهدف إلى إنهاء حالة الصراع الذي دام لعقود حول إقليم (ناغورني قره باغ)، وفتح صفحة جديدة من العلاقات، والتعاون. وقد تضمنت اتفاقية السلام عدة بنود، تهدف لمعالجة أسباب النزاع، والتوتر، الدائم بين الدولتين، ولضمان الاستقرار بشكل دائم، منها: ترسيم الحدود بين البلدين, والاعتراف المتبادل بالسيادة، وسلامة الأراضي، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها, وحظر نشر قوات طرف ثالث على طول الحدود المشتركة، إشارة إلى روسيا، وأوروبا, وتطبيع العلاقات الدبلوماسية، والتعاون الأمني المشترك بين البلدين. ومنحت الاتفاقية الولايات المتحدة حقوقًا حصرية، لتطوير ممر (زنغزور) الذي يعدُّ جوهرة الاتفاقية، ليتحول إلى ممر استراتيجي، والذي أطلقت عليه الحكومة الأمريكية اسم (طريق ترامب للسلام والازدهار الدوليين TRIPP))).
الأهمية الاستراتيجية لممر زنغزور
ممر زنغزور، هو شريط جغرافي ضيق، يقع في جنوب أرمينيا، قلب الصراع الجيوسياسي لمنطقة جنوب القوقاز، يضم كلًا من أرمينيا، وأذربيجان، وإيران، وتركيا، وروسيا, إذ تتعدد الأبعاد الاستراتيجية لهذا الممر، مما يجعله أكثر من كونه طريق نقل, بل محور للتغيُّرات الجيوسياسية، والاقتصادية، في المنطقة. ويعدُّ هذا الممر شريانًا حيويًا، يهدف إلى ربط أذربيجان بجمهورية نخجوان، وهو إقليم أذري يتمتع بحكم ذاتي، يقع في أرمينيا، وهذا الإقليم معزول جغرافيًا عن أذربيجان, الحدود الجغرافية لهذا الإقليم من الشمال والشرق أرمينيا بطول (246) كيلومتر، إذ تعزله عن الدولة الأم أذربيجان, ومن الجنوب إيران بطول (204) كيلومتر، ومع تركيا (15) كيلومتر. فممر زنغزور بالنسبة لأذربيجان، يمثّل حلاً استراتيجيًا لمشكلة عزلة نخجوان عنها، وسيوفر هذا المرر فرصة الوصول إلى الإقليم، مما يعزز التكامل الاقتصادي، والسياسي، كما سيفتح طريقًا لوجستيًا مهمًا يربطها بتركيا, لذلك تركيا، وأذربيجان، توليان أهمية قصوى لهذا الممر. أمَّا إيران فتعدُّ هذا المرر تهديدًا كبيرًا لنفوذها، وتسعى إلى ربط أذربيجان بإقليم جمهورية نخجوان عبر أراضيها.
ممر زنغزور والتهديد الجيوسياسي والجيواستراتيجي لإيران
تنظر إيران إلى ممر زنغزور، على أنَّه تهديد وجودي لمصالحها الجيوسياسية، والجيواستراتيجية، في المنطقة, فالممر الذي يقع على حدودها الشمالية الغربية، يمثل نقطة حساسة، وخطرًا حقيقيًا، عن طريق عزلها عن القوقاز، وأوروبا. ولطالما كانت الحدود المشتركة مع أرمينيا، تمثل نافذة حيوية، واستراتيجية، لإيران نحو الشمال، إذ يوفر لها مسارًا بريًا مستقلًا، وآمنًا، للوصول إلى القوقاز، والبحر الأسود، وأوروبا, إنَّ هذا العزل لا يقتصر على الجانب اللوجستي فحسب, بل يمتد ليشمل تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة, فقد سعت إيران دائمًا إلى الحفاظ على توازن القوى في جنوب القوقاز, وكان وجودها، ونفوذها، في أرمينيا، يمثل ورقة ضغط مهمة في مواجهة النفوذ التركي- الأذربيجاني. بتفعيل ممر زنغزور تتغير موازين القوى الإقليمية، لصالح المحور التركي الأذربيجاني المدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أعربت إيران عن رفضها الشديد لمشروع ممر زنغزور، مؤكدة أنَّها ستعمل بكل الوسائل على إفشال هذا المشروع, وقد صرَّح مستشار المرشد الأعلى علي أكبر ولايتي: “أنَّ إيران ستغلق الممر الأمريكي في القوقاز، سواء بوجود روسيا أو بدونها. كما قال رئيس المكتب السياسي للحرس الثوري الإيراني، يد الله جواني، في رسالة إلى رئيسي أذربيجان إلهام علييف، والأرمني نيكول باشينيان”، ارتكبًا خطأ الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي نفسه.
إذ ترى إيران إعادة هندسة النفوذ في منطقة جنوب القوقاز، يهدد مصالحها الجيوسياسية في المنطقة، كما أنَّ إيران قلقة من أن يؤدي انتصار باكو، وفتح ممر زنغزور، إلى إحياء النزعة القومية الأذرية لدى شمال غرب البلاد، الذي يتمركز به الغالبية الأذرية، إذ يبلغ عددهم أكثر من (15) مليون نسمة, وربما يطالبون بالانفصال، والحكم الذاتي, لاسيَّما أنَّ الأذر الإيرانيين يتابعون إعلام أذربيجان، ويشعرون بالارتباط العرقي بها, كما أنَّ باكو تستخدم خطاب “توحيد الأمة الأذرية”.
وتخشى إيران من أن يؤدي اتفاق السلام، الذي عقد بين أرمينيا، وأذربيجان، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، في الثامن من آب (2025) في البيت، إلى تهديد للأمن القومي الإيراني، عن طريق تغييرات غير مرغوب بها في التوازنات الجيوسياسية في المنطقة, إذ ترى إيران أنَّ هذه التحولات، تخلق واقعًا جديدًا في ميزان القوى الإقليمية، تمهيداً لإقصاء إيران، وتهميش دورها الاستراتيجي لمصلحة تركيا، والناتو.
تسعى إيران إلى ممر بديل، وهو (ممر أرس)، الذي يربط أذربيجان بإقليم جمهورية نخجوان، ويكون بديلًا عن “ممر زنغزور”، ويقلل من المخاوف الإيرانية بشأن حدودها المشتركة مع أرمينيا، التي تعدُّها إيران ذات أهمية بالغة، كحلقة وصل مع أوراسيا، مما يسهل تجارتها مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.