
أ.م. د. علي مراد النصراوي/ قسم إدارة الأزمات
على إثر الهجوم الجوي المباغت، الذي شنَّه طيران العدوان الإسرائيلي على إيران، اندلعت الحرب ما بين الطرفين، من يوم (13) إلى (24) يونيو (2025)، والتي عُرفت بـ (حرب الاثني عشر يومًا). وعلى الرغم من المدة القصيرة لهذه الحرب، إلا أنَّها حملت مؤشرات استراتيجية واسعة، إذ إنَّ هذه الحرب قد أسفرت عن إعادة رسم موازين القوى في المنطقة، عن طريق تحولات عميقة، وهي في الاستراتيجيات العسكرية، والدبلوماسية، والعلاقات. واللافت للنظر أنَّ إيران قد أظهرت قدرة فعّالة، على الرد السريع على الاعتداءات العسكرية، ما شكّل معادلة ردع جديدة تقوم على (الموازنة بالضربة)، ومن ثَمَّ فإنَّ هذه المعادلة، أغرت كثيرين بإعادة تقدير جدوى، أي عدوان محتمل ضد طهران، كما أنَّ المؤشرات الجديدة في هذا النزاع، أنَّه جرى استخدام مكثف للطائرات بدون طيار، والصواريخ الموجهة، والهجمات الإلكترونية، ما جعل من هذه الحرب مثالاً للحروب الهجينة الحديثة، ومن ثَمَّ يُعدُّ هذا الأمر نموذجًا جديدًا للحروب، والذي بدأ يصبح القاعدة في زمن المواجهات قصيرة المدى ذات النتائج البعيدة.
الأثر الدبلوماسي
أظهرت الحرب عدة متغيرات، وارهاصات، إذ إنَّ إيران قد استثمرت عوامل المواجهة، في تعزيز صورتها كقوة مستقلة لا يُستهان بها، وبيَّنت الحرب ثغرة في التحالفات التقليدية بين الولايات المتحدة. أمَّا تركيا، ودول الخليج، فقد استفادت المنطقة من ضعف الخصوم التقليديين (إيران، وإسرائيل)، نحو تعزيز موقع تركيا، ومثال ذلك أنَّها قفزت إلى موقع بارز، بفضل وساطتها المحتملة في المفاوضات بين إيران، والولايات المتحدة، وكذلك قربها من احتمالية إعادة إدخالها إلى برنامج طائرات الـ (f35)، فضلًا عن أنَّ الأثر كان قد شمل المنطقة بأكملها، وأظهر عناصر الضعف، والقوة، والنفوذ. وبالوقت ذاته دخلت دول الخليج حالة انذار قصوى، فضلًا عن وضع العراق، والأردن، وتوقف الرحلات الجوية، وغيرها.
الموقف الداخلي في إيران
أظهرت التصريحات الإسرائيلية التي جاءت من كبار قادتها، أنَّ الهدف هو تحفيز الشعب على الثورة، والانقلاب، بحسب رؤيتهم، وقد أظهروا رغبة كبيرة في ذلك. وعلى الرغم من ظروف الحرب، فقد عززت إيران من تماسك المجتمع، ودعم الحكومة، إذ لم تؤدِ الحرب إلى فوضى داخلية كما توقع البعض، بل على العكس، استخدمت السلطات هذا التوحيد، لتعزيز رسائلها المتضامنة داخليًا، والعزيمة الوطنية، وحتى مع كثرة الخرق الداخلي، ووجود جواسيس، وعناصر للموساد بالداخل الإيراني، لم يحدث أن خرج الشعب، وتظاهر بالضد من السلطة كما توقعها العدوان، بل ظهر العكس إذ إنَّ الحرب أظهرت تماسك الشعب الإيراني. وبالوقت ذاته، وعلى الرغم من حجم الخسائر، استفادت إيران من الحرب في كشف نقاط الضعف، ومكامنها، كما أنَّ الحرب أكدّت على أنَّ الإخلال بالبنى الأساسية، بواسطة القوة الجوية، والعمليات السرية، (كالاغتيالات، والاستخبارات، والطائرات بدون طيار)، يمكنه تحقيق نتائج أكبر من التدخل البري التقليدي، إلا أنَّ هذا الأسلوب أثار تساؤلات، حول الهشاشة التي قد تولّدها مثل هذه المنهجية في الأزمات المستقبلية.
أثر الحروب في توازن القوى في الشرق الأوسط
يُعدّ موضوع توازن القوى في الشرق الأوسط، من أكثر القضايا تعقيدًا، وإثارة للجدل، في العلاقات الدولية، إذ تتداخل فيه المصالح الإقليمية مع الحسابات الدولية. فالولايات المتحدة الأمريكية تبرّر سياساتها في المنطقة، ولاسيَّما استهدافها للمنشآت النووية الإيرانية، بذريعة الحدّ من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وضمان أمن المنطقة، غير أنَّ هذا الموقف يكشف تناقضًا صارخًا، إذ تُغضّ واشنطن الطرف عن الترسانة النووية الإسرائيلية، التي تظلّ خارج أي رقابة دولية، مما يعكس انحيازًا استراتيجيًا، هدفه دعم بقاء الكيان الصهيوني، وتفوقه، وإعادة تشكيل خارطة التحالفات الإقليمية، بما يخدم مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي طالما تحدّث عنه قادة إسرائيل، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو.
من جهة أخرى، لم تُبدِ روسيا موقفًا حاسمًا، تجاه التحولات العاصفة في المنطقة، سواء في ما يتعلق بالأزمة السورية، والإطاحة بالأسد في بعض المراحل، أو خلال حرب الاثني عشر يومًا، التي شكّلت اختبارًا لموازين القوى. أمَّا الصين، فعلى الرغم من صعودها الاقتصادي، والعسكري، على الساحة الدولية، لا تزال تتعامل بحذر مع ملفات الشرق الأوسط، مفضّلة مراقبة التطورات دون انخراط مباشر، وهو ما يترك الساحة شبه خالصة للنفوذ الأمريكي، عبر دعمه غير المحدود لإسرائيل.
ختامًا، إنَّ حرب الاثني عشر يومًا قد مثّلت، نقطة تحوّل استراتيجية بارزة، إذ أظهرت أنَّ إيران تمتلك أدوات ردع لا يمكن تجاهلها، وأنَّ التحالفات الإقليمية قابلة لإعادة التشكيل، مع كل مواجهة عسكرية كبرى. كما عكست طبيعة هذه الحرب – بوصفها قصيرة نسبيًا، وتعتمد على التكنولوجيا الحديثة في الصواريخ، والطائرات المسيّرة– أنَّ مستقبل الصراعات في المنطقة، قد يتجه نحو حروب سريعة، لكن ذات آثار بعيدة المدى، ليس فقط على ميزان القوى العسكري، بل أيضًا على التحالفات السياسية، والاصطفافات الإقليمية. كما يمكن القول: إنَّ المشهد الراهن يكشف استمرار تفوّق الولايات المتحدة، وحليفها الإسرائيلي، لكنه في الوقت نفسه يبيّن أنَّ التوازن لم يعد أحاديًّا، كما كان في العقود السابقة، بل أصبح متعدد الأبعاد، مع دخول قوى، مثل إيران، وتركيا، ودور محتمل مستقبلاً للصين، وروسيا، الأمر الذي يجعل الشرق الأوسط ساحة مفتوحة، لإعادة رسم التوازنات في ضوء كل مواجهة جديدة.