الذاكرة والثقافة الشفاهية: حافظة الهوية الإنسانية

      التعليقات على الذاكرة والثقافة الشفاهية: حافظة الهوية الإنسانية مغلقة

م.م. ورود هادي شغيت
باحث مشارك في مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء
مكان العمل – جامعة بغداد/ كلية التربية للبنات

لكل مجتمع إنساني منذ وجوده على الأرض، ثقافة معينة تختلف من مجتمع إلى آخر، وهنا يأتي أثر الثقافة في تمييز المجتمعات عن بعضها البعض، من حيث طريقة اكتسابها لمعارفها، وفنونها، وتقاليدها، ومعتقداتها، فقد عرفت الإنسانية بتجلياتها المختلفة على مر العصور، ثقافتين هما: الثقافة الشفاهية، والثقافة الكتابية، فالأولى هي الثقافة التي سيتم تسليط الضوء عليها، بوصفها الثقافة البكر لدى العقل البشري.
فالشفاهية مصطلح يدل على ثقافة مجتمعات لم تستعمل الكتابة، في عملية التواصل بينها، وبين أفرادها، فهي نظام تُنقل فيها الفنون، والمعارف، والعادات، والتقاليد، عبر اللغة المنطوقة، والسمع، بوصفها وسيلة الاتصال الشفاهية، التي يتم عن طريقها التفاعل وجهًا لوجه في تلك الثقافات.
فيلحظ من ذلك، أنَّ عملية التواصل عبر السمع، هي خاصية تميزت بها الثقافة الشفاهية، فعن طريق الإدراك السمعي، يحقق الصوت وجوده عن طريق اللغة المنطوقة، فيمثل في الثقافة الشفاهية إرادة المتكلم للقول المنطوق، ومحاولة التأثير في المتلقي أو السامع.
ذكر الباحث الأمريكي والتر أونج في كتابه (الشفاهية والكتابية)، السمات الجوهرية للثقافات الشفاهية، بوصفها انساقاً معرفية متكاملة، لها خصائصها، وسماتها، التي تميزت بها، فالثقافة الشفاهية لا تنتج المعرفة بالطريقة ذاتها التي تنتجها الثقافة الكتابية، بل تعيد تشكيل اللغة، والذاكرة، والعقل، والعلاقات الاجتماعية، وفق منطق خاص بها.
ترتبط الثقافة الشفاهية بالذاكرة ارتباطاً وظيفياً، فهي تحتاج إلى خصائص تساعد على حفظ المعلومات، وتجنب ضياعها، فمن هذه الخصائص الشفاهية الأساسية التي يسوقها أونج، هي: الاعتماد على التكرار، والصيغ الثابتة، وميل النصوص إلى الإيقاع، والوزن، والتصوير البلاغي لتسهيل عملية الحفظ.
ويشير أونج إلى أنَّ الفكر الذي يرتبط بالثقافة الشفاهية، تبرزه عملية التواصل بين متحاورين أو أكثر، يعتمد على التقليد الذي يقوم على الصيغة، بوصفها وسيلة من وسائل تقوية الذاكرة، والتي تتضمن مجموعة من العبارات أو الجمل، كالأمثال في الشعر، والنثر، صيغت بصورة قابلة للتكرار الشفاهي، أمَّا في جمل متكررة أو متعارضة أو في كلمات متجانسة الحروف الأولى، أو مسجوعة أو في عبارات وصفية، أو في وحدات موضوعية ثابتة، مثل موضوع المجلس، وتناول الطعام، والمبارزة أو في الحكم، والأمثال، التي يسمعها المرء باستمرار، وترد على الذهن بسهولة، وقد صيغت بأسلوب قابل للحفظ، والتذكر السهل، والمتوازنة إيقاعيًا، بوصفها قوالب نثرية تتكون من عبارات جاهزة متوازنة، على سبيل المثال: (من نظر في العواقب سلم النوائب)، (ولك من مالك ما أنفقت ومن ثيابك ما أبليت)، فيُلحَظ أنَّها عندما يتم توظيفها في النصوص الشفاهية، تقوم بعملية العامل المساعد على التذكر، فالأمثال ترد موظفة في بيت شعري، تكون بمنزلة صيغة لغوية داخل صيغة موسيقية، فهي خاضعة للحفظ في الذاكرة، والنقل، والسمع، والتداول، وفق سياق ثقافة بيئتها الشفاهية، لأنَّ أسلوب التعبير، والتفكير، اعتمد على الصيغ المتكررة سواء كانت صيغاً شعرية أم نثرية.
فحين نضع هذه الخصائص بإزاء الأدب العربي الكلاسيكي، لاسيَّما في عصر ما قبل الإسلام، والعصر الإسلامي المبكر، نجد تقاربًا ثقافيًا، ومعرفيًا، لافتا.
كانت المجتمعات في العصر الجاهلي، حين تلجأ إلى صياغة آدابها، ومعارفها، بطريقة تُسهل عملية التذكر، والحفظ، مستغلة في ذلك الخصائص أو الأساليب المعتمدة على الإيقاع، والوزن، والتكرار، والسجع، والطباق، والمقابلة. أشار عبد المنعم الزبيدي في كتابه (مقدمة لدراسة الشعر الجاهلي) في عام (1966)، إلى شفاهية الشعر الجاهلي، وذلك عن طريق ما وجده في القصائد الجاهلية من تشابه، وتكرار، للتعابير، والصيغ، والقوالب، والمعاني، والصور، والمواقف، والمشاهد، ومن اشتراك الأبيات، وأشطار كاملة، ومن غلبة التقاليد الشعرية، وسيطرتها على نفوس الشعراء. على سبيل المثال، اشتراك البيت الشعري وهو (تبصَّر خليلي هل ترى من ظعائن)، بين أكثر من شاعر من العصر الجاهلي، وهم: امرؤ القيس، وعبيد بن الأبرص، وزهير بن أبي سلمى، يحمل الموقف، والصورة، والمعنى ذاته، بوصفه صيغة وزنية متكررة، قابلة للحفظ في الذاكرة، والتداول الشفاهي. ومن الأمثلة الأخرى، البيت الشعري المشترك بين امرؤ القيس، الذي كرره في ديوانه (4) مرات، وعلقمة الفحل وهو (وقد اغتدي والطير في وكناتها)، بوصفه صيغة وزنية أخرى مشتركة، تحمل المعنى، والمشهد، والموقف ذاته.
فتكيفت الذاكرة الشفاهية مع الطبيعة التداولية لثقافة البيئة الحاضنة لها، كثقافة البيئة الصحراوية للعصر الجاهلي، الذي تقتضي وجود الشكل الشعري القائم على وحدة البيت، واستقلاليته، فينتج عن ذلك مستوى تداولي غاية في الأهمية، وهو ملاءمة البيت الشعري لطبيعة ذاكرة الانسان، لما يحتوي على الإيقاع، بوصفه صيغة إيقاعية مساعدة على الحفظ، والتذكر، في ظل ثقافته الشفاهية المعتمدة على الذاكرة، والحفظ، والسماع. وفي مقدمة الترجمة العربية لكتاب (الشفاهية والكتابية)، يفرد المترجم حسن البنا عز الدين، دراسة بعنوان “النظرية الشفاهية وموقع الأدب العربي منها”، يدعو فيها إلى إعادة قراءة شعر ما قبل الإسلام، والخطابة، والسير، ومرويات الحديث، ضمن هذا الإطار النظري، معتبرًا أنَّ الثقافة العربية – في جذورها – شفاهية، وأنَّ كتابة التراث لم تلغِ هذا الطابع، بل حفظته في سلاسل الرواية، وإيقاع الخطاب، وأسلوب النقل