الانقسامات السياسية في إيران والمسار غير المألوف نحو اتفاق نووي جديد

      التعليقات على الانقسامات السياسية في إيران والمسار غير المألوف نحو اتفاق نووي جديد مغلقة

الكاتب: دانيال برومبيرغ/ باحث أول غير مقيم في المركز العربي في واشنطن، ومدير قسم دراسات الديمقراطية والحوكمة في جامعة جورج تاون، وباحث أول غير مقيم في برنامج دراسات الديمقراطية في الشرق الأوسط.

الناشر: المركز العربي واشنطن دي سي

تاريخ النشر: ٤ أيلول ٢٠٢٥

ترجمة: فيصل عبد اللطيف

جادل بعض المحللين بأن الهجوم الإسرائيلي الأمريكي غير المسبوق على إيران في يونيو/حزيران 2025 خلق “نظاماً إقليمياً جديداً” في الشرق الأوسط. لكن ما أنتجته ما عرف  “بحرب الأيام الاثني عشر” هو تفاقم حالة عدم الاستقرار، حيث تم زعزعة قواعد الردع التي كانت تحد من النزاع بين إسرائيل وإيران. بعد انتهاء الحرب، شعر القادة الإسرائيليون بثقة أكبر. فقرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في 21 أغسطس/آب 2025 شن هجوم “نهائي” على مدينة غزة، والهجوم الإسرائيلي على صنعاء في 24 أغسطس/آب (بعد إطلاق الحوثيين صاروخاً على إسرائيل)، والهجوم بالطائرات المسيّرة في 27 أغسطس/آب الذي أسفر عن مقتل ستة جنود سوريين قرب دمشق، والعملية البرية التي استمرت ساعتين في مخيم عسكري جنوب غرب دمشق في اليوم التالي، كل هذه الإجراءات تُظهر أن إسرائيل تستطيع استخدام قوتها العسكرية كما تشاء. ويُشكّل غياب ضبط النفس العسكري الإسرائيلي هذا تحديا جديدا لإيران، التي فقدت بالفعل جزءاً كبيراً من شبكة حلفائها الإقليميين، المعروفة بـ”محور المقاومة”. والآن، يحاول قادة إيران تحديد استراتيجيتهم القادمة. ويشمل هذا النقاش مستقبل برنامج إيران النووي، بالإضافة إلى القلق الرئيسي للنخبة الحاكمة: بقاء النظام. وستكون الخطوات التالية لإيران، التي سيتم تحديدها عبر عملية تفاوض سرية بين أفراد النخبة، لها عواقب بعيدة المدى على سياساتها الداخلية والخارجية. ومع اقتراب موعد خلافة المرشد الأعلى علي خامنئي (86 عاماً)، تصبح المخاطر كبيرة جداً.

 

إيران عند مفترق طرق؟

أدت حرب الـ 12 يوماً إلى تفاقم الخلاف العلني داخل الطبقة الحاكمة المتناحرة في إيران حول كيفية سد الفجوة بين النظام والشعب. وقد اتسعت هذه الفجوة مع فشل النظام في معالجة المشاكل الاقتصادية المتزايدة في إيران وجهوده السابقة لقمع حركة ”المرأة، الحياة، الحرية“ في عامي 2023 و 2024. بعد هجمات إسرائيل والولايات المتحدة في يونيو 2025، شن النظام حملة اعتقالات واسعة النطاق لتحديد الثغرات في أجهزته الأمنية التي تعرضت بوضوح للاختراق، لكنه استغل أيضًا القضايا القومية لتعزيز الشعور بالتضامن. وتُظهر الاعتقالات والقومية الشعبية التنافس بين ضرورة مكافحة التهديدات الداخلية وضرورة استمالة الجماهير.

من غير المرجح أن تؤدي هذه الدوافع المتنافسة إلى وضع إيران في مفترق طرق. كما في الماضي، قد يعمل المتشددون في إيران – بدعم من خامنئي – على نزع فتيل أزمة الشرعية باستخدام خطاب رنان أو بالسير في مسار خطير في السياسة الخارجية، مثل الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية أو منع الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) بشكل دائم من تفتيش المنشآت النووية الإيرانية. ومن شأن مثل هذه الخطوة أن تبشر بتحول في النظام، حيث يسعى المتشددون في الحرس الثوري الإسلامي إلى الحصول على سلطة مطلقة بدعم من خامنئي. ومن ناحية أخرى، قد يؤدي نقاش النخبة حول ”ما الذي يجب فعله؟“ إلى تشكيل ائتلاف ناجح بين الإصلاحيين والمحافظين البراغماتيين، يضم المتشددين ويتبنى منطق الانفراج على الصعيدين الداخلي والدولي.

تنافس حالياً خمس مجموعات سياسية على الأقل لتحديد مسار إيران المستقبلي: أولها الجماعات المتشددة التي تسعى إلى احتكار السلطة، وثانيها المحافظون البراغماتيون الذين يرغبون في إبقاء الباب مفتوح أمام جميع الأطراف السياسية التي تقر شرعية النظام، وثالثها الإصلاحيون الذين يسعون إلى إحداث تغيير تدريجي في المشهد السياسي، ورابعها المعارضة المسلحة التي تقف خارج النظام وتريد استبداله بنظام ديمقراطي متعدد، وخامسها المرشد الأعلى خامنئي، الذي يمثل محوراً أساسياً في المشهد السياسي الإيراني. جميع هذه الأطراف تسعى إلى إظهار قدرتها على إخراج إيران من أزمتها الحالية.

 

مسعود بيزشكيان: التوازن الصعب

يدعو الرئيس مسعود بيزشكيان وحلفاؤه الإصلاحيون إلى نهج سياسي داخلي يقوم على “الصبر والعقلانية والوحدة الوطنية”، كما صرّح في 22 يوليو/تموز 2025. ويستدعي تفضيل بيزشكيان للاتفاق على المواجهة السياسية ضرورة اتخاذ موقف متوازن ودقيق. فمن الضروري إقناع كل من حلفائه الإصلاحيين والمعارضة المتشددة – التي تنكر شرعية النظام الإيراني والفكر الرسمي للجمهورية الإسلامية – بأن سياسة التوافق هي السبيل الأمثل للتصدي للتحديات المتزايدة التي تواجهها إيران. وفي الوقت نفسه، لا يمكن لبيزشكيان أن يثير غضب المتشددين أو قوات الأمن التابعة لهم.

وفي 13 يوليو/تموز 2025، أوضح بيزشكيان موقفه هذا قائلاً: “إن من يعارضوننا ليسوا بالضرورة أعداءنا”، وأن على قادة إيران “عدم إقصاء أي فئة من الشعب بالقوة”. وبعد أسبوع، أكد مجدداً على ضرورة توسيع دائرة المشاركة السياسية سلمياً، مشيراً إلى استعداده “لفتح حوار مع المعارضة على أساس العدل والمساواة”.

كان إعلان بيزشكيان العلني لهذا الموقف مفاجئاً. اتهم نواب متشددون بيزشكيان بالتخطيط لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وذهبوا إلى حدّ اتهامه بالتآمر لقلب النظام. وكان أشد الانتقادات من ناشط متشدد على مواقع التواصل الاجتماعي سأل: “ألا يعرف الرئيس معنى كلمة ‘معارضة’؟”. ويبدو أن تعريف بيزشكيان للمعارضة غير واضح، وهو ما قد يكون خطراً سياسياً.

 

المحافظون ينقذون الموقف؟

في إشارة إلى وجود مشاكل، حاولت عدة أصوات محافظة دعم بيزشكيان من خلال الدفاع عن دعوته إلى جمع الشمل. في 21 يوليو 2025، دعا علي أكبر ولايتي، أحد أعمدة المؤسسة المحافظة ومستشار خامنئي المقرب في شؤون السياسة الخارجية، إلى تجاوز”الأساليب البالية“ التي كانت تستخدم في السابق لتحقيق الوحدة. وأضاف: ”قد يتطلب التماسك الوطني، كما أكد المرشد الأعلى، تغييرات في أولويات الدولة لإرضاء الشعب بطرق ملموسة“. وقالت وسائل الإعلام المحافظة نور نيوز إن دعوة بيزشكيان للحوار مع منتقدي النظام تمثل فرصة ’تاريخية‘ لتجاوز ”المواجهات الصفرية“.

وقد حاول المحافظون بالفعل تحسين رضا الجمهور عن النظام من خلال تأجيل تنفيذ ما يسمى بقانون العفة والحجاب، الذي من شأنه فرض عقوبات أشد على النساء الإيرانيات لظهور شعرهن أو أذرعهن أو أرجلهن. كما سحبوا مشروع قانون يجرم المعارضة على الإنترنت. على الرغم من أن هذه الخطوات من غير المرجح أن ترضي تمامًا الطبقة الوسطى الحضرية الكبيرة التي أصيبت بخيبة أمل من العقيدة الدينية للنظام، إلا أنها تشير إلى اختلافات في الرأي بين المحافظين البراغماتيين والمتشددين المطلقين داخل النخبة السياسية الإيرانية.

وبصفته الحكم الأعلى في مثل هذه الخلافات، يحتاج المرشد الأعلى خامنئي إلى الحفاظ على تحالف وثيق مع المتشددين مع البقاء في الوقت نفسه فوق صراعات السياسة اليومية. بعد حرب الأيام الاثني عشر، ربما تكون قدرته على أداء كلا الدورين – وبالتالي تجسيد سلطة المرشد ”الأعلى“ – قد ضعفت، لكن خامنئي لا يزال يبدو أنه يحاول السير على هذا الخط.

تُعدّ استجابة خامنئي لانتقادات المتشددين لبيزشكيان مؤشراً على سعي النظام إلى تحقيق التوازن. ففي 16 يوليو/تموز 2025، أدان خامنئي، بالإضافة إلى ذلك، “النزاعات الطويلة والمستعصية” (في إشارة واضحة إلى منتقدين الرئيس)، ودعا، وفقاً لما ورد، إلى “وحدة جميع الإيرانيين، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية”. وإذا كان قد استخدم هذا التعبير فعلاً، فإن اختياره للكلمات لافت، إذ يبدو أنه يتماشى مع دعوة بيزشكيان نفسه إلى عدم فرض قيود صارمة على المشاركة في النظام السياسي الحالي.

مع ذلك، ان هذا الامر لا يعني قيام المرشد بمد يد السلام الى المعارضة المتشددة. فمبدأ إشراك الإيرانيين المعارضين للنظام له تاريخ طويل. ففي أوائل العقد الأول من الألفية، أثار الرئيس السابق محمد خاتمي غضب خصومه المتشددين عندما صرّح بأن جميع الإيرانيين، بغض النظر عن أيديولوجيتهم، لهم الحق في التصويت والتعبير. ويُعدّ تكرار خامنئي لهذا المبدأ مؤشراً مهماً، فقد يُشير إلى وعيه بأنه لا يمكنه السماح بتفاقم أزمة شرعية النظام. ويبدو أن إظهار النظام التقدير العلني للرموز الوطنية والإيرانية في عاشوراء، وهو اليوم الأقدس عند الشيعة الإمامية، دليل على خوفه من استفزاز الرأي العام. ومع اقتراب موعد خلافة خامنئي، قد يجد هذا الزعيم المسن نفسه مضطراً للدفاع عن مصداقية منصب “المرشد الأعلى”.

 

مستقبل الجمهورية الإسلامية

تثير كل هذه التحديات سؤالاً مهماً: هل يمكن للنظام أن يبقى؟ الجواب هو نعم، لكن اللغز الحقيقي هو كيف سيبقى. قد تتطور الانقسامات داخل النظام في ثلاثة اتجاهات. الأول هو انقلاب يقوم فيه المتشددون المطلقون في الحرس الثوري الإسلامي وقوات الصدمة التي يقودونها – ميليشيا الباسيج التطوعية – بفرض إرادتهم من خلال الضغط من أجل تعيين مرشد أعلى جديد يسحق كل أشكال المعارضة. الاحتمال الثاني هو أن يستغل الرئيس بيزشكيان وحلفاؤه المعارضة الشعبية لزيادة نفوذهم لاحتواء المتشددين، مما يضع الإصلاحيين الإيرانيين المتنازعين في موقع يؤهلهم لممارسة بعض النفوذ في المعركة على خلافة خامنئي. السيناريو الثالث هو تسوية بين النخبة من النوع الذي شوهد من قبل في الجمهورية الإسلامية منذ ثورة 1979: تأجيل القرارات السياسية الداخلية أو الخارجية الهامة إلى وقت لاحق.

لا يزال حلم تغيير النظام في إيران قائماً في أجزاء من مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية، وبالطبع في إسرائيل. سلط نتنياهو في رسالته المصورة إلى الإيرانيين في 12 أغسطس 2025 الضوء على الجفاف الشديد الذي تعاني منه البلاد، ودعا الشعب إلى الإطاحة بالنظام. لا يعتقد نتنياهو بالضرورة أن نظام طهران سينهار بسبب أزمة المياه التي، كما يعلم الإيرانيون، هي إلى حد كبير نتاج الفساد والقصور. كان هدف نتنياهو على الأرجح هو استفزاز قادة إيران.

ورداً على ذلك، سخر بيزشكيان من دعوة نتنياهو إلى انتفاضة شعبية ووصفها بأنها ”سراب“، وأصر على أن الجمهورية الإسلامية لا تزال قوية وقادرة على مواجهة التحديات التي تواجهها. ومع ذلك، من الواضح أن بيزشكيان يخشى عزل إيران المتزايد وتضاؤل نفوذها العسكري والدبلوماسي في أعقاب الضربات الإسرائيلية والأمريكية، وهو ما أكد عليه في 13 أغسطس 2025، عندما حذر قائلاً: ”إذا لم نتحدث، فماذا نفعل؟ هل تريدون القتال؟ حسناً، سوف يضربوننا، ونحن نعيد البناء، ثم يضربوننا مرة أخرى“.

وقد ندد بعض المتشددين بوصف بيزشكيان الصريح لمأزق إيران. لكن آخرين يتفقون بهدوء مع تقييم الرئيس، رغم أنهم يعتقدون أنه لا ينبغي الاعتراف بالوضع المأساوي علناً. وحذر نائب قائد الحرس الثوري الإيراني، عزيز غزانفاري، بشكل ملحوظ من أن ”مجال السياسة الخارجية ليس مكانًا للتعبير عن كل الحقائق“. وتشير ملاحظة غزانفاري المفاجئة وغير الحذرة إلى أن بعض قادة إيران يدركون أن البلاد ستدفع ثمنًا باهظًا إذا لم يتخذوا بعض الخيارات الحاسمة قريبًا.

 

 

الرئيس ترامب وآفاق التوصل الى اتفاق نووي جديد

قد يكون برنامج إيران النووي، المثير للجدل، أول ضحية. في 26 أغسطس/آب 2025، جددت فرنسا وألمانيا وبريطانيا تهديداتها بفرض عقوبات اقتصادية فورية على إيران إذا رفضت السماح بإعادة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مواقعها بعد تعليق عمليات التفتيش عقب حرب الأيام الاثني عشر، أو إذا لم توضح مصير مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، الذي يعتقد مسؤولون أمنيون غربيون أنه تم نقله إلى موقع آخر قبل هجمات يونيو/حزيران، وهو أمر قد لا يكون حتى قادة إيران على يقين من مصيره النهائي.

 

يبدو أن هذا التهديد من الدول الأوروبية الثلاث قد لفت انتباه طهران. سمحت إيران بعودة مفتشي الوكالة، وتشير التقارير إلى أنها تفكر في خفض نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 20%، ما قد يشير إلى رغبتها في إيجاد مخرج دبلوماسي.

مع ذلك، لن يكون لهذه الخطوات التي اتخذتها طهران، والتي لا تزال طبيعتها وخطورتها غير واضحة، أي تأثير يذكر ما لم يقرر الرئيس دونالد ترامب استئناف المفاوضات غير المباشرة مع الجمهورية الإسلامية. بعد لقائه المخيب للآمال مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، وفشله حتى الآن في إنهاء الحرب في أوكرانيا كما وعد، قد يتردد ترامب في تبني نهج دبلوماسي تجاه إيران. مع ذلك، قد يبحث ترامب إمكانية إجراء محادثات مع طهران، خاصة مع وجود احتمال حقيقي لإعادة إيران بناء برنامجها النووي خلال عام أو عامين، كما أشار إليه مسؤولون في البنتاغون. هذا الاحتمال يزيد من احتمالية قيام إسرائيل بهجمات عسكرية دورية على المنشآت النووية الإيرانية في الأشهر المقبلة، ما قد يفتح الباب أمام عدم استقرار إقليمي جديد، وهو ما تسعى قادة دول الخليج، وترامب نفسه، لتجنبه.

رغم منطق الدبلوماسية، يصعب تخيّل أي مبادرة أمريكية-إيرانية الآن مع عودة تركيز المنطقة إلى غزة، حيث تستعد إسرائيل لهجوم واسع النطاق على مدينة غزة. في ظل هذا الوضع المأساوي في غزة، مع الدمار الشامل تقريباً، وقتل العشرات من المدنيين الأبرياء يومياً، وتفاقم المجاعة، ودعوة ترامب الاستثنائية لنتنياهو “لإنهاء المهمة”، لن ترسل طهران مفاوضين إلى الدوحة. حالياً، سيركز القادة الإيرانيون على إدارة الوضع الداخلي المتشعب، والذي قد يصبح أكثر تعقيداً وعدم استقرار مع اقتراب المعركة المحتومة لتحديد خليفة خامنئي.