حين يختار التيار الوطني الشيعي مقاطعة الانتخابات.. قراءة سياسية في الأسباب والنتائج

      التعليقات على حين يختار التيار الوطني الشيعي مقاطعة الانتخابات.. قراءة سياسية في الأسباب والنتائج مغلقة

أ.م. حسين باسم الياسري

قسم الدراسات الدولية / مركز الدراسات الاستراتيجية

جامعة كربلاء

تشرين الثاني 2025

 إن العائق الحقيقي للإصلاح لا يبدو بعدم وجود أفكار وحلول!! وإنما يتمثل في طبيعة النظام التوافقي/المحاصصاتي الذي يشل الإرادة السياسية، ويحول دون ان تكون هناك إرادة حقيقية لدى “مختلف الأحزاب السياسية العراقية” لقلب الأنساق والتراتيب التي يقوم عليها النظام الراهن والتي تخدم العديد منهم جيدًا الى حد ما.

تشهد الانتخابات النيابية للدورة السادسة في العراق مقاطعة التيار الوطني الشيعي، الذي انسحب من البرلمان بعد مرور أقل من سنة على اعلان نتائج الانتخابات النيابية للدورة الخامسة. وقد كان الجدل واسعًا حول عودة التيار الوطني الشيعي الى العملية السياسية من عدمها حتى أكّد السيد مقتدى الصدر ثبات التيار على موقف المقاطعة. وعند محاولة فهم أسباب مقاطعة التيار الوطني الشيعي للانتخابات النيابية العامة، تبرز ضرورة التعرف على أسباب الانسحاب من البرلمان والعملية السياسية منذ الدورة الانتخابية الخامسة و لحد الآن .

أسباب انسحاب الكتلة النيابية الصدرية من البرلمان:

      في الواقع، مع انسحاب نواب الكتلة النيابية الصدرية من مجلس النواب العراقي اثناء الدورة النيابية الخامسة والبالغ عددهم (73) نائبًا، و بهذا العدد فقد شكلوا أكبر قائمة برلمانية بفارق كبير نسبيًا الى باقي القوائم والكتل النيابية، فقد توخت الكتلة الصدرية عبر انسحابها من البرلمان إلى التأشير على وجود خلل بنيوي في بُنية النظام السياسي في العراق، إذ تسبب انسحابهم في ما بعد بمقاطعة العملية السياسية سواء خلال انتخابات المجالس المحلية في المحافظات، أو في الانتخابات النيابية العامة. وفي هذا الصدد يبرز السؤال المحوري وهو لماذا انسحبت الكتلة الصدرية من البرلمان العراقي بالدرجة الأساس؟ إذ لو لم تنسحب الكتلة الصدرية من البرلمان لما تطورت الاحداث الى تبني موقف مقاطعة مستمرة.

وللإجابة عن هذا التساؤل ، تقتضي الضرورة العودة قليلاً إلى بدايات تأسيس النظام السياسي الحالي وملابساته. فقد بدأ العمل بنظام تقسيم السلطة وتوزيع المناصب الحكومية على “كافة” المكونات العرقية/الطائفية في البلاد بعد اجتياح الولايات المتحدة للعراق وأسقاط نظام البعث التعسفي القمعي في العام 2003، ومن ثم إعلانها لـسلطة الاحتلال تحت قيادة الحاكم المدني “بول بريمر”.

     من الناحية النظرية، كان من المفترض أن يكون تقسيم السلطة وتوزيعها بديلًا فعالًا لعقود من الإقصاء، والقمع، والتفرد بالسلطة من قبل حزب البعث وحكمه الاستبدادي، بما يضمن تمثيل وإشراك مختلف الفئات والطوائف والأعراق في البلد. غير أن ما جرى عمليًا خلاف ذلك! فقد رافق تقسيم السلطة وتوزيعها إنتاج طبقة سياسية هيمنت على الدولة ومواردها، مُتكأه في ذلك على مبدأ التعددية العرقية والطائفية الذي اتبع أنموذج التوافقية والمحاصصة.

       و تم شغل المناصب الحكومية كافة من الأحزاب الشيعية والسُنيّة والكُردية في كل حكومة سبقت من خلال مشاركة “جميع” القوى والأحزاب، من دون ان تكون هناك أطراف معارضة داخل البرلمان، واحكموا قبضتهم على الجوانب الأمنية، وسيطروا على الموارد الاقتصادية، وأغلقوا الطريق بوجه الكفاءات المهنية المستقلة في أن تمارس أي نوع من أنواع ممارسات السيطرة على اجهزة الدولة.

     وهكذا، فإن طبيعة تقاسم السلطة وتوزيعها في النظام العراقي الحالي القائم على أنموذج “التوافقية والمحاصصة السياسية” بين “كافة” القوائم والكتل يُعد الخلل البنيوي الأساس، إذ توفر هذه الطبيعة للنظام -عمليًا- مظلة “للفاسدين” تحول دون مساءلة المسؤول المُخفق ومحاسبة الفاسد منهم! إذ إنه مع مشاركة الأطراف السياسية كافة  في انتاج الحكومات التي تلكأت في تحقيق التنمية وإنفاذ سلطة القانون والحيلولة دون الفساد وهدر المال العام، تضيع مسؤولية الإخفاق والفساد بين الجميع بما يحول دون التمكن من تحديد الأطراف المُخفقة والفاسدة ومعاقبتها شعبيًا عبر عدم تجديد انتخابها لاحقا على الأقل. وهكذا، فإن العائق الحقيقي للإصلاح لا يبدو بعدم وجود أفكار وحلول، وإنما يتمثل في طبيعة النظام التوافقي/المحاصصاتي الذي يشل الإرادة السياسية ويحول دون أن تكون هناك إرادة حقيقية لدى “مختلف الأحزاب السياسية العراقية” لقلب الأنساق والتراتيب التي يقوم عليها النظام الراهن، والتي تخدم العديد منهم جيدًا الى حد ما.

       وبناء على ما ذكر سابقًا في شرح تأثير التوافقية والمحاصصة على النظام السياسي العراقي، فإن مساعي القضاء على التوافقية والمحاصصة هي الدافع الرئيس لانسحاب التيار الوطني الشيعي -الكتلة الصدرية البرلمانية سابقًا- من مجلس النواب العراقي، وذلك بعد اغلاق الباب في وجه الكتلة الصدرية بشدة عند سعيها الى القضاء على التوافقية والمحاصصة وهم موجودون كممثلين للشعب داخل قبة البرلمان.

إذ إنه أثناء وجود الكتلة الصدرية في البرلمان العراقي، كان أمام السيد مقتدى الصدر وكتلته النيابية خياران للتخلص من أنموذج التوافقية والمحاصصة في الحكم -وهو مطلب شعبي عابر لتفضيلات الكتلة الصدرية فحسب- ويتمثل هذان الخياران:

–       أما في تأليف حكومة أغلبية وطنية من  “مجموعة من القوائم فقط” وليس من  “كل” القوائم والكتل البرلمانية،

–       أو الذهاب الى المعارضة.

وسوف نناقش هذان الخياران في أدناه، لمعرفة انعكاساتهما لاحقا على نهج المقاطعة:

الخيار الأول: تأليف حكومة أغلبية وطنية:

      منذ إعلان نتائج انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 2021 وتصدر قائمة الكتلة الصدرية بأكبر عدد من النواب بواقع (73) نائبًا، بفارق يقارب نصف هذا العدد من أقرب القوائم الاخرى داخل البرلمان العراقي، أعلن السيد مقتدى الصدر وكتلته البرلمانية بأنهم ماضون في تغيير أنساق أنموذج التوافقية والمحاصصة التي هيمنت سابقًا، وذلك لصالح انتاج حكومة أغلبية وطنية من  “مجموعة من القوائم فقط” لتذهب باقي الكتل البرلمانية الى المعارضة النيابية، وأعلن إن كتلته بالتنسيق مع حلفائها من الكتل البرلمانية السُنية والكُردية في تحالف (إنقاذ وطن الذي ضم قرابة 180 نائبا أو أكثر) ستتحمل نتائج الحكومة القادمة، وذلك على مستوى النجاح أو الإخفاق في الأداء، ليتم تقييم ذلك الأداء من قبل الشعب وينعكس أما بالسلب والعقاب لهم أو الإيجاب والرضا عنهم خلال انتخابات العام 2025 البرلمانية اللاحقة.

      وقد أثارت هذه الدعوة حفيظة الأحزاب الأخرى المشاركة غي العملية السياسية، إذ للمرة الأولى خلال العهد الديمقراطي كان عليها أن تكون خارج السلطة و الجلوس في مقعد المعارضة، فمارست هذه الأحزاب التشكيك بنتائج الانتخابات، وقدمت الطعون إلى المحكمة الاتحادية التي بدورها حسمت الموضوع بنزاهة الانتخابات، غير انها وضعت تفسيرًا واجتهادًا كان هو الأول من نوعه. فبعد أن نص الدستور العراقي على ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية في المادة ( 70 ) أولا من قبل ثلثي أعضاء البرلمان خلال جلسة التصويت الأولى، عاد الدستور موضحًا إمكانية اختيار رئيس الجمهورية في  المادة نفسها ثانيًا بالاستناد الى الأغلبية البسيطة، أي مبدأ الـ 50%+1 في الجلسة الثانية إذا ما لم يتم التمكن من تحقيق اجماع ثلثي نواب البرلمان في الجلسة الأولى، وهذا ما جرى في انتخابات العام 2018.. غير أن المحكمة الاتحادية قدمت تفسيرًا واجتهادًا كان هو الأول من نوعه ومفاده أن جلسة اختيار رئيس الجمهورية المستندة الى الأغلبية البسيطة أي مبدأ الـ 50%+1 سوف تعد صحيحة دستوريًا فقط إذا جرت بحضور ثلثي الأعضاء ومن دون الداعي لتصويتهم، والاكتفاء بتصويت الـ 50%+1. وقد عدّ العديد من الباحثين والقانونيين تفسير المحكمة الاتحادية هذا بأنه خاضع للتأثيرات السياسية لصالح الأطراف التي تمسكت بمبدأ التوافقية في سبيل عدم مغادرة مقعد السلطة والجلوس على مقعد المعارضة، بل ذهب أخرين مثل الباحث الأمريكي “مايكل نايتس” الخبير في الشؤون العراقية إلى وصف تفسير المحكمة الاتحادية على إنه “انقلاب قضائي” على مخرجات العملية الانتخابية في العراق.

      ومع هذا الوضع الذي وصف فيما بعد بـ (الانسداد السياسي) في وجه الصدر وحلفائه السُنة والكُرد، كان أمام الصدر في سبيل القضاء على التوافقية والمحاصصة إما الذهاب إلى المعارضة البرلمانية أو الانسحاب من البرلمان مُرغما، فلماذا لم يذهب الصدر للمعارضة؟!

الخيار الثاني: الذهاب للمعارضة:

       وبعد أن تمكن تحالف (إنقاذ وطن) من اجتياز عتبة الفوز الدستورية المتمثلة بتحقيق الأغلبية البسيطة أي الـ 50%+1 أي (165) نائبًا، وذلك لامتلاك التحالف أكثر من هذا العدد بما يصل إلى (180) نائبًا، ومنعهم من تأليف الحكومة بواسطة تفسيرات المحكمة الإتحادية التي أحيطت في وقتها بالجدل، إذ يتساءل البعض، لماذا لم يذهب الصدر للمعارضة؟ وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤل، فإننا مجتمع الأكاديميين المتخصصين بالعلوم السياسية ولاسيما الباحثين في موضوع الديمقراطية وتدريسها كُنا لِنَتهم الصدر -في حال ذهابه للمعارضة- بـ “خيانة روح الديمقراطية” وسنّ سُنّة سيئة في العراق يتحمل الصدر وزرها ووزر من يعمل بها مستقبلا. وتتمثل هذه السُنة السيئة بقبول طرف سياسي معين -منفردًا أم متحالفًا مع آخرين- تجاوز عتبة الأكثرية التي يحددها الدستور بـالـ 50%+1 ومن ثم قبول هذا الطرف أو التحالف الذي يمثل الأكثرية في الواقع وعلى وفق الدستور في الذهاب الى المعارضة، فعندئذ ما  جدوى الانتخابات وسعي الشعب في صناعة كتلة أو تحالف فائز ويمثل الأكثرية إذا لم يتمكن من تأليف الحكومة ويتحتم عليه الذهاب إلى المعارضة؟؟ فهل تحدثنا الديمقراطية عن حكم الأقلية وذهاب الأكثرية الفائزة إلى مقعد المعارضة !؟ وكيف كنا لِنُدرّس طلبتنا مادة الديمقراطية مستقبلا وعلى أساس أي معيار إذا فُقد معيار الأكثرية في الحكم!؟ بل كيف يمكن أقناع الشعب في جدوى الانتخابات مستقبلا إذا ما رضخت الأكثرية إما في العودة إلى التوافقية والمحاصصة أو الذهاب إلى المعارضة، فعن أي انتخابات نتحدث ونقنع الشعب بعدئذ في ضرورة الذهاب اليها لأجل انتاج أكثرية؟! لقد كانت لتكون بحق سُنة سيئة ومُخالفة جسيمة ترتقي إلى حد “الخيانة” بحق مفهوم الدمقراطية لو ذهب الصدر إلى المعارضة، وكان سيتحمل وزرها ووزر من يعمل بها مستقبلا.

     ومع انتباه الصدر إلى هذه المُعضلة التي تمثلت بانتهاك وخيانة روح الديمقراطية في الحكم، نظر إلى هذا الباب الذي كان مغلقا في وجههِ أيضا مثل باب حكومة الأغلبية الوطنية الذي أُغلق في وجهه في وقت أسبق.

     فضلا عن سقوط هذان الخياران امام الصدر واللذان تمثلا إما بتأليف حكومة الأغلبية الوطنية أو الذهاب للمعارضة في سبيل الخلاص من مبدأ التوافقية والمحاصصة المهيمن تقليديا، لم يبق أمام الصدر سوى الانسحاب مُرغمًا غير بطر من البرلمان العراقي أو العودة إلى مربع التوافقية والمحاصصة والمحافظة الأنساق والتراتيب نفسها التي حكمت العراق عقدين من الزمان وتسببت بهدر الأموال وتآكل البنية التحتية وتدني قدرة كل حكومة سابقة في تقديم الخدمات العامة وضعفها في انفاذ سلطة القانون ويأس وإحباط الملايين من الشعب، فاختار الانسحاب مُرغمًا، ليستأنف نهجًا جديدًا تاليا قائمًا على أساس المقاطعة، وليؤشر من خلاله وبشكل صارخ  وجود خلل بنيوي في النظام السياسي العراقي بحاجة للإصلاح والعلاج.

مقاطعة التيار الوطني الشيعي:

      بعد وضوح الأسباب التي أجبرت الصدر على الانسحاب من العملية السياسية مثلما تقدم ذكره، يأتي نهج “المقاطعة” الحالي للتأكيد على إن موقف التيار الوطني الشيعي من مبدأ التعددية السياسية –على وفق صيغة التوافقية والمحاصصة- ما يزال ثابتًا، وإن مواقف الانسحاب والمقاطعة هما مكملان لبعضهما البعض في التأشير على إن “المحاصصة والتوافقية كأنموذج للتعددية السياسية” تمثل خللا بنيويًا عميقًا في بنية النظام السياسي في العراق يقتضي إصلاحه من خلال الاعتراف بوصفه خللا ومشكلة تنتظر الإصلاح العلاج في المقام الأول.

     ومن ثُم، تُعد مساعي الصدر اثناء وجوده داخل العملية السياسية وخارجها على انها محاولات ومساعي هدفت الى تغيير الانساق والقواعد التي استقرت على أساس المحاصصة والتوافقية في فهم مبدأ التعددية السياسية. فقبل مغادرة الصدر للعملية السياسية، سعى بشكل جاد إلى تفكيك التوافقية والمحاصصة لصالح الأغلبية السياسية مثلما هو معمول به في كل الديمقراطيات الرصينة والمُستقرة في العالم الديمقراطي. وعند انسحابه من العملية السياسية، فقد أشر زعيم التيار الوطني الشيعي على وجود خلل بنيوي عميق في بُنية النظام الديمقراطي في العراق،  وهذا الخلل يستلزم إصلاحه وعلاجه إخلاص  كل الطبقة السياسية العراقية في مغادرة الأنساق التقليدية في تأليف الحكومات وتبني سيرة جديدة تبتعد عن المحاصصة والتوافقية لصالح مبدأ الأغلبية السياسية بشكل مماثل لما هو موجود في الدول الديمقراطية الرصينة والقوية قبل تآكل مشاعر الديمقراطية، وتراجع ثقة الشعب بها لصالح الاستبداد أو التفتت والانهيار في مرحلة ما .