
د. جمانة جاسم الاسدي / كلية القانون جامعة كربلاء / وباحثة مشاركة في قسم ادارة الازمات في مركز الدراسات الاستراتيجية جامعة كربلاء
تمثل المساواة بين الجنسين في العمل إحدى الركائز الجوهرية للعدالة الاجتماعية التي يسعى إليها كل نظام قانوني معاصر، إذ لم تعد مشاركة المرأة في سوق العمل مجرّد قضية اجتماعية أو مطلب حقوقي، بل أصبحت مؤشرًا على مدى تطور النظام القانوني والاقتصادي للدولة، وفي العراق ومع صدور قانون العمل رقم (37) لسنة 2015، خطا المشرّع خطوة مهمة نحو تكريس مبدأ المساواة في العمل، بما ينسجم مع أحكام الدستور العراقي والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها العراق، ولا سيما اتفاقيتي منظمة العمل الدولية رقم (100) و(111).
أكد الدستور العراقي لعام 2005 في المادة (14) أن: “العراقيين متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي”، كما نصّت المادة (22/أولًا) على أن: “العمل حق لكل العراقيين بما يضمن لهم حياة كريمة”، والمادة (29) على حماية الأمومة والطفولة وبذلك، أراد المشرّع الدستوري أن يجعل من المساواة بين الرجل والمرأة في العمل قاعدةً عامة، تُلزم المشرّع العادي بإصدار قوانين تكفل هذه الحماية وتعزز المشاركة النسوية في الحياة الاقتصادية.
جاء قانون العمل العراقي ليؤكد هذا المبدأ في أكثر من نص، حيث نصت المادة (11) منه على أن: “يحظر التمييز في فرص العمل، أو شروطه، أو الحقوق، أو الواجبات، بسبب الجنس، أو العرق، أو اللون، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو الأصل الاجتماعي، أو الإعاقة”، ويُعد هذا النص من أبرز التطورات التشريعية، لأنه لم يكتفِ بحظر التمييز في الأجر فقط كما كانت بعض القوانين السابقة، بل وسّع الحماية لتشمل كافة مراحل علاقة العمل من التشغيل، مرورًا بالترقية، وحتى إنهاء الخدمة، كذلك نصت المادة (87) على حق المرأة العاملة في إجازة أمومة بأجر كامل لمدة (14) أسبوعًا، مع ضمان عودتها إلى عملها، وحظرت المادة (90) فصلها بسبب الحمل أو الولادة، وهذه النصوص تؤكد رغبة المشرّع في تحقيق التوازن بين واجبات الأمومة وحق المرأة في العمل دون أن تكون ضحية لأي تمييز.
ويُعد مبدأ الأجر المتساوي عن العمل المتساوي القيمة أحد أهم صور المساواة بين الجنسين في ميدان العمل، وقد نصت عليه المادة (11/ثانيًا) من قانون العمل العراقي، انسجامًا مع اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (100) لسنة 1951 بشأن المساواة في الأجور، ويترتب على هذا المبدأ التزام صاحب العمل بعدم التمييز بين العاملين والعاملات الذين يؤدّون عملاً ذا قيمة متساوية، سواء في الأجر النقدي أو العيني أو في المزايا الوظيفية الأخرى، ومع أن هذا النص واضح في مضمونه، إلا أن التطبيق العملي لا يزال يعاني من فجوة حقيقية في بعض قطاعات العمل الخاصة، حيث تتقاضى النساء أجورًا أدنى من الرجال في المهن ذات الطبيعة المماثلة، ما يتطلب رقابة فعلية من مفتشية العمل وتفعيل آليات التظلم.
من الجوانب الإيجابية في قانون العمل العراقي أنه لم يقتصر على المساواة في الأجور، بل امتد ليشمل حماية المرأة من العنف والتحرش في مكان العمل، وهو ما أشار إليه المشرّع في المادة (10) التي تحظر أي معاملة مهينة أو مسيئة للعامل بسبب الجنس، كما منح القانون للمرأة العاملة حماية خاصة في ظروف التشغيل، فحظر تشغيلها في الأعمال الخطرة أو الضارة بالصحة أو الأخلاق، تطبيقًا للمادة (88)، وهي حماية تهدف إلى صون الكرامة الجسدية والمعنوية للعاملات دون أن تُعد تمييزًا سلبياً، لأنها تقوم على التمييز الإيجابي المشروع لحماية الفئات الضعيفة.
ومن الجدير بالذكر، انضم العراق إلى عدد من الاتفاقيات الدولية التي تؤكد مبدأ المساواة في العمل، ومنها اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم (111) لسنة 1958 بشأن التمييز في الاستخدام والمهنة، واتفاقية رقم (100) لسنة 1951 بشأن المساواة في الأجور، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) لعام 1979، وبموجب هذه الالتزامات، فإن العراق ملزم باتخاذ التدابير التشريعية والإدارية لضمان المساواة بين الجنسين في سوق العمل، وتأمين فرص متكافئة للتدريب والترقية والأجر، فضلاً عن مكافحة التمييز في التعيين والاختيار.
على الرغم من وجود هذا الإطار القانوني المتقدم، إلا أن الواقع العملي يشير إلى استمرار بعض التحديات، منها ضعف مشاركة النساء في سوق العمل الرسمي، خاصة في القطاع الخاص، وغياب سياسات فاعلة للتوفيق بين الحياة العائلية والمهنية، واستمرار بعض الممارسات الاجتماعية والثقافية التي تحدّ من فرص النساء في العمل القيادي، وضعف آليات التفتيش العمالي في متابعة حالات التمييز أو الحرمان من المزايا الوظيفية، ولذلك فإن تعزيز المساواة لا يتحقق بالنصوص فقط، بل يتطلب إرادة سياسية وإدارية تدعم المرأة العاملة في جميع المستويات.
ختامًا- إن مبدأ المساواة بين الجنسين في قانون العمل العراقي لم يعد مسألة شكلية أو شعارًا قانونيًا، بل هو حق دستوري وإنساني يعبّر عن احترام الدولة لكرامة الإنسان بغض النظر عن جنسه، وقد نجح المشرّع العراقي إلى حدٍّ كبير في إرساء الأساس التشريعي لهذا المبدأ، لكنه ما زال بحاجة إلى خطوات تنفيذية تُترجم النصوص إلى واقع فعلي من خلال المراقبة، والتوعية، وتطوير بيئة العمل لتصبح أكثر شمولًا وعدالة، إن تحقيق المساواة في العمل ليس مصلحة النساء وحدهن، بل هو ركيزة للتنمية الوطنية، إذ لا يمكن لأي اقتصاد أن ينهض بنصف طاقته البشرية فقط.




