
الكاتب : فابريس بالانش، أكاديمي مختصّ بمنطقة الشرق الأوسط، وقد استند في مقاله إلى “بحث ميداني وخبرة بعد الندوة الدولية في أربيل: «الجفاف، وتأثير التغير المناخي على الأوضاع السياسية والاقتصادية والديموغرافية في العراق».
تاريخ النشر: 17 آيار / مايو 2024
الناشر: EISMENA
ترجمة : ا.د. نصر محمد علي
ذكر البنك الدولي، في تقرير صدر عام 2023، أن العراق هو خامس أكثر البلدان تضرراً من الاحتباس الحراري؛ حيث ترتفع درجات الحرارة إلى ما يزيد عن 50 درجة مئوية لأسابيع طويلة في الصيف، كما انخفضت كمية المياه المتاحة بشكل كبير خلال العشرين عاماً الماضية من أكثر من 2000 متر مكعب للفرد سنوياً إلى أقل من 500 متر مكعب اليوم. كما أن معدل هطول الأمطار في انخفاض مستمر، ومن الجدير بالذكر أن السدود المقامة في تركيا وإيران قد قللت بنحو كبير من تدفق نهري دجلة والفرات وروافدهما مثل نهر ديالى. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن احتياجات العراق آخذة بالازدياد، مع ارتفاع عدد سكانه من 20 مليون نسمة في عام 1994 إلى ما يقرب من 45 مليون نسمة في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 80 مليون نسمة في عام 2050. وقد يصبح الاعتماد على الغذاء وتكاليف مقاومة الاحتباس الحراري غير مستدامين بسرعة، على الرغم من ثروة البلاد من الموارد الهيدروكربونية، مما سيؤدي إلى موجات هجرة داخلية كبيرة.

Screenshot
حلول غير مستدامة للاحتباس الحراري
لم يعد العراق ينتج غذاءه بنفسه؛ بل يستورده بفضل الموارد التي توفرها صادرات النفط. ومع اقتراب الإنتاج من 5 ملايين برميل يوميا، بات بإمكان البلاد في الوقت الراهن توفير كهرباء وفيرة ومنخفضة التكلفة، مما يمكّن الناس من شراء مكيفات الهواء. وعلى الرغم من أنها محاطة بمناطق فقيرة، إلا أن معظم المنازل في المدن الكبرى مجهزة بهذه الوحدات. هذا هو الحل المتبع لمواجهة حرارة الصيف في قطر والإمارات العربية المتحدة والعديد من الدول الأخرى ذات المناخ الجاف وشبه الجاف. في ظل هذه الظروف، لا جدوى من استخدام مواد العزل الحراري. في الواقع، في بعض الأماكن التي تكون فيها الكهرباء مجانية، لا يهتم الناس بإغلاق الأبواب والنوافذ عند تشغيل مكيفات الهواء.
يغادر الأثرياء، في فصل الصيف، إلى أوروبا وتركيا وأماكن أخرى حيث لا تكون حرارة سهول بلاد ما بين النهرين شديدة. خلال هذه الأشهر، يتوجه العراقيون أيضاً إلى إقليم كردستان. ويرتبط جزء من مشاريع التطوير العقاري بهذا البحث عن طقس لطيف من قبل سكان وسط العراق وجنوبه. يستمتع العراقيون الذين لا يملكون القدرة على مغادرة البلاد بإقليم كردستان لمناخه المعتدل نسبيًا ومناظره الطبيعية والحرية التي يوفرها على عكس التشدد الذي يسود خارج المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي. حلمهم هو امتلاك شقة هناك، حيث يمكنهم قضاء عطلاتهم وتقاعدهم. بالإضافة إلى النازحين داخلياً، شهدت كردستان تدفقاً هائلاً للسياح المحليين منذ عام 2014. ومع ذلك، لم تشهد بعد موجة من لاجئي “المناخ”، لأن الدولة الريعية تمتلك الموارد المالية اللازمة لإبقاء العراقيين في أماكنهم. مع ذلك، يبقى من المشكوك فيه ما إذا كانت الحكومة العراقية ستتمكن من مواصلة هذه السياسة السخية في المستقبل. حتى في دول الخليج مثل المملكة العربية السعودية، تجري إعادة النظر في دولة الرفاهية، حيث أصبحت التكلفة الباهظة لدعم 45 مليون مواطن باهظة بشكل متزايد. أضف إلى ذلك، هل ستتمكن شبكة الكهرباء في العراق من التعامل مع الطفرة في الطلب؟ إنها مهترئة، والتوصيلات غير القانونية تتسبب في العديد من الأعطال. لا يمكن استبعاد حدوث انقطاع تام للتيار الكهربائي في ذروة الصيف. سيؤدي هذا إلى نزوح جماعي للسكان إلى الجبال الكوردية، حتى لو كان ذلك يعني النوم في العراء، كما أوضح لي أحد سكان البصرة خلال موجة الحر التي ضربت المنطقة في عام 2018.
انهيار القطاع الزراعي في الجنوب
كان جنوب العراق في السابق جنة خضراء، لكن العديد من المناطق المروية تحولت في الوقت الراهن إلى أراضٍ قاحلة. وقد أدت تقنية الري بالغمر الحالية إلى تعقيم الحقول برفع مستوى الملوحة. وفوق كل ذلك، لا توجد مياه كافية لري المحاصيل، والري التقليدي مكلف للغاية. يحتاج النبات الواحد إلى 7 أمتار مكعبة من الماء لامتصاص متر مكعب واحد فقط، بينما يتبخر الباقي في المناطق القاحلة. ويضيع ما يصل إلى 90% من المياه التي تدخل نظام الري العراقي بسبب التسرب في القنوات والتبخر من الخزانات. زد على ذلك، لا يمكن لهذا النظام أن يعمل إلا في بنية شديد المركزية حيث يخشى المزارعون الدولة. كان هذا هو الحال ابان حكم حزب البعث، عندما تم بناء النظام. أما اليوم، فلا توجد سلطة تراقب توزيع المياه، أو تجفيف التربة في الشتاء، أو تنظم الاستهلاك لضمان وصول المياه إلى أطراف المنطقة المروية الشاسعة. يعتمد المزارعون على أنفسهم في المناطق الواقعة أعلى، بينما لم تعد المناطق الواقعة أسفل النهر تحصل المياه. ويقوم الأقوى بسرقة الموارد من الأضعف. ويُعد سوء الإدارة ونقص الوعي المدني مسؤولين عن فشل نظام الري بقدر ما هو مسؤول عن نقص المياه. وهذا النقص يزيد من تفاقم الظاهرة، لأن الندرة تشجع على النزاعات حول استخدام المياه. أضف إلى ذلك، ان الدولة العراقية لاتحمي إنتاجها الزراعي من المنافسة الأجنبية. فالبضائع التركية والإيرانية تغمر السوق بأسعار أقل، مما يهدد استمرارية الزراعة في الجنوب. وأخيراً، ينجذب الشباب أكثر إلى العمل في قطاع الخدمات في المدينة أو الانضمام إلى الجماعات المسلحة بدلاً من العمل في الأرض. وهذا يؤدي إلى نزوح ريفي مكثف لا يمكن وقفه.
تدمير المدن العراقية
تدفع الأوضاع الكارثية في الريف في جنوب العراق السكان الهجرة إلى المدن. وقد ظهرت جيوب من الفقر حول التجمعات الحضرية الكبيرة، ولكن سكان المناطق الريفية يحتلون أيضاً مراكز المدن القديمة المتهالكة. هذه الكثافة السكانية الكبيرة بثقافتها القبلية تستولي على الأراضي في الضواحي وتبني منازل عشوائية. وهم يعتمدون على دعم الأحزاب السياسية وشيوخ القبائل للبقاء في أماكنهم والحصول على سندات ملكية في المستقبل. وهذا يخلق توترات مع سكان المدن الأصليين الذين لا يتسامحون مع التعايش. ويشجع تدهور الخدمات العامة ومختلف أشكال التلوث وانعدام الأمن الطبقات المتوسطة والعليا على الاستقرار في المجمعات السكنية المسورة. في البصرة، المدينة التي يقطنها خمسة ملايين نسمة، يعيش ما لا يقل عن مليوني نسمة منهم في أحياء فقيرة، ويتزايد عدد الأحياء المغلقة. هناك طلب كبير على السكن، وغالبًا ما تُحجز المساكن قبل بنائها. وتشهد مدن متوسطة الحجم مثل العمارة والناصرية الظاهرة نفسها. وغالبًا ما تكون المجالس المحلية، المرتبطة بمطوري العقارات، غير مهتمة بتحسين الظروف المعيشية لسكان المدن وتشجعهم على الانعزال في هذه المناطق المغلقة.
لكن مرة أخرى، لا توجد استراتيجية للتكيف مع تغير المناخ في هذه الأحياء الحديثة. كان من الممكن بناء المباني باستخدام مواد عازلة، لكن المطورين يفضلون تعظيم أرباحهم باستخدام مواد بناء رديئة، مما يؤدي أيضًا إلى تدهورها السريع. كان من الممكن أن تكون إعادة إعمار الموصل فرصة لتكييف المساكن مع الظروف المناخية الجديدة. فقد موّل الاتحاد الأوروبي جزءاً من إعادة تأهيل المدينة القديمة، ولكن دون مراقبة جودة المباني أو اشتراط تكييفها مع قسوة المناخ القاري لسهل نينوى. وبالتالي، فُقدت فرصة تصدير الخبرة الأوروبية في هذا المجال. أما بالنسبة لباقي أجزاء المركز التاريخي لمدينة الموصل، فهي تنتظر الهدم ليحل محلها مشروع بناء حديث ومستقبلي لا يأخذ في الحسبان الوضع الجديد. تمتد مدن العراق على مد البصر في شكل ضواحي واسعة على الطراز الأمريكي. وهي تعتمد على الاستخدام المكثف للسيارات الخاصة واستهلاك المساحات الشاسعة. وهذا يزيد من استهلاك الطاقة في المساكن الحضرية، وبالتالي يرفع تكلفة المعيشة للسكان. وسيؤدي أي انقطاع مفاجئ في إمدادات الكهرباء وارتفاع أسعار الوقود إلى انهيار هذا الانموذج.
الخلاصة
تُعدّ ارتفاع درجات الحرارة ونقص المياه هما المشكلتان الرئيسيتان في العراق. وينبغي تخصيص موارد البلاد لحل هذين التحديين. نحن بحاجة إلى تكييف بيئتنا السكنية وإدارة ندرة المياه. ومع ذلك، فإن حلول المتمثلة في توفير الكهرباء الوفيرة شبه المجانية، والاعتماد على الواردات الغذائية الضخمة، هي حلول قصيرة النظر وتفضي إلى نتائج عكسية. وهذا يزيد من اعتماد العراق على صادرات النفط والغاز ويهدد سيادته. يهدر العراق ثرواته على الاستهلاك بدلاً من الاستثمار في المستقبل. لن تتمكن الدولة من الوفاء بوظيفتها الريعية لأكثر من بضع سنوات. سيكون الانهيار وحشيًا، مما سيؤدي إلى تسارع وتيرة التصحر في المناطق القاحلة. وستدفع الهجرة القسرية سكان الجنوب والغرب إلى النزوح نحو الشمال الشرقي بحثاً عن بيئة أقل قسوة. ومن المؤكد أن هذا الوضع سيؤدي إلى صراعات مع الكورد، كما هو الحال بالفعل في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك. في الواقع، سيزيد الاحتباس الحراري من حدة التوترات القائمة قبل أن يخلق توترات جديدة.




