استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الامريكية الجديدة و الرئيس دونالد ترامب

      التعليقات على استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الامريكية الجديدة و الرئيس دونالد ترامب مغلقة

م.م. واثق علي جابر / مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء

اعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 4 كانون الأول 2025 عن تبني استراتيجية جديدة للأمن القومي , وهي وثيقة مكونة من 33 صفحة ترسخ مبدأ ” أمريكا أولا” و تمثل هذه الاستراتيجية تحولا جذريا في السياسة الخارجية الامريكية، إذ تعيد ترتيب الأولويات الأمنية والعسكرية والاقتصادية وبما ينسجم مع رؤية الإدارة الحالية التي تتبنى عقيدة ” أمريكا أولا والسيادة الوطنية والأمن الاقتصادي ” وقد جاءت هذه الاستراتيجية لتمثل قطيعة واختلافًا كليًا مع الاستراتيجيات السابقة التي سادت منذ نهاية الحرب الباردة , والتي كانت تتسم بالانخراط العالمي الواسع , بينما هذه الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي تعلن إن الهدف الأسمى للسياسة الخارجية هو ” حماية المصالح الوطنية الأساسية ” للولايات المتحدة , وتعد الاستراتيجيات السابقة قد ” ضلت الطريق ” من خلال المبالغة في تقدير استعدادات الولايات المتحدة الامريكية لتحمل الأعباء العالمية والمراهنة على العولمة التي أدت إلى تآكل القاعدة الصناعية والطبقة الوسطى الامريكية , وتؤكد هذه الاستراتيجية الجديدة على تصحيح ضروري يهدف إلى إعادة توجيه البلاد نحو ” عصر ذهبي جديد ” من خلال التركيز على ما يخدم امريكا أولا , وقد ركزت هذه الاستراتيجية على مبادئ أساسية تعكس تحولا أيديولوجيا وعمليًا من خلال إعادة تعريف مركز للمصلحة الوطنية ،  لتنتقد الاستراتيجية السابقة التي تعرف المصلحة الوطنية  بأنها تشمل كل القضايا العالمية , وتؤكد أن التركيز على كل شيء يعني عدم التركيز على أي شيء , ولهذا فإن هذه الاستراتيجية يجب أن تقتصر على حماية المصالح الوطنية الأساسية والتي تشمل بقاء وسلامة الولايات المتحدة كجمهورية ذات سيادة مستقلة , وحماية شعبها واقتصادها من الهجمات العسكرية والتأثير الأجنبي , والتأكيد على السلام من خلال القوة والميل نحو عدم التدخل بشكل مباشر, إذ ترى أن القوة هي أفضل رادع مع التشديد على ضرورة الحفاظ على بناء اقتصاد قوي , وتطوير احدث التقنيات , وبناء أكثر الجيوش قدرة في العالم , مع الميل لعدم التدخل بشكل مباشر في شؤون الدول إلا في تلك الحالات الخاصة التي يكون فيها مصالح خاصة وضرورية للولايات المتحدة , و التركيز على نصف الكرة الأرضية الغربي أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في سلم الأولويات و هي ضمن منظور هذه الاستراتيجية ” المجال الحيوي ” للولايات المتحدة الامريكية والهدف منع أي اختراق صيني أو روسي لهذا المجال.

كما عدّت هذه الاستراتيجية موضوع الهجرة في صميم مفهوم الأمن القومي وإذ تجدها  تمثل تهديدا رئيسيا ويجب وضع حدا للهجرة الجماعية بوصفها تمثل خطرا وتهديد على الهوية الثقافية وتدعو إلى استعمال القوة العسكرية لمواجهة هذا التهديد مع التركيز على أمن الحدود بشكل يمثل أولوية قصوى وأهم عنصر من عناصر الأمن القومي الأمريكي.

أما تأثير استراتيجية الأمن القومي الجديدة في تحديد العلاقة بين واشنطن والحلفاء الغربيون في القارة الاوربية  فقد شهدت تغييرات جذرية في هذه العلاقة، إذ أعادت صياغة هذه العلاقة بناء على مصالح قومية أمريكية بحتة , مما تسبب في ردود أفعال واسعة في الأوساط السياسية الأوروبية , و عدت الاستراتيجية الجديدة اوروبا لا  بوصفها شريكا استراتيجيا تقليديا , إنما أصبحت عبئا امام المصالح الامريكية. وقد أكدت على ضرورة تحمل أوروبا مسؤولية أكبر في الدفاع عن نفسها , كما عدت حلف الناتو أنه لم يعد يتماشى مع المصالح الامريكية، ودعت إلى تقليص الالتزامات العسكرية الامريكية اتجاه الحلف , وعلى وفق هذه الاستراتيجية تسعى واشنطن إلى إعادة التوازن في علاقاتها التجارية مع أوروبا من خلال تقليص العجز  التجاري  ومكافحة السياسات الاوربية التي تعيق الصادرات الامريكية كما أشارت هذه الاستراتيجية إلى دعم الأحزاب القومية واليمينية في أوروبا وذلك بهدف إعادة صياغة للقارة الأوروبية بما يتماشى مع الرؤية الامريكية , وقد أثارت هذه الاستراتيجية ردود غاضبة من القادة الاوربيون، وعدت هذه الخطوة محاولة لتفكيك الاتحاد الأوروبي  إلى دول قومية وقد وصفها البعض بأنها تمثل ” انقطاعا في العلاقات عبر الأطلسي ” وأكدت المفوضية الاوروبية إن العلاقة مع واشنطن تبقى أساسية ولكنها رفضت الاتهامات الامريكية المتعلقة بشأن الديمقراطية والهجرة .

وأما بخصوص الصين فإن هذه الاستراتيجية ترى أن جمهورية الصين الشعبية هي الخصم الحضاري الشامل  للولايات المتحدة، وتمثل التهديد الوجودي الأكبر لها  في القرن الحادي والعشرين , ولا ينظر إلى التنافس مع بكين على إنه مجرد تنافس على النفوذ , بل صراع على شكل النظام العالمي نفسه , إذ ترى هذه الاستراتيجية أن أنموذج الحكم الصيني المركزي القائم على الحزب الواحد يمثل تحديًا جوهريًا للقيم الديمقراطية الأمريكية , مما يجعل الصراع أيديولوجيًا على النظام الدولي , وترى أن التفوق الصيني في مجالات الذكاء الاصطناعي , والحوسبة الكمومية , وتكنولوجيا الاتصالات , يهدد الأمن القومي الأمريكي بشكل مباشر , وقد وضعت هذه الاستراتيجية أدوات للتعامل والاحتواء للتهديدات القادمة من الصين من خلال التركيز على أدوات ” فك الارتباط الاستراتيجي ” الاحتواء الاقتصادي والتكنولوجي , و حضر نقل التكنولوجيا المتقدمة و لا سيما أشباه الموصلات والبرمجيات ذات الاستعمال المزدوج و إعادة توطين سلاسل التوريد الجوية إلى الولايات المتحدة أو إلى دول صديقة , وتقليل الاعتماد على الصين في الأدوية والمعادن النادرة , وفرض عقوبات انتقائية على الشركات والافراد  الذين تتهمهم الولايات المتحدة بالتجسس وانتهاكات حقوق الانسان أو دعم جيش التحرير الشعبي , فضلا عن استعمال القومية الاقتصادية من خلال فرض الرسوم الجمركية والقيود التجارية كأدوات دائمة لحماية الصناعات الامريكية من المنافسة الصينية غير العادلة .

وأما بخصوص روسيا فترى استراتيجية الامن القومي الجديدة 2025 إن روسيا تمثل تهديدًا عسكريًا تسعى إلى تدمير النظام الإقليمي ” وتحديدًا في أوروبا ” عبر القوة العسكرية المباشرة , ولا تمثل تهديدًا أو منافسًا استراتيجيًا عالميًا يمتلك القدرة على فرض نظام بديل على المستوى العالمي , وذلك لأنها تفتقر إلى المقومات الاقتصادية والديموغرافية والتحالفات القادرة على تحدي الولايات المتحدة , وقد تبنت هذه الاستراتيجية مجموعة من الأدوات في التعامل مع روسيا تمزج بين الردع والضغط الاقتصادي والدبلوماسية الحذرة , من خلال دعم أوكرانيا المشروط للدفاع عن نفسها مع شروط أن تكون القيادة الأوكرانية مستعدة للتفاوض لإنهاء هذا الصراع في حال توفر الفرصة لذلك , وزيادة الضغط من خلال نظام شامل من العقوبات الاقتصادية واسعة النطاق لإبقاء الاقتصاد الروسي تحت ضغط شديد، ومنع أي فرصة لإعادة بناء قدراته العسكرية , واستعادة الردع في حلف الناتو من خلال إعادة بناء وتعزيز الجناح الشرقي ” أوروبا الشرقية ” لضمان عدم تكرار أي عدوان روسي في المستقبل , إلى جانب إدارة الخطر النووي من خلال الحفاظ على قنوات الاتصال المفتوحة وإجراء محادثات حول الاستقرار الاستراتيجي للحد من مخاطر سوء التقدير النووي .

و يدخل الشرق الأوسط ضمن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، إذ طالما عد الشرق الأوسط ذا أهمية استراتيجية للولايات المتحدة، فهو يعد من أهم مصادر الطاقة , كما ترى هذه الاستراتيجية ضرورة تخفيف التهديدات وإعادة التركيز لتمكين الولايات المتحدة من إعادة توجيه قوتها و أولوياتها عالميًا , وتسعى الولايات المتحدة لجعل منطقة الشرق الأوسط من منطقة عبء أمني إلى وجهة استثمار وشراكات استراتيجية , و لا سيما في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة الذكاء الاصطناعي وتقنيات الدفاع , كما تسعى هذه الاستراتيجية الى توسيع ” اتفاقيات أبراهام ” لتشمل المزيد من الدول العربية والإسلامية لتحقيق نموذج للتكامل الإقليمي , الحفاظ على الوجود العسكري والقوة العسكرية الرادعة لضمان المصالح الحيوية مثل: إمدادات الطاقة، وبقاء مضيق هرمز مفتوحًا , ومكافحة التطرف والإرهاب.

أما مكانة إسرائيل في هذه الاستراتيجية فتظل إسرائيل شريكًا استراتيجيًا محوريًا للولايات المتحدة , وتعد الأمن أولوية قصوى وترى هذه الاستراتيجية أمن إسرائيل مصلحة أمريكية جوهرية , مع دعم التفوق العسكري الإسرائيلي في المنطقة لفرض السلام والاستقرار .

وتصنف هذه الاستراتيجية ايران على إنها ” تهديد أمني نشط ” وليس مجرد ملف دبلوماسي، وهذا يمثل تحولا من ملف دبلوماسي قابل للتفاوض إلى ملف محدد في التعامل معه،  والهدف من خلاله حرمانها من السلاح النووي وتحييد نفوذها الإقليمي مع اعطاء أهمية لتفكيك شبكات النفوذ باستعمال العقوبات الاقتصادية، وسياسة الضغط القصوى، و الهيمنة الامريكية على النظام المالي العالمي القائم على الدولار , وتؤكد إن المصالح الامريكية تتحقق بشكل أكبر عبر سياسات الضغط والعزل والردع .

و بخصوص العراق فإن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة إزاحت العراق من الأولويات المباشرة وقد تم التغافل عن  ذكر العراق بشكل صريح، و هذا التراجع في سلم الأولويات المباشرة يعني أن العراق لم يعد يعامل  كملف مستقل، وقد تحول العراق من شريك استراتيجي إلى موقع ضمن أداة ” احتواء ايران ” .