الحكومة العراقية القادمة بين الاستحقاقات الدولية والمصالح الوطنية

      التعليقات على الحكومة العراقية القادمة بين الاستحقاقات الدولية والمصالح الوطنية مغلقة

د. حسين احمد السرحان

      تشير المعطيات السياسية إلى إن الحكومة العراقية القادمة لن يكون لها الدور الروتيني ذاته الذي دأبت الحكومات السابقة على تبنيه وحرصت على ممارسته، فعدم الوضوح الحاسم في المواقف تجاه القضايا الاقليمية، ومحاولة الحياد تجاه تلك القضايا، في وقت تتبنى جهات غير حكومية مواقف واضحة وغير محايدة، لا يبدو أنه ممكن بعد التغييرات التي شهدتها المنطقة بدءا من الحرب الاسرائيلية في غزة، ومرورًا بأضعاف حزب الله في لبنان، وانهيار نظام بشار الأسد الموالي لإيران، وانتهاءً بالحرب الايرانية الاسرائيلية في حزيران الماضي.

      بيد أنه بعد الجهود الاوربية والاميركية في استئناف العقوبات الاقتصادية على ايران في ايلول الماضي، وطبيعة المواقف المتشنجة للولايات المتحدة واسرائيل تجاه ايران وهدفهما في تحييد النظام الايراني عن لعب اي دور اقليمي ، لم يعد أمام العراق الكثير من الخيارات والتي كان يتمتع بها سابقا بوصفه واحدًا من أوراق المساومة بين الايرانيين والاميركان، ولاسيما في تأليف حكومة (نمط السلة) بعد كل انتخابات.

      و عن الموقف الاميركي من الدور الايراني في المنطقة  فهو واضح جدا ومثله الموقف الاسرائيلي، فبعد الجهود العسكرية الكبيرة والتكلفة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية التي تحملتها اسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة ، لا يبدو أن هناك تراجع في موقفيهما عن تحقيق اهدافهما في بناء شرق اوسط جديد، واجراء تغيير في المنطقة، وهو ما اكده رئيس الحكومة الاسرائيلية  بشكل متكرر.

     و أما العراق، فبفعل الدور الاميركي، استطاع ان ينأى بنفسه عن الصراعات الاخيرة، و يتجنب الضربات العسكرية الاسرائيلية، وبقي هو الوحيد – من بين مؤيدي المحور الايراني كما تنظر له الادارة الاميركية واسرائيل – بعيد عن معادلة الصراع الشرق اوسطية خلال السنتين الاخيرة. و يظهر أن هذا البعد من الجانب العراقي  لن يستمر طويلا بسبب التطورات الاخيرة في لبنان، والقرار الاسرائيلي والاميركي بضرورة نزع سلاح حزب الله، وخشيتهم من تدخل الفصائل العراقية على خط الصراع القادم والذي قد يعرض العراق إلى ضربات عسكرية بفعل زوال الحماية الاميركية.

وخلال الزيارة التي قام بها المبعوث الأميركي الخاص لسوريا (توم باراك) إلى العراق، ولقاءه رئيس الوزراء العراقي (محمد شياع السوداني) في بغداد يوم الاحد الماضي، نقل باراك التحذيرات الاميركية للحكومة العراقية. إذ أكد دبلوماسيا أوروبيا في واشنطن لـ ” الحرة” إن باراك أبلغ القيادة العراقية أن إسرائيل تخطط لمواصلة عملياتها “حتى نزع سلاح حزب الله”، وأنه إذا شاركت الفصائل الموالية لإيران، مثل كتائب حزب الله، في القتال، فستقوم إسرائيل بضربها من دون أي تدخل أميركي.

       وقال الدبلوماسي: ” طلب (باراك) من بغداد السيطرة على الفصائل وقطع أي دعم يمكن أن يساعد حزب الله في لبنان. الحياد ليس طلبا.. إنه شرط “. وأضاف الدبلوماسي الذي التقى مسؤولين عراقيين في واشنطن لجو خولي من شبكة MBN إن باراك قال للسوداني: ” نخشى إن عملية إسرائيلية ضد حزب الله في لبنان باتت وشيكة، وأن العراق سيواجه العواقب إذا تدخلت ميليشياته”.

      وينقل عن واحد من مراكز الدراسات الاسرائيلية، ” مع أن إسرائيل ليست متورطة بشكل مباشر في العمليات السياسية والعسكرية في العراق، إلا إنها قد تتأثر بها، كما يتضح من الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة التي شنتها الميليشيات العراقية على أهداف إسرائيلية خلال حرب غزة. ولا يزال هذا التهديد قائمًا، ولا سيما في ظل التقارير التي تفيد بتسليح هذه الفصائل في العراق بأسلحة إيرانية متطورة، وبأن إسرائيل تستعد لمحاولات تسلل بري محتملة الى الداخل الإسرائيلي من الاراضي العراقية وعبر سوريا والأردن”.

      ويذكر المصدر ذاته، ” بأن الولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ إزاء مستقبل الحكم ومصالحها في العراق بعد الانتخابات، وإيران ليست أقل قلقًا. لقد زادت الضربات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران – هزيمة حزب الله في لبنان، وانهيار نظام الأسد في سوريا، وحرب الاثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة في حزيران 2025 – من أهمية العراق الجيوسياسية، ولا سيما أن العراق لم يتضرر تقريبًا من الصراع الإقليمي. وبناءً على ذلك، وفي إطار استعدادها لاحتمال تجدد المواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة، أفادت التقارير أن إيران نقلت صواريخ وطائرات مسيرة متطورة إلى الميليشيات الموالية لها في العراق. والى جانب الضرورة العسكرية، كانت هذه أول انتخابات تُجرى بعد الحرب في إحدى ساحات نفوذ إيران الرئيسية في المنطقة. وهذا وحده يمنح طهران مسوغا لتقوية وكلائها، ودعم تنظيمهم، وتقديم المشورة لهم بشأن كيفية الرد (وأحيانًا كيفية كبح جماح ردهم) على الضغوط والتهديدات الأمريكية “.

و على وفق هذه الرؤية الاميركية والاسرائيلية تجاه المنطقة، لا يمكن أن تمارس الحكومة العراقية القادمة الدور الحيادي ذاته تجاه معادلة الصراع في المنطقة، في ظل التهديدات والحرب النفسية والاعلامية بين اسرائيل وايران ووكلائها. وهذا هو جوهر التحدي القادم، إذ لا بد من رؤية واضحة تجاه هذا الصراع وبما يجنب الدولة العراقية الاستباحة في ظل العنجهية وفائض القوة الاسرائيلية.

وعلى صعيد الاستحقاقات الوطنية، يبرز التحدي الأهم أمام القوى السياسية الفائزة في الانتخابات والمؤثرة في تأليف الحكومة القادمة وهو ضرورة حسم الاتجاه ، إما الاتجاه نحو الدولة والمؤسسات والقرار الوطني المستقل سياسيًا وامنيًا واقتصاديًا، أو الذهاب نحو الفوضى وتعريض العراق إلى مزيد من العقوبات الاقتصادية وربما الضربات العسكرية. وهنا نؤشر التحدي الابرز ، إذ أكد مبعوث الإدارة الاميركية (مارك سافايا) أكثر من مرة على ضرورة إبعاد الفصائل والجهات الموالية والمرتبطة بإيران عن منظومة الحكم القادمة، وهو عكس ما كان سائدا في تأليف الحكومات السابقة. ويبرز التحدي من إن هذه الجهات غير المرغوب بها اميركيا قد حصلت على أكثر من ثلث أعضاء مجلس النواب القادم. ولهذا نرى أن القوى المؤثرة بالمشهد السياسي والمتحكمة به وتحديدًا قوى الاطار التنسيقي استلمت مضمون الرسالة الاميركية، الا إنها لا تدرك خطورة صدها والعمل بما يعارضها.

       ويمكن فهم الرؤية الاميركية تجاه المنطقة من خلال الآتي: فعلى الرغم من وجود الخط المعتمد على التهديد باستعمال القوة في إزالة التهديدات الأمنية من جانب ايران واذرعها في المنطقة للمصالح الاميركية وامن اسرائيل، كما يجري ضد لبنان وايران ونسبيًا مع سوريا، هناك خط موازي تتبناه الإدارة الاميركية قائم على المفاوضات، وخفض التصعيد، ومنح الوقت لمزيد من التفاهمات لإزالة تلك التهديدات، ودفع المنطقة إلى السلام والاستقرار، وهذا الخط واضح بشكل نسبي في سوريا والعراق. والحكومة العراقية مطالبة بدعم هذا المسار عبر بناء مؤسساته الوطنية ، وتعزيز استقلالية قرارة الوطنية بعيدا عن التأثير الايراني داخليًا، وعبر دعمه لتفاهمات السلام وخفض التصعيد اقليميًا.

      لهذا نرى إن وجود حكومة متحكم بها من الكتل السياسية لن يكون ذا جدوى في مواجهة هذه التحديات غير التقليدية، والتي تتطلب قرارًا سياسيًا قويًا وحاسمًا باختيار الاتجاه المناسب والداعم للمصالح الوطنية. وهذا ما ينبغي أن تدركه قوى الاطار التنسيقي في اختيارها لرئيس الحكومة القادمة، فمنهج التحكم والسيطرة على رئيس الحكومة ومؤسسات الدولة لن يخدم المصالح العراقية على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية.