بقلم: رئيس التحرير
عندما تكلَّم ارسطو عن قواعد الحكم المستبد، جعل الفقر أحدها إلى جانب الفساد والجهل، ويكاد يكون الفقر القاطرة المميتة التي تقود المجتمع نحو تدميره الذاتي تمهيدا لإخضاعه من قبل أصحاب السلطة والنفوذ المنحرف.
لقد خلصت التجربة التاريخية للبشر، باختلاف مشاربهم الفكرية والعقائدية والاثنية، إلى حقيقة لا جدال حولها مفادها: إنَّ الفقر هو العدو الأول للحرية، سواء كانت فردية أم جماعية؛ فالفقراء تسحق كرامتهم الاجتماعية، وتقل معارفهم ومهاراتهم النظرية والعملية، وتدفعهم ظروف حياتهم البائسة لتقبل القيود والأحكام الكثيرة التي تتناقض مع إرادتهم وفعلهم الحر. لذا تجد الفقير محطَّما، وذليلا، مسلوب الإرادة، يحيا مهموما بحاجات يومه، أما المستقبل فخارج عن إطار المفكر فيه لديه. أما الكارثة الكبرى فتكمن في أنَّ الفقر وما يرتبط به من منظومة قيم وسلوك غالبا ما يجري توريثه من الآباء إلى الأبناء والاحفاد.
وعليه، تجد أنَّ معظم الطغاة والجبارين وأصحاب الطموح الأعمى فهموا قيمة الفقر في اخضاع المجتمعات التي يرومون حكمها، فتراهم يحرصون كل الحرص على زيادة نسبة الفقر بين الناس لحرمانهم من أبسط مظاهر العدالة في توزيع الدخل والثروة، والعلم والمعرفة.
إنَّ إدراك حجم التأثير السلبي للفقر على بناء الانسان يجعل أي نظرية سياسية أو توجُّه إصلاحي لبناء الدولة الحديثة محفوفا بالمخاطر، ولا يُكتب له النجاح ما لم تكن محاربة الفقر في سلم أولويات عملها/عمله. فتحرير الانسان من فقره يعني تحرير إرادته الحرة الخلاقة، وإطلاق طاقاته الحيوية وروح الأمل والمغامرة لديه، ليصبح هو أداة التغيير والبناء الجديد. فالرفاه الاقتصادي، ليس ضمانة للإنسان فقط، بل هو ضمانة لازمة ومهمة للدولة أيضا. لذا نرى أنَّ جميع الدول المدنية التي حققت مستوىً متقدما من الاستقرار هي نفسها الدول التي لديها مستوى متقدم من الرفاه الاقتصادي، إذ يكاد ينعدم الفقر بين سكانها. كما تجد أنَّ رقة الطباع، والسلوك الحضاري للمجتمع، وانخفاض مستويات العنف والتطرف – الفكري والسلوكي-تتناسب طرديا مع مستوى الرفاه الاقتصادي العام، وعكسيا مع مستوى الفقر.
صفوة القول، إذا أسقطنا ما تقدَّم أعلاه على الواقع العراقي الذي وصل فيه الفقر لمستويات مخيفة، سنجد حاجة ملحة لإطلاق جرس الإنذار بوجه صانع القرار من أجل التعجيل بوضع استراتيجيات واقعية وملموسة وحاسمة لمعالجة الفقر بين السكان، فاستمرار نسب الفقر المرتفعة ينذر بعواقب وخيمة على الدولة والانسان في العراق، قد تصل إلى حد إسقاط المدنية والديمقراطية وإعادة انتاج تيارات العنف والجريمة والإرهاب والدكتاتورية من جديد.