أ. م. د. حيدر خضير مراد اليساري
باحث مشارك في قسم الدراسات السياسية/ مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء.
تشرين الأول 2022م
أولاً- نبذة عن نشأة الدولة البويهية وقيامها:
ظهر بنو بويه على مسرح الأحداث السياسية والعسكرية في أوائل القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، في بلاد الجبال قرب بحر قزوين، بقيادة الأمير علي بن بويه وهم من الديلم، في وقت أخذ الضعف يدب في أوصال الدولة العباسية، فقد كانت هذه الحقبة بالذات حافلة، إلى حد كبير، بضروب من الانقسامات الهائلة، وبقيام دويلات صغيرة منيت بها المملكة الاسلامية وانفصلت عنها، ولم يبقَ في يد العباسيين سوى بغداد وأعمالها محتفظين بسيادة معنوية على هذه الدويلات المنفصلة عنها، التي كانت تقدم للخليفة العباسي الدعاء والخطب في المساجد أيام الجمع والأعياد وفي المناسبات الدينية، وتشتري منه الالقاب.
وبعد سلسلة من المواقع الحربية مع بعض القوى المحلية في إيران، تعاظمت قوة البويهيين ونفوذهم، فزحفوا جنوباً باتجاه ناحية بلاد فارس، وذلك بقيادة الحسن بن بويه، وأحكموا سيطرتهم عليها سنة 322 هـ/ 934 م، وبعد أن استقرت لهم الأمور في هذه البلاد، توجهوا غرباً إلى العراق مركز الخلافة العباسية، وبسطوا نفوذهم على بغداد سنة 334 هـ / 945 م، وبذلك تمكن البويهيون من تأسيس إمارات وراثية، تتكون من ثلاثة فروع بويهية، يحكم أحدها في بغداد إضافة إلى فرعيها في كل من شيراز والري، دامت حتى عام 447هـ/ 1055م. وقد أدى نظام الوراثة هذا، إلى ايجاد نوع من الاستقرار السياسي في دولة الخلافة العباسية، سيطر البويهيون في أثنائها على مقاليد الأمور، وتصرفوا بشكل مطلق، لكن هذا الاستقرار كانت تشوبه بعض الاضطرابات الناتجة عن النزاعات المذهبية.
ثانياً- التسامح المذهبي خلال العصر البويهي:
على الرغم من كل ما يثار من قبل بعض المؤرخين والكتاب ضد البويهيين، بأنَّ السمة الغالبة على تاريخهم في العراق وبغداد، هي كثرة الفتن والمنازعات المذهبية بين الشيعة والسنة، وأنّهم كانوا منحازين بشكل واضح للمذهب الشيعي بفعل انتمائهم إليه، إلا إنَّ ذلك لا يعدو كونه مجرد تهم وافتراءات مغرضة، لا تنسجم مع حقيقة الواقع التاريخي للدولة البويهية، فقد انتهج البويهيون بشكل عام سياسة معتدلة تجاه جميع الميول والاتجاهات والفرق، ولم يتحزبوا لفئة معينة على حساب فئة أخرى، ولم ينحازوا إلى رأي خاص ويتعصبوا له دون غيره من الآراء، بل تركوا الناس أحراراً في معتقداتهم وآرائهم، ذلك إنَّهم كانوا يدركون أنَّهم رجال دولة، وأرباب سياسة، وأنَّ همَّهم الأكبر يجب أن يتجه إلى إقرار الأمن والنظام، ولكي يحقق الحاكم هذا الغرض، عليه أن يساوي بين الناس جميعاً، وأن يضع نفسه فوق الاعتبارات الضيقة، وأن لا يتدخل في الشؤون الخاصة بالرعية، ليتسنى له فرض سلطانه عليهم جميعاً، وليستجيبوا لأمره استجابة طوعية تحقق الغرض المقصود من إقامة الدولة.
يدل على ذلك انهم على الرغم من انتمائهم المذهبي للتشيّع، كانوا يفرضون أوامر مشددة ضد الشيعة إلى حد أنّهم قد منعوهم من إقامة شعائرهم الدينية، وأقدموا على نفي الشيخ المفيد عن بغداد، فغادرها في عامي: 393 و398هـ/ 1003 و1008م، بعد الحوادث الطائفية التي وقعت بين صفوف المسلمين.
وعلى الرغم من أنَّ المعروف عن الشيخ المفيد، أنه كان بعيداً عن تلك الأحداث والفتن، وليس له ضلع فيها، إلا إنَّه كان قد اتخذت تدابير صارمة من قبل السلطة البويهية ضد السنة عن طريق منعهم من إقامة مراسيمهم، وتمت معاقبة بعض الاتراك الذين كانوا يؤيدون تلك التوجهات، لذلك قام الحاكم البويهي بإبعاد زعيم الشيعة مؤقتاً كي يثبت حيادية السلطة للجميع.
وقد تبيّن لعامة الناس أنَّ البويهيين كانوا أفضل ممن سبقهم من الحكام، إذ إنّهم، وعلى الرغم من كونهم شيعة، لم يحاولوا تسليط أبناء مذهبهم على أهل السنة، وكانت مرونتهم في الخلافات الدينية باعثاً على حفظ التوازن السياسي، فساد الهدوء في عصرهم، وازدهرت العلوم بسبب سياسة الانفتاح واللين التي مارسوها، ولإطلاقهم الحرية الدينية والحرية الفكرية والحرية القلمية، وقد ظهر ذلك واضحاً في عهد عضد الدولة البويهي (367– 372هـ /978- 983م)، الذي كان يؤثر مجالسة الأدبـاء على منادمـة الأمـراء، والذي قام بتقريب المتكلم الأشعري أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، وانتدبه في مهمة خاصة الى ملك الروم. وإذا تأملنا في الاتجاه المذهبي لكلا الرجلين فإنّنا أمام دليل واضح على مدى تسامح السلطان البويهي عضد الدولة واتساع أفقه.
ومن الدلائل الأخرى التي تؤكد التسامح المذهبي للبويهيين، انتعاش حرية الفكر والرأي خلال العصر البويهي، إذ عادت بغداد – كما كانت عليه في العصر العباسي الأول – كعبة للعلم والثقافة، حيث برز الكثير من العلماء الكبار والمفكرين من مختلف المذاهب، كالمعتزلة والاشاعرة والشيعة الإمامية والحنابلة، ومنهم على سبيل المثال أبي الحسن محمد بن الطيب البصري (ت436هـ/1044م)، وأبي محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف (ت381هـ/991م)، الذي كان يشغل منصباً عالياً في القضاء حتى لقب بقاضي قضاة الدولة العباسية، وهما من كبار علماء المعتزلة في ذلك العصر.
وبرز أيضاً محارب بن محمد المعروف بأبي العلاء القاضي الشافعي (ت359هـ/970م)، ومحمد بن أحمد بن العباس المعروف بأبي جعفر السلمي النقاش (ت379هـ/989م)، وعلي بن عيسى الرماني (ت384هـ/994م) وهم من أكابر العلماء المتكلمين على المذهب الأشعري.
أما الشيعة الإمامية فإنّهم قد استطاعوا خلال هذه الفترة، أن يوسعوا نطاق أفكارهم وينظموا عقائدهم وأحاديثهم، عن طريق الحرية النسبية التي كانت موجودة على امتداد الحكم البويهي الذي دام مائة وثلاث عشرة سنة، فنبغ العديد من مفكري الشيعة الامامية وعلمائها، ومن أبرزهم الشيخ المفيد أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان (ت 413هـ /1022م)، والشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين (ت 406 هـ /1015 م)، والشيخ الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي (ت 460هـ /1068م) وغيرهم من العلماء والمفكرين على مذهب الإمامية.
أمّا الحنابلة فقد برز منهم أحمد بن سليمان المعروف بأبي بكر النجاد (ت348هـ/1057م)، الذي كان له حلقتان في جامع المنصور في أيام الجمع، أحدهما للفتوى والأخرى لإملاء الحديث، وأبي بكر عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال (ت363هـ/ 974م)، والقاضي أبو يعلى محمد بن الحسين المعروف بابن الفراء (ت458هـ/1066م)، أعظم فقهاء الحنابلة خلال العصر البويهي.
وهكذا انتعشت الحياة الفكرية والعلمية خلال هذا العصر، بفعل أجواء الحرية الفكرية والانفتاح العلمي على كل المذاهب، في ظل حكم أمراء بني بويه، الذين تبنوا سياسة التسامح الديني والمذهبي تجاه جميع مكونات المجتمع.
ربما شكّل البويهيون ضمانة لحساب الشيعة، وتنامي حضورهم الفكري والثقافي، لكنهم لم يبادروا إلى أي خطوة من شأنها تهديد الحضور السني بكل تلويناته وتنوعاته، فقد ساد التوازن بين المذاهب الفقهية والكلامية في العراق طوال العصر البويهي، وهذا يدل على مدى تسامح البويهيين وحياديتهم تجاه جميع الفرق والمذاهب الاسلامية، وقد كان لهذه السياسة المتسامحة أثرها الكبير في ازدهار الدولة البويهية ورقيها وتمدنها خلال تلك الفترة من التاريخ الإسلامي.
إنَّ أعداء الأمة الإسلامية يخططون في المرحلة الحالية والقادمة، لاستغلال خلافات المسلمين المذهبية والعرقية، لإغراقهم في فتن وحروب أهلية داخلية تهلكهم، وقد بدأوا بالفعل، لذلك يجب علينا الان، وبعد تعاقب هذه الحقب التاريخية على أمتنا الإسلامية وبلادنا الغالية، أن نتصفح هذه الاوراق الفاخرة والاصيلة التي نحن اليوم في أمس الحاجة لاستحضارها وقراءتها مجدداً، واستنباط الدروس والعبر منها، لندرك الخلل والاضطراب الفكري، الذي عبث في أذهاننا، وبدل إنسانيتنا، وقسَّم وحدتنا، فتاريخنا مليء بمحطات ثرية وجديرة بالبحث عنها والاطلاع عليها، لننهل من قيمها العالية ومبادئها السامية وحياتها الكريمة، فالتسامح والمحبة هما أصل تاريخنا وجوهر انسانيتنا، وأمّا العداوة والفتن فهي الدخيلة والمدمرة لمجتمعنا وأوطاننا، فظاهرة التسامح الديني والمذهبي كانت من أبرز ملامح الدولة البويهية عند مقارنتها بغيرها من الدول والامارات المعاصرة لها، على الرغم من التشويه والاتهامات التي نالت هذه الدولة من قبل بعض المؤرخين والكتّاب، لذلك يجب دراسة تاريخ البويهيين بمنهج علمي محايد يبين الصورة الحقيقية لدولتهم، بعيداً عن التعصب الأعمى المريض الذي يقوم على عدم الإنصاف وطمس الحقائق التاريخية.
المصادر والمراجع:
1 – ابن الأثير، علي بن محمد الجزري الشيباني (ت630هـ/1233م)، الكامل في التاريخ، تحقيق: عبد الله القاضي، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1407هـ / 1987م)، ج7.
2 – ابن خلكان، أحمد بن محمد (ت681 هـ/ 1282 م)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، (بيروت: دار صادر، 1414هـ / 1994م)، ج2.
3- الذهبي، محمد بن أحمد (ت748هـ/ 1347م)، سير أعلام النبلاء، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وصالح السمر، ط1 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1403هـ/1983م)، ج16.
4 – طقوش، محمد سهيل، تأريخ الدولة العباسية، ط5 (بيروت: دار النفائس، 1426هـ/ 2005م).
5 – سلهب، حسن، تأريخ العراق في العهد البويهي دراسة في الحياة الفكرية 334 – 447هـ/ 945–1055م، ط1 (بيروت: دار المحجة البيضاء، 1429هـ /2008م).
6 – فضل الله، علي محمد جواد، النظريات الكلامية عند الطوسي، ط1 (بيروت: دار المحجة البيضاء، 1422هـ/2001م).