أ. م. د. حيدر خضير مراد اليساري
باحث مشارك في قسم الدراسات السياسية/ مركز الدراسات الاستراتيجية/ جامعة كربلاء.
أيار 2023م
لا يمكن إغفال أهمية العامل السياسي في نشوء الفرق والمذاهب الاسلامية، ومنها فرقة المعتزلة، فقد أدت الظروف والمشكلات السياسية التي عاشها المسلمون منذ مصرع الخليفة الثالث، دورًا كبيرًا في تكوين الفرق الدينية والسياسية في تاريخ الاسلام، ومنها فرقة المعتزلة التي ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، وكان لها دور كبير في تطوير الفكر الاسلامي، فقد عاش رجال المعتزلة في عصر المشكلات السياسية الكبرى التي ألمّت بالأمة الاسلامية، وأبدوا آراءهم في جميع المسائل السياسية، التي كانت موضع جدل ونقاش في عصرهم، وكانت آراؤهم وأفكارهم السياسية، موجودة ضمن طيات طروحاتهم وبحوثهم الكلامية، ومنهم إبراهيم بن سيار النظام، الذي يعد من أبرز أعلام الفكر الاعتزالي، والذي كانت له آراؤه وأفكاره الفريدة والمتميزة في مجال التنظير السياسي، والتي تعدّ رافدًا مهمًا من روافد الفكر السياسي الإسلامي.
وهو أبو اسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام(1)، أحد كبار شيوخ المعتزلة في البصرة، والمساهمين في تأسيس مذهب الاعتزال، ودمج الفلسفة اليونانية بالفكر الإسلامي، فقد تبحر في علوم الفلسفة، واطلع على آراء الفلاسفة من طبيعيين وإلهيين(2)، قال الجاحظ عنه: “الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحًا فهو أبو اسحاق النظام”(3).
لا تعرف السنة التي ولد فيها بالبصرة على وجه الدقة، وهو ابن أخت أبي الهذيل العلاف شيخ المعتزلة في البصرة ورئيسهم بعد عمرو بن عبيد، ولعل ذلك ما جعله يشغف بالاعتزال منذ نشأته، ويظهر أنَّ خاله عني به وبتثقيفه عناية كبيرة، وهي عناية صادفت فيه عقلًا خصبًا وذكاءً نادرًا(4)، وكان خاله بارعًا في المناظرة وقطع الخصوم بالحجج الساطعة، فتلقن ذلك عنه(5).
كان كثير التردد على بغداد منذ عصر هارون الرشيد، حتى إذا كانت سنة 220هـ/ 835م اختارها دار مقام له، وعقد لنفسه بمسجدها الكبير حلقة للمناظرة، قرر فيها مذهبه الاعتزالي الذي نسب إليه، فتبعه خلق كبير عرفوا بـ “النظامية” نسبة إليه(6).
وقد عاصر الخليفة هارون الرشيد والخليفة المأمون واتصل بالبرامكة، ولكن شهرته الحقيقية كانت في عهد الخليفة المعتصم، حيث أسس مدرسة مستقلة لمحاربة فلسفة الدهريين، كما حارب في بغداد المرجئة والجبرية والمحدثين والفقهاء(7)، توفي ببغداد سنة 221هـ/ 836م وقيل سنة 231هـ/ 748م(8)، وله مؤلفات كثيرة في الفلسفة والاعتزال، منها: كتاب التوحيد، والرد على الدهرية، والرد على أصحاب الاثنين، والجزء، والرد على المرجئة، وغيرها من الكتب(9).
آراؤه السياسية:
لم تعرف الأمة الإسلامية معضلة فرقت شملها واذهبت ريحها مثل معضلة الخلافة، فقد كانت “الإمامة” المشكلة الرئيسة الكبرى، التي تركز حولها الصراع السياسي بين المسلمين، وهذا ما جعل أحد مؤرخي الفرق الاسلامية، يقول: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية، مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان”(10)، وبذلك كان الاختلاف حول الخلافة، من أهم العوامل في ظهور العديد من الفرق الدينية والسياسية، واستمرار النزاع بينها في ميدان القتال، واحتدامه في مجال الفكر والنظر والمناقشة.
ولقد انفرد النظام برأيه الخاص في مسألة الإمامة، مخالفًا المشهور عن جمهور المعتزلة في هذه المسألة، إذ قال: “لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرًا مكشوفًا، وإنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصَّ على علي “رضي الله عنه” في مواضع كثيرة، وأظهره إظهارًا لم يشتبه على الجماعة، إلا أنَّ بعض كبار الصحابة كتموا ذلك، وهم الذين تولوا بيعة أبي بكر يوم السقيفة”(11). ومن هذا يتضح أنَّ النظام يرى أنَّ الإمامة لا تثبت إلا بالنص والتعيين، وأنَّها لم توجد إلا في علي بن أبي طالب (عليه السلام).
والنظام برأيه السياسي هذا يخالف المشهور عن جمهور المعتزلة، والتي ترى: “أنَّ الإمامة يستحقها كل من كان قائمًا بالكتاب والسنة، وأنَّها لا تكون إلا بإجماع الأمة واختيارها”(12)، وترى أنَّ الله عزَّ وجلَّ لم ينص على رجل بعينه، ولا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (13).
وقد خاض المتكلمون في مسألة أفضلية الامام، فمنهم من يجوّز إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه، ومن المعتزلة القائلين بهذا الرأي جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب(14)، وقد خالفهم النظام وتلميذه الجاحظ في ذلك، إذ يقولان: “إنَّ الإمامة لا يستحقها إلا الأفضل، ولا يجوز صرفها إلى المفضول”(15)، وقد يكون لرأي النظام في أفضلية الإمام، علاقة بما نسب إليه من القول بعدم حجية القياس والاجماع، فإذا كان لا يطمئن إلى حجية القياس والإجماع، فربما يكون اعتماده على عصمة الامام كما روى الشهرستاني، ولذلك يوجب النظام أن يكون الإمام هو الأفضل بين أهل زمانه(16).
وأبدى إبراهيم بن سيار النظام رأيه السياسي، في الفريقين من أصحاب الجمل وأصحاب صفين، إذ إنَّه كان يرى أنَّ علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كان مصيبًا في حربه طلحة والزبير وغيرهما، وأنَّ جميع من حاربه كان على خطأ، ويستدل على ذلك بالقرآن(17)، كذلك يصوِّب النظام عليًا في أمر التحكيم، لما أبى أصحابه إلا التحكيم وامتنعوا من القتال، فنظر إلى المسلمين ليتألفهم(18).
والنظام برأيه هذا يخالف رأي الكثيرين من شيوخ المعتزلة، ومنهم مؤسس فرقة المعتزلة واصل بن عطاء، الذي كان يرى في الفريقين من أصحاب الجمل وصفين، “أنَّ أحدهما مخطئ لا بعينه”(19)، ويتابعه في هذا الرأي ضرار بن عمرو، وأبو الهذيل العلاف ومعمر بن عباد السلمي(20).
وكان النظام من أوائل من مارس النقد التاريخي، بحق الكثير من الشخصيات التاريخية التي عاصرت النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من كبار الصحابة، فاتّهم الخليفة الثاني بالشك يوم الحديبية، وخطّأه في أمور أخرى، كذلك عاب على الخليفة الثالث الأمور التي أخذت عليه من ردِّه الحكم بن أمية إلى المدينة، وهو طريد رسول الله، ونفيه أبا ذر الغفاري وهو صديق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتقليده الوليد بن عقبة الكوفة، ومعاوية الشام، وعبد الله بن عامر البصرة، وتزويجه مروان بن الحكم ابنته، وهم أفسدوا عليه أمره(21).
وانتقاداته الشديدة هذه لبعض كبار الصحابة، كانت مبنية على تحكيم الاتجاه العقلي في الروايات التاريخية، إذ كان النظام يعدّهم بشرًا مثلنا يصيبون ويخطئون، وهو بذلك يخالف المدرسة السلفية التي تراهم جميعًا عدولًا ومعصومين من الخطأ، وقد سببت له انتقاداته هذه هجومًا عنيفًا من قبل بعض مؤرخي الفرق الاسلامية، كعبد القاهر البغدادي الذي وصفه بالضال المضل(22).
هذه أهم الآراء السياسية لإبراهيم بن سيار النظام، والتي إن دلت على شيء فإنّما تدل على تحرره الفكري، وتحكيمه للعقل في المسائل السياسية التي كانت موضع جدل ونقاش في عصره، بعيدًا عن التعصب الأعمى.
كما أنّه استخدم النقد التاريخي، بحق الكثير من الشخصيات التاريخية التي عاصرت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من كبار الصحابة، مستخدمًا رؤية نقدية تاريخية مبنية على النزعة العقلية، في نقد الروايات التاريخية وتمحيصها، بعيدًا عن التأثر بالرؤية الايديولوجية لهذه المدرسة الفكرية أو تلك.
ونحن في عصرنا الراهن، بحاجة ماسة إلى إحياء روح التفكير العقلاني المنطقي، الذي كانت تمثله المعتزلة في التاريخ الإسلامي، عن طريق دراسة التراث الفكري السياسي والكلامي لهذه المدرسة، وإلقاء المزيد من الضوء عليه، من أجل الاستفادة من آراء المعتزلة العقلانية، ورؤيتها النقدية في معالجة مشكلات واقعنا الإسلامي الراهن، ومحاربة الفكر الارهابي المتطرف.
الهوامش :
- الزركلي، خير الدين، الأعلام، ط 16 ( بيروت: دار العلم للملايين، 2005م)، ج1، ص43.
- الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم (ت 548 هـ/ 1153م)، الملل والنحل، تحقيق: أحمد حجازي ومحمد رضوان، (المنصورة: مكتبة الإيمان، 1427هـ / 2006م)، ج1، ص51؛ جار الله، زهدي حسن، المعتزلة، (القاهرة: مطبعة مصر، 1366هـ / 1947م)، ص120.
- ابن المرتضى، أحمد بن يحيى (ت840هـ / 1437م)، طبقات المعتزلة، ط 2 (بيروت: دار المنتظر، 1407هـ / 1987م)، ص51.
- ضيف، شوقي، تأريخ الأدب العربي، ط1 (قم: مطبعة سليمانزاده، 1426هـ)، ج3، ص430.
- أمين، أحمد، ضحى الاسلام، ط7 (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1964م)، ج3، ص106.
- ابن تغري بردي، جمال الدين يوسف الأتابكي (ت 874 هـ / 1469م)، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تحقيق: محمد حسين، ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 1413هـ / 1992م)، ج2، ص 286؛ جار الله، المعتزلة، ص120.
- سزكين، فؤاد، تاريخ التراث العربي، ترجمة: محمود فهمي حجازي، (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية، 1411هـ / 1991م)، مج 1، ج4، ص68.
- ابن المرتضى، طبقات المعتزلة، ص52.
- ينظر: ابن النديم، محمد بن اسحاق الوراق (ت 385هـ / 995 م)، الفهرست، تحقيق: رضا تجدد، (طهران: مطبعة مهر، 1971 م)، ص206.
- الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص21.
- المصدر نفسه، ج1، ص51 – 52.
- النوبختي، أبو محمد الحسن بن موسى (ت حوالي 310 هـ / 922 م)، فرق الشيعة، تصحيح: هلموت ريتر، (استانبول: مطبعة الدولة، 1931م)، ص10.
- العمرجي, أحمد شوقي، المعتزلة في بغداد وأثرهم في الحياة الفكرية والسياسية، ط1 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2000 م)، ص86.
- الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي (463هـ / 1070م)، تاريخ بغداد أو مدينة السلام، تح: بشار عواد معروف، ط1 (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1422 هـ / 2001 م)، ج7، ص162– 163.
- أبو ريدة، محمد عبد الهادي، ابراهيم بن سيار النظام وآراؤه الكلامية الفلسفية، (القاهرة، 1946م)، ص176.
- المرجع نفسه، ص176.
- النوبختي، فرق الشيعة، ص13.
- المصدر نفسه، ص14 .
- الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص46.
- النوبختي، فرق الشيعة، ص13.
- الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص52.
- البغدادي، عبد القاهر بن طاهر التميمي (ت 429هـ / 1037 م)، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، تح: محمد عثمان الخشت، (القاهرة: مكتبة ابن سينا، د.ت)، ص120 – 121.