م.م جواد صالح مهدي النعماني
باحث مشارك في قسم الدراسات الدولية
22 شباط 2021
كثيرٌ ما أُنكِرَ على المفكر والسياسي الامريكي فرانسيس فوكوياما سطحيّه أطروحته – نهاية التاريخ والأنسان الاخير– ظناً بمجانبتها الواقع السياسي والاجتماعي السائد، لكنَ تَبصُّرها بقليل من التأمل يكشف عن أصول فلسفية اجتماعية وسياسية عميقة، لم يكن لفوكوياما بُدٌ حين التسليم بها إلا التسليم بنتيجتها، ولم يكن لنا بُدٌ في تبّيانها إلا انتهاج نهجا منطقي في التحليل نَميّز فيه مقدمات الاستدلال من نتيجته، ونُجيز لأنفسنا أعادة النّظر فيها على كثرة ما صدر حولها.
ذلك أن ثَمَّة طريقة أخرى في التحليل نجدها أبسط بيانا وأسد خطابا، فالأطروحة على سعتها تبتني على مقدمتين ونتيجة، أحداهما مُسلَّمة فلسفية مفادها: الشيء اذا بلغ غايته انتهى، إذ ليس وراء غايته غايةٌ يسعى لتحصيلها، ثانيتهما تمثل خلاصة بحث فوكوياما وما دأب لأثباته مؤداها: التاريخ قد بلغ غايته، فالنتيجة بعد حذف الحد المُتكرر بينهما بلا تردد: التاريخ انتهى.
وبناءً على هذه القراءة فإن أية مناقشة للأطروحة وأي حكم عليها بالنقض أو الإبرام – لسنا في مقام أي منهما – أنما يتوجه حال كونه مُصوّباً لِما أجتهد فيه وهو المقدمة الثانية، وليس إلى سواها من منابزة بالوقائع والأحداث المعاصرة أو بنتيجة الاستدلال الدالة بجملتها على عدم تدبرها أو تعقلها.
على أن المقدمة الثانية تنحل إلى ثلاثة فروض عقدَ فوكوياما لأجل اثباتها وتَحصَيّل مقدمته كتاباً بعد مقالة، والفروض هي:
اولاً: التاريخ غائي بمساره العام، بمعنى ان المجتمعات الانسانية تتطور باتجاه واحد، وليس بوسع أي شكل من اشكال التنظيم الاجتماعي أنْ يتكرر في مجتمع ما بعد تجاوزه، وإلا لزمنا القول بعفوية أو دورية التاريخ وأن يمكن فيه تكرار ما مضى من ممارسات اجتماعية أو سياسية كعودة أباطرة روما أو نظام الرق والمجالدة ونحوها.
أما الآلية التي تضفي على التاريخ غائيته، فَيَلتمِسُها واضع الأطروحة من مقالة أثنين من فلاسفة التنوير: برنار فونتنيل وفرانسيس بيكون من إن المعرفة العلمية مفتاحا لغائية التاريخ. سيّما العلوم الطبيعية الحديثة مما ليس للموهبة أو الاحتراف دور فيه، وانتخاب العلوم الطبيعية لعدم مخالفة أحد في تراكميتها وعدم عفويتها، ضرورة عدم عودة البشرية – بالظرف الطبيعي – إلى حالة الجهالة بعد خروجها منها.
ومع أزلية هذه الصفة للعلم لكنَ ثَمّة تغّيرا قد طرئ في مسار التاريخ نتيجة الاكتشافات
العلمية وتطبيقات المنهج العلمي الحديث مما أحدث فاصلا زمنيا بين ما سبق منتصف القرن الثامن عشر وما لَحِقَه، من ثَمَ فقد وفّر تطور العلوم المعنية آلية غائية لتفسير ما تلاها من أحداث وتطورات اجتماعية وسياسية، والشيء المهم ان تلك الغائية لم تكن محلية أو اقليمية في آثارها بل عالمية، وذلك لأن العلم قد أحدث مَزيّة عسكرية للمجتمعات القادرة على انتاج التكنولوجيا واستخدامها، فصيّر من احتماليّة الحرب دافعا قويا للدول والامم الفاقدة لها كي تُبقي على أمنها وسيادتها، أنْ تتبني تكنولوجيا اعدائها وأنْ تحاول إعادة بناء انظمتها الاجتماعية لتكون أكثر قدرة وكفاءة، وحينئذٍ لا سبيل لها إلا قبول العقلانية التكنولوجية للحداثة وتبني البنية الاجتماعية الداعمة لها والمتمثلة بحضارة الغرب، وذات الأثر كان لدور العلم في تذليل الطبيعة وصناعة جودة الحياة، الدال على كفاءة النُظم الراعية له وحُسن إدارتها، الأمر الذي يفرض أدخال تغييرات واسعة متناسقة في نُظم الغير وبنيتها الاجتماعية، وجميع ذلك يُنبا عن غائية تاريخية وعن إنقداح تحولات اجتماعية سياسية متجانسة في مختلف الامم والحضارات الكائنة.
ثانياً: تطور العلوم سيُفضي تلقائيا إلى الرأسمالية في المجال الاقتصادي، بحجة إن ما نألفه من ابتكارات تكنولوجية ونُظم رشيدة منتجة لها, سيفرضان على مجتمعات ما بعد الصناعة طابعا معينا من تَعَقُد الاقتصاديات ولزوم كفاءة الادارات ونمو قطاعات الماليّة والبنوك ونحوها، وحيث أن جميعها تتطور باتجاه النظام الرأسمالي ستتشكل حوافز قوية لدى بقية المجتمعات للاندفاع صوب الرأسمالية الغربية بعد نجاحها في مواجهة التقلبات وتحقيق الحداثة الاقتصادية الكاملة.
ثالثاً: العلم والمعرفة سيُفضيان تلقائيا إلى الديمقراطية الليبرالية في المجال السياسي، بحجة ان التصنيع وهو نتيجة العلم والإدارة الناجحة، سيخلق مجتمعات عريضة من الطبقة الوسطى تنشد المساواة والمساهمة السياسية على اساس متكافئ، والتي ستجنح إذما حُرمت ذلك إلى معارضة أنظمتها السياسية، والديمقراطية الليبرالية هي البديل الأقدر في هيكليته على إحداث التنمية، والاوحد في عالميته بعد انهيار الديكتاتوريات وعجزها عن ادارة مجتمع ما بعد صناعي، وهذان العاملان سيدفعان الشعوب حثيثا أن تتنافس الديمقراطية الليبرالية وأن تقتبس تجربتها بعقد التحالفات أو بتقديم التنازلات.
من ثَمَ ينحو فوكوياما منحا آخر في الاستدلال حين إقراره بان البواعث وراء اختيار الشعوب للديمقراطية الليبرالية ليست مادية فقط، بل ثَمّة بواعث أخرى أشد تأثيرا وأبلغ أثرا، وهي منشأ جميع انفعالات الانسان وثوراته وتوجهاته الدينية والقومية والايديولوجية.
وتلك البواعث يرصدها في قراءة هيجل لتاريخ الإنسانية، إذ يعتبر إن المحرك الرئيس لمسار التاريخ ليس حافزا اقتصاديا، بل ما اصطلح عليه “بالسعي من أجل نيل الاعتراف والتقدير” ورؤية التاريخ بهذه الطريقة هي التي تعيننا على فهم الانسان من حيث هو انسان، وتمنحنا تفسيرا
معقولا لجميع توجهاته وانفعالاته وحروبه.
وحيث أن مسارَ التاريخ بحسب الديالكتيكية الهيجلية – الماركسية مسار من التناقضات، فأيما يظهر شكلا من اشكال النُظم السياسية والاجتماعية وتظهر فيه تناقضات داخلية، فإنها سَتُفضي إلى زعزعته واستبداله بآخر مختلف عنه وأكثر نجاحا منه.
وقد ثبت لدى فوكوياما إن النظام الديمقراطي الليبرالي خالٍ من التناقضات التي ستؤدي إلى استمرار مسار التاريخ المُستبدل له بآخر أفضل منه، وما نلمحه فيه من اضطرابات أو تعثرات فهي مشكلات لا تناقضات، إذ لم تبلغ من الخطورة حدا يسلبه شرعيته ويهدد بقاءه. وحيث إن التنظيم الاجتماعي السياسي والمتمثل بالحضارة الغربية كائن بلا منافس ومرضي للبشرية بخصائصها الجوهرية أمكن القول: إن التاريخ قد بلغ غايته.
عطفا على ما مَرَ: إن فلسفة التاريخ عند فوكوياما تنشأ من رؤيته لتساقط الايديولوجيات وتهاوي الافكار السياسية، خلا حضارة الغرب بأيديولوجيتها الليبرالية الديمقراطية واقتصادها الرأسمالي، وبعلوها فوق التناقضات ومنحها الانسان ما يصبو إليه وما يليق به من الاعتراف وتقدير الذات، فقد اجتازت التاريخ وبلغت مرحلة ما بعده، ولذا سوف تتجه الانسانية صَوبها بعقلانية ومنطقية، وسَتغدو مصدرَ الهام تنجذب إليه الشعوب مُتطلعة نحوها مُحتذية حذوها.
ختاماً لا مجازفة في عَدّ تصوّرات فوكوياما لنهاية التاريخ ضمن الرؤى التفاؤلية المتنبئة بإمكان الوفاق والسلام العالمي، غير إن هذا النهج من التفكير أقرب إلى توجهات الشرق ومكنونات افكاره منه إلى الغرب، إذ لا يتلاءم على المستوى النظري مع أهم الأفكار والمبادئ الغربية كالنفعية البراغماتية والذرائعية الداعيتين لتوظيف الفكر لا لتوصيف الواقع بل لإنجاز الأهداف وتحقيق اقصى المنافع، كما لا ينسجم مع التوجهات السياسية لدول الغرب سيما الولايات المتحدة في التزامها مبدأ الشمولية أو الكُليَّانية – على ما نسظهره – المُبرر لسعيها لفرض سلطتها السياسية والاقتصادية والثقافية على بقية دول العالم والتحكم بمصائرها.
أما على المستوى العملي فنظرية نهاية التاريخ كما بقية النظريات السياسية موسومة بالنسبية، بمعنى أن يكون لها حضورا في بعض الخطابات والممارسات السياسية وغياباً في أخرى، فكثيرا ما نجد قيادات الغرب تتحدث أو تمارس أدوارا عالمية وكأن التاريخ قد انتهى على اختيارهم واستقر على فرض سلطتهم المطلقة على بقية الأمم والحضارات، وكثير ما نجدها خلاف ذلك بأن تعبئ الموارد وتستنهض الجماهير لمواجهة المخاطر التي تهدد أمنها ودوام وجودها، مما ينسجم ونظرية (صدام الحضارات) لهنتنغتون، والتي صاغها بانتهاج نهجا شموليا (Meta theory) قائم على استقصاء النقاط والمحاور الرئيسة في نظرية فوكوياما ثم الانتقال منها الى استخلاص النتائج وطرح رؤيا مغايرة لها أو بالضد منها.
رؤية نقدية
أثار هذا الكتاب الكثير من الجدل عند نشره، وما يزال قيد النقاش والمراجعة حتى اليوم بعد ثلاث عقود على نشره. لقد انقسم النُقاد حوله بين مؤيدين ومُنكرين لفرضية نهاية التاريخ. فمثلا، أشاد “آلن بلوم” أستاذ فوكوياما السابق بجامعة كورنيل، بهذا المقال. وصف بلوم المقال بالجرأة والعبقرية، وقال إنه لم يكن آخر كلمة في نقاش هام. وقال بلوم إن فكرة الحرية والمساواة انتصرت في إقناع العديد من شعوب العالم بتقويض المبادئ الثقافية والسياسية البديلة للعدالة.
وكذلك، صرح “هارفي مانسفيلد” أحد أستاذة فوكوياما في جامعة هارفارد، أن حنكة فوكوياما الفلسفية أفضل من مُنظري العلوم السياسية الذين يجترّون طروحات إيمانويل كانط. قال مانسفيلد إنه لا يمكن تجاهل نهاية التاريخ أو التخلي عنها لأنها تجسد آمالنا وشكوكنا، وقد أوضحهما فوكويوما ببلاغة. نهاية التاريخ منطقية ومتسقة مع إيماننا بالتقدم. إذا كان التقدم نحو حياة أفضل، يجب أن يكون له منتهى في دورة حياة كاملة. يجب أن يكون لدى المجتمع فهم لهذا الكمال. ومن ثم، من دون بوصلة لنهاية التاريخ، لن نكون قادرين في الحكم على ما إذا كنا نتقدم أم نتراجع في المسير.
بينما ومن زاوية أخرى، كتب صموئيل هنتنغتون مقالاً في عام 1993 بعنوان “صراع الحضارات” كرد مباشر على كتاب “نهاية التاريخ”. ثم قام بتوسيع المقال إلى كتاب صدر عام 1996 بعنوان “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”. جادل هنتنغتون في المقال والكتاب بأن الصراع المؤقت بين الأيديولوجيات يتم استبداله بالصراع القديم بين الحضارات. وتقرر الحضارة المهيمنة شكل الحكومة البشرية، ولن تكون هذه ثابتة.
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، استشهد بعض النُقاد بـ “نهاية التاريخ” كرمز للسذاجة المفترضة والتفاؤل غير المبرر للعالم الغربي خلال التسعينيات. في الأسابيع التي أعقبت الهجمات، وصف فريد زكريا الأحداث بأنها نهاية “نهاية التاريخ”، بينما كتب جورج ويل أن التاريخ “عاد من العطلة” !!
كما افترض نقُاد اخرين بأن عودة “القوى الاستبدادية” الى مرتبة “القوى العظمى” -كما في الصين وروسيا على سبيل المثال- يشير إلى أن نجاح هذين البلدين يمكن أن يُنهي فكرة “نهاية التاريخ”. وقد جادل هؤلاء النُقاد في أن التحدي المتمثل في الصين وروسيا يمثلان التهديد الرئيسي لأطروحة نهاية التاريخ، حيث يمكن أن يشكلوا نموذجًا منافسًا قابلاً للتطبيق يُمكن أن يُلهم الدول الأخرى.
وفي تقديرنا الخاص، فإن أخطر تهديد لفرضية نهاية التاريخ قد لا يتمثل في وجود نموذجا أعلى وأفضل موجودا بالفعل أو سيحل يوما ما محل الديمقراطية الليبرالية -فلا التعصب الديني ولا الأيديولوجية الصينية ممكن ان تعزلها- وانما أكبر مشكلة تواجه الحكومات المنتخبة ديمقراطيا في بعض البلدان تتمثل في “فشلها في توفير جوهر ما يريده الناس من الحكومة: الأمن الشخصي، التنمية الاقتصادية الحقيقية والمستدامة، الخدمات العامة الأساسية، العدالة في توفير الفرص الفردية،…”. وتعد الثورة البرتقالية في أوكرانيا والربيع العربي أهم الشواهد المعاصرة التي تشير الى فشل الديمقراطية في تحقيق أهدافها. ومن ثم، فأن تراجع بريق النموذج الديمقراطي باعتباره المحطة الأخيرة في التاريخ الإنساني، لم يحدث بسبب أيديولوجية ما أو نموذج قيمي اخر نشأ كمعادل موضوعي للديمقراطية الليبرالية وإنما حدث بسبب الفساد والانحلال السياسي الذي يرافق الديمقراطية كما رافق المحطات غير الديمقراطية السابقة.