أ.م.د. حمد جاسم محمد
قسم إدارة الأزمات
مركز الدراسات الإستراتيجية –جامعة كربلاء
21 شباط 2022
تقع أراضي المنطقتين في شرق أوكرانيا على الحدود مع روسيا، والتي تعرف بإقليم دونباس، إذ تسكن أقلية روسية في تلك المنطقة، وتقدر نسبة السكان الروس في أوكرانيا حوالي (17%)، وهي تعد منطقة مهمة لمناجم الفحم في أوكرانيا، فضلا عن خصوبة سهولها ولاسيما مزارع القمح،التي تعد سلعة مهمة يتم تصديرها لعدد من دول العالم. وقد ظهرت هذه المنطقة إلى الساحة العالمية عام 2014، بعد الاحتجاجات التي شهدتها اوكرانيا ضد الرئيس السابق (فيكتور يانوكوفيتش) المدعوم من روسيا، إذ دعمت روسيا بعض الفصائل المسلحة في المنطقة والسيطرة على المباني الحكومية فيها، واعلنوا استقلال المنطقة باسم جمهوريتي:لوغانسك ودونيتسك، وقد نشب نزاع مسلح بين الانفصاليين والحكومة الأوكرانية، تسبب في مقتل عشرات الآلاف وتهجير الكثير منهم، إلا أنّ الحرب توقفت بعد توقيع اتفاق مينسك عام 2015، غير أنَّ الاتفاقية لم تطبق، بسبب اختلاف وجهات النظر وعدم الجدية في تطبيقها، وظلت المنطقة في حالة توتر مستمر، حتى اعلان روسيا الاعتراف باستقلال منطقتي: لوغانسك ودونيتسك في يوم 21 شباط 2022 كجمهوريتين مستقلتين، بعد طلب مجلس الدوما الروسي من الحكومة الاعتراف بهما، وعقد عدد من الاتفاقيات السياسية والعسكرية والأمنية بينهم، وقد كانتهناك عدة أسباب وراء هذا الاعتراف الروسي باستقلال المنطقة، ومنها:
1-
وجود هواجس روسية، ومخاوف من الاصوات الرسمية والشعبية في اوكرانيا المعادية لروسيا، بل ودعوات للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوربي،وبناء شراكة عسكرية معهم، وهو ما تعدّه روسيا عملا معاديا لها، ولاسيما ان وصول الحلف إلى حدود روسيا الجنوبية يشكل خطرا على أمنها القومي، لهذا فان هذا الاعتراف باستقلال الجمهوريتين، يعد عامل ضغط عليها، بل انهاء دورها كقوة مهمة للغرب وحلف الناتو، لأن فصل منطقة شرق أوكرانيا (دونباس) وضمها إلى روسيا، سوف يفصل اوكرانيا عن البحر الاسود وجعلها غير ساحلية، فضلا عنفقدانها أهم ركائز القوة الاقتصادية، وهي مناجم الفحم والاراضي الزراعية الخصبة، وهو ما يحول اوكرانيا من دولة حليف للغرب وقاعدة له، الى دولة تحتاج الى مساعدات وتثقل كاهلهم، الامر الذي جعل بعض الدول الاوربية، مثل:المانيا وايطاليا وحتى فرنسا التي كانت تريد حل الازمة سلميا، لهذا فان فصل الدونباس هو فصل قلب اوكرانيا عن جسدها، مما يجعلها منطقة ليس لها اهمية استراتيجية كما يريد حلف الناتو.2- تشترك اوكرانيا بحدود مع جمهورية مولدافيا احدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وهي تضم أقلية روسية تقدر بـ (30%) تقيم في إقليم ترانسنيستريا، والذي يتمتع بالاستقلال عن مولدافيا، له جيشه وشرطته وعملته ونظامه البريدي، ويطالب الاقليم بالانضمام إلى روسيا، لهذا فان سيطرة روسيا على منطقة شرق أوكرانيا، الهدف منها ايضا هو الوصول الى الإقليم، ومن ثم ضمه رسميا الى روسيا، وهو ما يجعل قواعد الناتو في دول شرق أوروبا، مثل: رومانيا وبلغاريا وهنغاريا تحت نيران الاسلحة الروسية.
3- إنَّ فصل الجمهوريتين وسيطرة روسيا لاحقا عليهما، كما حصل في جورجيا وفصل اوستيا وابخازيا عنها، وضمها الى روسيا، كذلك تدخلها في الازمة بين اذربيجان وارمينيا،سيقود حتما إلى خوف باقي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، والتي تضم في ثناياها اقليات روسية كبيرة تصل أحيانا إلى (23%) كما في كازاخستان، لهذا فان هذه السياسة الروسية ستجعل من دول الاتحاد السوفيتي السابق، اكثر دعما وانحيازا لروسيا الاتحادية، وعدم اقدامها على عقد اي تحالف من دول معادية لروسيا مستقبلا.
4- إنَّ النظام الدولي احادي القطبية، الذي تشكّل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، والذي مكّن حينها الولايات المتحدة من التفرد بالساحة الدولية واحتلال دول ذات سيادة،مثل: افغانستان والعراق تحت حجج متعددة، بدون الرجوعحتى لمجلس الامن والامم المتحدة. فإنَّ عام 2022 هو عام تعدد الاقطاب الدولية، وعودة روسيا وحليفتها الصين بقوة الى الساحة الدولية، فقد اخذت روسيا تتصرف الان كقوة عظمى، ولها الحق في الدفاع عن أمنها واستخدام القوة في ذلك كردع للدول المعادية لها، لهذا فهي اخذت في احتلال مناطق تعدّها جزءا منها، وتضم اقليات روسية تطلب حمايتها، كما في إقليم دونباس الأوكراني.
5- استثمرت روسيا عدم التوافق الحاصل بين دول حلف الناتو، فقد اعلنت عدد من دول الحلف انها لا تتدخل او تدعم اوكرانيا في اي حرب قد تنشب بينها وبين روسيا، بل ان بعض دول اوروبا الشرقية رفضت زيادة عدد القوات الامريكية على أراضيها، مثل: بلغاريا، كما أنّ اتصال الرئيس الروسي بالحكومة الالمانية والفرنسية، واعلامهم اعتراف روسيا باستقلال شرق اوكرانيا يعني ضمنا وجود موافقات او عدم اهتمام من هذه الدول بهذه المسألة، لا سيما ان الرئيس الفرنسي والمستشار الالماني قد زاروا روسيا وتباحثوا حول هذه الازمة، كما أنّ اغلب العقوبات التي هددت بها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية، سيكون لها أثر عكسي على هذه الدول في حال تطبيقها، يضاف الى ذلك ان التهديد برد عسكري ضد روسيا من قبل حلف الناتو، غير ممكن عمليا وقانونيا، لأنّ أوكرانيا ليستعضوا فيه، لهذا فان كل دول الحلف ومنها الولايات المتحدة،قد سحبت قواتها الموجودة في اوكرانيا مع ازدياد الازمة والخشية على الجنود هناك.
6- أخيرا، يعد العامل الاقتصادي ولا سيما الغاز الروسي مهما في هذه المنطقة، إذ تعتمد اوروبا في (60%) من وارادات احتياجاتها من الغاز على روسيا الاتحادية، ولا سيما ايصال الغاز عبر خط السيل الشمالي1، والسيل الشمالي2، والأخير يمر من روسيا ثم تحت بحر البلطيق الى ألمانيا، ومن ثَمَّ إلى باقي دول القارة، وإنّ المانيا تحصل على الغاز بسعر تفضيلي يقل كثيرا عن السوق العالمية، كما أنَّ اغلب الأراضي التي يمكن أن تمتد منها أنابيب الغاز إلى أوروبا، فهي أما تقع تحت سيطرة روسيا المباشرة او تحت نفوذها، كما في آسيا الوسطى والقوقاز وشرق المتوسط، لهذا فان دول القارة حتى وان نددت بالقرار وصرحت بفرض عقوبات، إلا ان ذلك لا يطبق كما حصل في أزمة القرم عام 2014.
على الرغم من كل الاسباب التي ذكرت آنفا حول الاعتراف الروسي باستقلال الجمهوريتين عن اوكرانيا، وان روسيا قد تتمكن لاحقا من ضمهما اليها، الا ان تداعيات ذلك قد لا تتوقف هنا، فقد تقود الى حدوث ازمات تكون لها تداعيات على المنطقة بشكل عام وروسيا بشكل خاص، ومنها:
1- على الرغم من الضجة التي اثيرت حول انضمام اوكرانيا الى حلف الناتو، وادعاء روسيا بان ذلك خطرا على أمنها القومي، فان تصريحات عدد من القادة الاوربيين لمحت إلى أن اوكرانيا لا يمكنها الانضمام إلى الحلف في المستقبل القريب، لأنها غير مستوفية لبعض الشروط، وان الرئيس الاوكراني ايضا صرح بانه يؤيد الحل السلمي، وانه مستعد للقاء الرئيس الروسي والعودة الى اتفاق مينسك، لهذا فان الاعتراف سيكون سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، وقد ينعكس على روسيا نفسها، وقيام الولايات المتحدة أو الدول الأوربية بالاعتراف بأجزاء منها كدول مستقلة، لا سيما انجمهورية الشيشان الروسية خاضت عدة مواجهات مع الجيش الروسي وتريد الانفصال، وقد تتخذ بعض الدول هذه الذريعة نفسها لغزو دول اخرى بحجة الانتماء القومي والديني، وهو ما يقود لحدوث أزمات في مناطق اخرى منالعالم .
2- حدوث مواجهات مباشرة بين الجيش الروسي والاوكراني حول المنطقة، لا سيما مع وجود دعم غير مباشر من دول حلف الناتو الى اوكرانيا، وهو ما تريده وروجت له الولايات المتحدة من ادخال روسيا في حرب مع اوكرانيا، وهو ما يقود الى ضرب استقرار المنطقة المحيطة بروسيا كلها، لاسيما ان اعتماد روسيا على حلفاء، مثل: بيلاروسيا هو حلف غير موثوق، في ظل الازمة السياسية التي تعانيها هذه الدولة.
3- قد تفقد روسيا دعم دول الاتحاد السوفيتي السابق لها بدلا من جعلهم حلفاء لها، إذ إنَّ طريقة روسيا في استغلال الاقليات الروسية في الوصول إلى أهدافها، سيثير الشكوك والخوف لدى هذه الدول، مما يقود الى حدوث مواجهات بين الاقلية الروسية وشعوب هذه الدول، او قيام حكومات هذه الدول بالطلب من دول اوربية او الولايات المتحدة لحمايتها، مما قد يفتح اكثر من جبهة على روسيا الاتحادية، ويضرب الاستقرار الامني لها.
4- العامل الاقتصادي سلاح ذو حدين، إنّ جل الموازنة الروسية يعتمد على مورد النفط والغاز، ولا سيما المصدر الى القارة الاوربية، وإنّ فرض مقاطعة من جانب هذه الدول، او وجود بديل للغاز الروسي من قطر او الولايات المتحدة، سوف يوجهضربة للاقتصاد الروسي، اذ اعلنت المانيا وقف تشغيل خط السيل الشمالي2، بعد الاعتراف الروسي مباشرة، كما أنّمحاولات الولايات المتحدة لم تنفك عن توفير بديل من الغاز لأوروبا.
خلاصة القول، إنَّ الصراع الأوكراني – الروسي يختلف عن سابقاته، إذ إنّ سيطرة روسيا على القرم عام 2014 هي عدّها اراضي روسية، لاسيما ان الزعيم السوفيتي (جوزيف ستالين) منحها الى اوكرانيا عام 1954، لهذا فان وضعها يختلف عن شرق اوكرانيا هذه الدولة التي تمتلك قوة عسكرية، وان كانت اقل من روسيا، إلا انها قد تكون مؤثرة فيها، كما أنّ هذه السياسة ستقود الى حدوث تمردات قومية في مناطق أخرى، وضم أجزاء من دول معينة لدول أخرى،بحجة الانتماء القومي، وقد تقود الى سياسة تسلح جديدة،ترهق كاهل دول العالم وقد تكون روسيا اولها.