م. حسين باسم
رئيس قسم الدراسات السياسية / مركز الدراسات الاستراتيجية
تموز 2022
قديما وعبر العصور، منذ أن كانت المجتمعات قبلية، جرت العادة في أن يتُم تقييم قرارات من يقود الجماعة وسلوكه من قبل وجهاء وشيوخ القبيلة أو القرية، ومن ثم تطورت هذه المجالس بشكل تدريجي وبطيء عبر الزمن إلى النظام البرلماني الحديث.
وتتمثل وظائف مجالس النواب والبرلمانات الحديثة ومهامها، في تشريع القوانين والرقابة على الأداء الحكومي،وتمثيل الشعب عند تشكيل الحكومة، وفقا لمبدأ الديمقراطية المتمثل بحكم الشعب بواسطة الشعب، وأنه -أي الشعب- مصدر السلطة والحكم.
يؤدي البرلمان مجموعة من المهام والوظائف، تتفاوت من دولة إلى أخرى في نطاقها، وفقا للنطاق الدستوري القائم وطريقة توزيع الوظائف الحكومية، وكذلك وفقا لدرجة التطور الديمقراطي، وكفاءة البرلمان وكفاءة أعضائه. بشكل عام، للبرلمان مستويين من الوظائف، الأول عام، حيث الوظائف التي يؤديها البرلمان كهيئة تُمثل الشعب في تقريرالسياسات العامة وخطط التنمية. والمستوى الثاني فني، حيث يتم سن التشريعات والقوانين اللازمة لتحقيق المستوى الأول، وممارسة الدور الرقابي لضمان التزام السلطة التنفيذية بتحقيق أهداف السياسات العامة وفقا للقانون والتشريعات.
تُظهر القراءة تاريخية تنوع الأسباب خلف نشوءالبرلمانات وتطورها في أجزاء مختلفة من العالم، إذ كانت هذه الأسباب دافعة لتشكيل الأساس لعمل ومهام البرلمانات، وهي تمثيل الشعب أو النيابة عنه، وبناء الدولة الحديثة، وحل الخلافات بين الأطياف والفئات الاجتماعية بشكل سلمي وعن طريق حكم الأغلبية، أو ما طرح مؤخرا في الأدب الديمقراطي المعاصر وعُرف بـالحكومة التوافقية.
وفي هذا الصدد يمتلك البرلمان وظيفة حساسة للغاية،ولاسيما في النظم السياسية البرلمانية– وليس الرئاسية- وهي مهمة ضبط إيقاع التنافس السلمي بين الفئاتالسياسية والاجتماعية المتنافسة على تشكيل حكومة ممثلة للشعب. فبدلا عن التنافس المسلح الذي يركُن إلى الاستقواء بقوة النار والسلاح من اجل الوصول للسلطة والحكم، تتنافس الفئات السياسية والاجتماعية سلميا في الوصول إلى قبّة البرلمان -في النظام البرلماني- من أجل الحصول على من يمثلها ويمثل طيفها أثناء تشكيل الحكومة. وفي صدد شرح هذه الوظيفة البرلمانية جرت العادة في تشكيل وولادة أما حكومة أغلبية سياسية أو حكومة توافقية من رحم البرلمان لتمثيل فئات وأطيافالشعب. إذ إنَّ عموم الشعب يكون ممثلا في الحكومة التوافقية بشكل شبه مباشر، ويستمر تمثيله أيضا في حكومة الأغلبية السياسة بسبب تعبيرها عن أغلبية الإرادة الشعبية. ومن ثم، فإن شرعية البرلمان في تمثيل الشعب تكون محفوظة عندما يتعلق الأمر بتشكيل الحكومة -سواء كانت حكومة أغلبية أم توافقية- واختيار الوزراء وأعضاء السلطة التنفيذية، في حين تُخدش أو تُثلب شرعية البرلمان في تمثيل عموم الشعب عندما لا يضم هذا البرلمان أو ذاك نوابا وممثلين عن هذه الفئة السياسية أو الاجتماعية، تنوبعنهم وتمثلهم في الوظائف والمهام البرلمانية.
إذ إنَّه عند عدم وجود مجموعة برلمانية في مجلس النواب تمثل هذا الطيف السياسي أو الاجتماعي، يؤثر هذا الأمر في شرعية البرلمان في تمثيله لأطياف الشعب كافة، وتُفرغ فكرة (البرلمان) من مضمونها ودورها في تنظيم عملية التنافس السلمي بين الفئات والأطياف الاجتماعية والسياسية داخل قبّة البرلمان -وفقا لقواعد تنظيمية خاصة تتفاوت من برلمان إلى آخر- إذ إنّ الطيف السياسي أو الاجتماعي الموجود خارج البرلمان، سوف يستمر بعملية التنافس ولكن ليس عن طريق القواعد التي وجد البرلمان لأجلها!! ووجد النظام الديمقراطي في سبيلها!!
وفيما يتعلّق بمجلس النواب (البرلمان) العراقي، فقد أشر انسحاب الكتلة الصدرية– الفائزة بأعلى المقاعد في الانتخابات النيابية التي جرت في 2021- من مجلس النواب، على وجود خلل في روح الديمقراطية في النظام الديمقراطي العراقي، ويتمثل هذا الخلل بجعل الطرف الفائز أسير إرادة الأطراف غير الفائزة، ومكبلا برغباتهم ومطالبهم الخاصة. وهو خلل بنيوي في بنية النظام الديمقراطي العراقي القائم على التوافقية منذ بدايته، يكاد يكون بذرة الفناء التي يحملها النظام بين طياته، ما لم تجرِمعالجته بشكل فعلي.
إنَّ غياب كتلة نيابية تمثل طيفًا سياسيًا من المجتمع -فضلا عن أنّها الكتلة الأكثر عددا- يثلُب هذا الغيابشرعية مجلس النواب الحالي، ويجرح مصداقيته في تمثيل عموم الشعب العراقي، ويقوض من أهليته في أداء مختلف وظائفه ومهامه، وأهمها إنتاج الحكومة التي لن تكون ممثلة لعموم الشعب. فضلا عن ذلك، فهو يُفرغ فكرة وجود البرلمان العراقي من مضمونها الفلسفي القائم على (تنظيم التنافس السلمي بين فئات المجتمع وأطيافه داخل قبة البرلمان العراقي).
ومن ثَمّ، على الأطراف المعنية أن تنظر بعين المصلحة الوطنية لا بعين المكاسب الآنية، وتتدارك خطورة هذا الأمر وعلاجه، وبعث الحياة في البرلمان بل وفي النظام السياسي الديمقراطي المشارف على تجرّع كأس الموت الزؤام، بسبب إخفاق البرلمان العراقي في التمكُن من أداء وظيفتيه المحوريتين المتمثلتين بـ: “تمثيل عموم أطياف الشعب“و“تنظيم ورعاية عملية التنافس السلمي بينهم“.
ونقترح هنا أن يتم علاج هذه المشكلة عن طريق مستويين:
يتمثل المستوى الأول بإعادة إجراء الانتخابات مجددا بوقت مبكر، في سبيل إنتاج قوى فائزة بشكل سليم، تتمتع بأهلية كاملة في تمثيل الشعب وتشكيل الحكومة القادمة، ويحافظ بذلك البرلمان العراقي على وظيفته الأساسية،المتمثلة بتنظيم التنافس السلمي بين مختلف فئات وأطياف الشعب الممثلين كافة تحت قبة البرلمان. وهو ما يُجنب البلادمن موجات احتجاجية عاصفة، ناتجة عن سخط جمهور الكتلة الفائزة والجماهير المتعاطفة معها، ضد بنية النظام التوافقي التي حرمتهم حقهم في تشكيل الحكومة.
في حين يتمثل المستوى الثاني بضرورة وأهمية إصلاح الخلل البنيوي، الذي أشر عليه انسحاب الكتلة الصدرية -الفائزة بأكثرية المقاعد النيابية– والمقصود هنا هو ضرورة وأولوية عدم تكبيل وأسر الطرف الفائز– أيا كان مستقبلاسواء كان الكتلة الصدرية أم غيرها– في الانتخابات بإرادة ورغبة الأطراف غير الفائزة، وإلّا لا توجد ضرورة للانتخابات من الأساس.