ميثاق مناحي العيسى
قسم الدراسات السياسية
شباط/ فبراير 2023
أنهى مجلس النواب العراقي القراءة الأولى لتعديل قانون الانتخابات، الذي ستجري بموجبه انتخابات مجالس المحافظات، المزمع اجراؤها نهاية العام الحالي، فضلاً عن الانتخابات التشريعية التي من الممكن أن تجري بموجب القانون ذاته، كما تطالب وتريد بعض القوى السياسية. فقد أجريت انتخابات مجالس المحافظات لعام 2013 في (12) محافظة فقط من أصل (18) محافظة، وتم استبعاد محافظات إقليم كردستان وكركوك؛ بسبب الخلافات السياسية “التي ما تزال قائمة لحد الآن”، واستبعدت نينوى والأنبار لأسباب أمنية إبَّان سيطرة تنظيم “داعش” على بعض المحافظات الغربية. أنهت تلك المجالس عملها بعد الاحتجاجات الشعبية العراقية التي اجتاحت وسط العراق وجنوبه، منددة بدور مجالس المحافظات كحلقة من حلقات الفساد، التي “استفادت منها القوى السياسية في منظومة النظام السياسي العراقي لترسيخ هيمنتها السياسية”، والمطالبة بتعديل دستوري من أجل استئصال هذه الحلقة، والذهاب إلى تعديلات دستورية أكثر انتاجاً وتحقيقاً لمصلحة البلد والشعب. هذه الرغبة تحققت بتغيير قانون الانتخابات القائم آنذاك إلى قانون الدوائر المتعددة، وتغيير مفوضية الانتخابات، بدعم معلن من قبل المرجعية الدينية في النجف الأشرف، التي طالبت بشكل صريح في خطب الجمعة، وعلى لسان ممثليها الشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيد أحمد الصافي، بتشريع قانون انتخابي عادل ومنصف، يضمن حق القوى السياسية الكبيرة والصغيرة، ويسمح للمرشحين المستقلين للوصول إلى قبة البرلمان. إذ تفضل الأحزاب العراقية الناشئة، التي انبثقت من احتجاجات تشرين 2019 والشخصيات المستقلة، الترشح المنفرد (الدوائر الانتخابية المتعددة على مستوى المحافظة)، كاستراتيجية انتخابية للوصول إلى السلطة أو السلطة التشريعية، فيما تفضل الأحزاب التقليدية الدائرة الانتخابية الأوسع (باعتبار المحافظة دائرة انتخابية واحدة)، بدلاً عن الدوائر الانتخابية المتعددة الصغيرة لاعتبارات مختلفة، منها: طريقة تحديد الدوائر التي بنيت في السابق على اعتبارات ومصالح حزبية، فضلاً عن بعض الأمور الديموغرافية التي تتعلق بالمذهبية والقومية، وبالرغم من ذلك، قد لا تتعارض مصالح الأحزاب كثيراً، مع اعتماد دوائر متعددة في الانتخابات، إذ لا تشكل التعددية مشكلة معقدة لديها، ويميل التيار الصدري لنظام التعددية في الدوائر الانتخابية، وربما يعد من أشد المعارضين للتعديل، الذي تجريه قوى الإطار التنسيقي، بمعية القوى السياسية السنية والكردية، ولاسيما إنّ التيار الصدري دائماً ما يتمتع بتنظيم واستعداد عاليين في كل الانتخابات؛ وهذا ربما يعود إلى القيادة المركزية التي يتمتع بها التيار قياساً بالقوى السياسية الأخرى، فقد استطاع التيار الصدري اقتناص مقاعد في دوائر انتخابية لا تضم قاعدة للصدريين فيها، مثل: دائرة الأعظمية ودائرة المنصور، وتعمل منهجية الماكنة الانتخابية الصدرية بالأساس على تقسيم الدائرة الانتخابية إلى مناطق محددة، وتجري استراتيجيتها الانتخابية بالأصل على تكوين دوائر انتخابية متعددة؛ لذلك تمثل الدوائر المتعددة الخيار الأفضل للصدريين، قياسًا بالقوانين الانتخابية الأخرى التي اجريت بموجبها كل الدورات الانتخابية السابقة، على الرغم من أنَّ الصدريين دائماً ما يتصدرون المشهد الانتخابي في كل انتخابات. أما مصلحة الأحزاب الناشئة، ربما يختلف أو يتفق معها بعض المتابعين والمتخصصين، نعم، إنَّها تدعم الدوائر الانتخابية المتعددة، كالقانون الانتخابي الحالي الذي اجريت بموجبه الانتخابات التشريعية عام 2021، وضمن لها وصولًا سياسيًا إلى السلطة التشريعية “لا بأس فيه”، إلا إنَّ مصلحتها الانتخابية قد تكمن في الدوائر الانتخابية الأكثر اتساعاً (على مستوى المحافظة)، وذلك لسبب بسيط يتعلق بنوعية وتوزيع القواعد الانتخابية، المؤيدة والمناصرة لمطالب احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول)، التي تنتشر وتتسع على مستوى المحافظة، وتضيق على مستوى الدوائر الانتخابية الصغيرة.
ربما يكمن وجه الاعتراض الأساسي حول قانون الانتخابات الأخير الذي جرت بموجبه انتخابات مجلس النواب 2021، هو التغيير الحاصل بطبيعة التعامل مع الأصوات، وعدم قدرتها على التحول، الذي يعني احتساب الصوت الحاصل عليه المرشح غير الفائز بالانتخابات لمصلحة قائمته، ومن ثمَّ يمكن عدَّه صوتًا صحيحًا قد يجري معاملته باحتساب المقاعد الفائزة، على الرغم من أنَّ النظم الانتخابية والديمقراطية الحديثة والمتطورة تتعامل مع الصوت الانتخابي، كصوت انتخابي صحيح ممنوح للشخص وليس للقائمة، وهو ما يميل إلى واقعية التمثيل الحقيقي لصوت الناخب، بعيدًا عن طريقة الاحتيال الانتخابي التي جرت في الانتخابات العراقية السابقة كلها، وقد مثلت بطبيعتها اجهاضًا لترسيخ العملية الديمقراطية والتمثيل الحقيقي، ومكنت القوى السياسية التقليدية من ترسيخ هيمنتها على كل مفاصل الدولة العراقية، وفي جميع مفاصل السلطات العراقية، التي تقاسمتها القوى السياسية على أساس طائفي – حزبي.
إنَّ تشريع قانون انتخابي جديد ضد الرغبة الشعبية وإرادة المحتجين والقوى الناشئة من احتجاجات تشرين، فضلاً عن رغبة المرجعية الدينية، التي دعمت “بشكل واضح” تشريع قانون انتخابي منصف وعادل، وفي ظل غياب التيار الصدري من المشهد السياسي والسلطة التشريعية، الذي يكاد يكون التيار الوحيد من القوى السياسية الشيعية التي دعمت القانون الانتخابي الحالي وأسهمت في تشريعه، تحدٍ كبير لكل تلك الاطراف؛ الأمر الذي من شأنه أن يضع البلد أمام مشهد جديد من الاحتجاجات الشعبية، ربما تجتمع فيها كل الاطراف المتضررة من هذا التشريع، فضلاً عن ذلك، فإنَّ تشريع هكذا قانون، قد تعامله شرائح عراقية واسعة، على أنَّه عامل اجهاض للعملية الديمقراطية، وتقويض للتعددية السياسية التي نص عليها الدستور العراقي، وكل السنن الوضعية والطبيعية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى اتساع دائرة المعارضة السياسية والشعبية، للنظام السياسي والعملية السياسية والديمقراطية بشكل عام، ولاسيما أن التعديل الجديد سيسمح للأحزاب السياسية المهيمنة، بتوسيع نفوذها على مستوى المحافظات، ضد القوى المستقلة المشكلة حديثًا، كما أنَّ الجزء الأكثر إثارة للجدل في التعديل الجديد، هو اعتماد طريقة (سانت ليغو) لتوزيع المقاعد بين الأحزاب السياسية، على أساس نظام التمثيل النسبي لقائمة الحزب، وليس على أساس المرشحين، وهذا يمثل ضربة كبيرة لكل الحركات السياسية الناشئة.
بالمجمل، يبدو لنا بأنَّ العودة إلى قانون سانت ليغو الانتخابي، في ظل الظروف المحلية الحالية، ولاسيما ما يتعلق بالاعتزال السياسي للتيار الصدري والمرجعية الدينية، والانقلاب السياسي على ما تحقق من نتائج لحركة احتجاجات تشرين، فضلاً عن الاقصاء السياسي الذي تعرض له بعض المستقلين ونواب الحركات الناشئة، من بعض اللجان النيابية والمناصب الأخرى، وفي ظل الظروف الاقتصادية الحالية وأزمة سعر صرف الدولار أمام الدينار العراقي، قد يفسره بعض المحللين على أنَّه تعجيل وتسريع للاحتجاجات الشعبية، وتعميق للخلاف الشيعي – الشيعي، وإقصاء سياسي للحركات السياسية الناشئة؛ الأمر الذي من شأنه أن يضعف من شرعية وبنية النظام السياسي الحالي أكثر من ذي قبل، ويقوض من مقبوليته المجتمعية بشكل واسع، ويزيد من دائرة المعارضة الشعبية والسياسية، ولاسيما في ظل الهزات الكبيرة التي تعرض لها النظام السياسي العراقي طوال الـ(20) سنة الماضية، فضلاً عن التصدعات السياسية والاقتصادية والأمنية والمجتمعية، التي اصابت بنية النظام السياسي الحالي؛ لهذا من الممكن أن تمضي القوى السياسية على قانون انتخابي أقل جدلاً، أو الابقاء على القانون الانتخابي الحالي، الذي يضمن للجميع حق التمثيل السياسي بشكل عادل، كحل سياسي توافقي يرضي الجميع.